في أعقاب انكفاء الإمبراطوريات الرافدية والشرقية وتوغل المد اليوناني في قلب آسيا، وتفتته إلى دويلات هلنستية، نشأت في شمال الجزيرة العربية وفي الهلال الخصيب ممالك وإمارات عربية اضطلعت بدور سياسي وعسكري واقتصادي بالغ الأهمية أحياناً، ومنها مملكة الأنباط. وأصل الأنباط عربي ثابت يجمع عليه الباحثون تقريباً واللغة العربية التي تظهر في كتاباتهم بالآرامية، وأسماء أعلامهم (الحارث وعبادة ومالك…)، وأسماء آلهتهم (ذو الشرى واللات والعزى ومناه وهبل…) وبدليل ما ورد عنهم في المصادر اليونانية واللاتينية. ويرى بعض المؤرخين أنهم قدموا من جنوب الجزيرة العربية واستقروا زمناً في الحجاز. ويرى آخرون أنهم حجازيون أصلاً حلوا على الأيدوميين* في موطنهم، وأخذوا اللغة الآرامية* عنهم. وأسسوا مملكة هامة. أما ما يرد في المصادر العربية الإسلامية من كلمات “الأنباط، والنبط، والنبيط” فلا يدل على هؤلاء الأنباط، بل يدل على السكان المحليين العاملين في الزراعة ولا سيما فلاحي سواد العراق.
ويرجع أن الأنباط قدموا في القرن السادس قبل الميلاد وإن كان وجودهم التاريخي الواضح الهام يراوح بين القرنين الرابع قبل الميلاد والثاني بعده. وقد تركزت مملكتهم في البلاد التي كانت تعرف في المصادر التاريخية القديمة باسم “العربية الصخرية ِarabia Peraea” مع امتداد نحو الحجاز والبحر الأحمر والبحر المتوسط والشام وبادية الشام حتى الفرات. وكانت جبال الشراة (في شرقي الأردن) العمود الفقري لأرضهم، فيها أعظم حواضرهم وهي البتراء.
اتصف الأنباط بالمتعة وحب الحرية والغزو والصبر على الجوع والعطش، ويذكر المؤرخون لم يخضعوا لأحد، ولم ينجح أحد في السيطرة عليهم. واعتمد اقتصادهم على تجارة القوافل وتجارة البحر، وسيطروا على طرق التجارة العالمية مستفيدين من موقعهم الممتاز التي تتلاقى عنده أهم طرق القوافل… وقد نظم الأنباط شؤون القوافل الخاصة بهم والعابرة بأراضيهم، وأمنوا حمايتها، ووضعوا المكوس على العبور وعلى البيع والشراء، وبنوا لأنفسهم مملكة قوية غنية في القرن الثاني قبل الميلاد معتمدين على تجارتهم الغنية وعاصمتهم المنيعة.
كانت علاقة الأنباط السياسية بالبطالة* والسلوقيين* ثم بالرومان، وصراعهم مع اليهود الأشمونيين المكابيين في فلسطين مبنيين في أكثر الحالات على أساس الرغبة في تأمين السير الطبيعي المأمون لتجارتهم الناجحة. وكانت معظم حروبهم موجهة لهذه الغاية.
ويقسم تاريخ الأنباط السياسي والاقتصادي إلى فترتين أساسيتين:
1) الفترة الهلنستية: وتبدأ من أيام البطالمة والسلوقيين وتنتهي في عام 64 ق.م. الذي تم فيه للرومان احتلال جنوب سورية. وقد أخفق البطالة ثم السلوقيون في إخضاع المملكة النبطية. ومن ملوك الأنباط في هذه الفترة الحارث الأول والحارث الثاني وعبادة الأول والحارث الثالث. وقد اصطدم الأنباط باليهود المكابيين الذين هددوا مصالحهم الاقتصادية لما استولوا على ميناء غزة*. وقد هزم ملكهم عبادة الأول عام 93 ق.م. الملك اليهودي إسكندر جانوس عند مدينة جدرة (أم قيس فوق الحمة*)، كما هزم عبادة السلوقيين بقيادة أنطيوخوس الثاني عشر في النقب* عام 85 ق.م. وقد بلغت دولة الأنباط درجة عالية من القوة حتى ضمت دمشق إليها في عهد الملك الحارث الثالث الذي سير أيضاً جيشاً جراراً إلى القدس* يحاصرها.
2) الفترة الرومانية: استطاع الرومان في بداية هذه الفترة أن يهزموا الأنباط ويدفعوهم إلى ترك حصار القدس، وقد دار النزاع في هذه المرحلة بين الأنباط وهيرود الذي نصبه الرومان ملكاً على اليهود (وهو غير يهودي) وهيرود انتبياس الذي خلفه. ومن أبرز ملوك هذه الفترة الحارث الرابع (8 ق.م. – 40 ب.م.) الذي يعد عهده أطول العهود وأزهاها. وقد ظل الرومان يهددون مصالح الأنباط الاقتصادية ووجودهم السياسي إلى أن ألحق الإمبراطور تراجان مملكة الأنباط بولاية سورية وأسس ولاية جديدة باسم الولاية العربية في 22/3/106م عاصمتها بصرى، وضمت الأنباط مضافاً إليها حلف المدن العشر* (ديكابوليس).
ظلت حضارة الأنباط مستمرة بعد نهايتهم السياسية، ولكن بمظهر روماني. وقد تمسك قسم من الأنباط بديانتهم القديمة زمناً بعد انتشار المسيحية*. وفي القرن الرابع الميلادي قويت المسيحية بينهم وأصبح للبترا أسقف اشترك في مجمع نيقيا عام 325م.
تروي المصادر شيئاً عن تنظيم الدولة النبطية، فالملك رأس الدولة تشاركه زوجته أو أخته أو أمه. وله حاشية بمنزلة الوزراء المستشارين، وهناك مجلس الشعب يقدم له الملك حساباً عن عمله. وكان للنساء منزلة رفيعة لدى الأنباط. وكان التآزر سائداً مجتمعهم. وقد عبدوا، كالعرب قبل الإسلام، أربابا ترمز إلى عناصر الطبيعة وإلى بعض القيم التي يتعلق بها الناس كالشجاعة والعدالة. وكانوا يمثلونها تمثيلا رمزياً إلى أن قوي عندهم تأثير الديانات اليونانية – الرومانية فنزعوا إلى التشخيص وتقريب النصب من الأشكال البشرية. ومن أربابهم ذو الشرى (منسوب إلى جبال الشراة) والعزى واللات ومناة .
والفن النبطي فن محلي متأثر بفن جنوب الجزيرة العربية والرافدين. وقد طبع بطابع هلنستي. وتجلى أكثر ما تجلى في العمارة*، ولا سيما عمارة المدافن. وقد تركز معظم فن العمارة في العاصمة البترا، وتجلى بنحت الصخر الرملي الجميل وإنشاء الأوابد في أعماقه أو على ذراه. وبرز تحت الواجهات المعمارية الزخرفية الرشيقة للمدافن. وقد أبدع فن العمارة النبطي طرزاً جديدة من تيجان الأعمدة فيه اختزال وجمال.
أما النحت النبطي فهو أقل طرافة وأهمية، وظهر في منحوتاتهم مزج الفن الإغريقي والتقاليد المحلية. وقد مالوا إلى النقش البارز أكثر من ميلهم إلى التماثيل.
وكان إبداع الأنباط أعظم في ميدان صناعة الفخار*، فقد تركوا إلى جانب الفحار العادي فخاراً رقيقاً ناعماً جيد الشي ذا لون وردي أو طحيني، مزخرفاً بلون زهري أو حمري أو قاتم. واستخدموا في زخرفهم أشكالاً نباتية، ثم أكثروا في طور متأخر من عناصر زخرفية هندسية في داخلها طلاء أبيض.
كان أول من زار البترا وكشف موقعها بروكهارت عام 1812م ، ثم تلاه عدد من الرحالة والعلماء. وكثر المستكشفون الألمان في مطالع القرن العشرين. وأشهرهم فيغاند Th.Weigand الذي قام بدراسة هندسية عن البترا خلال الحرب العالمية الأولى. وتعود أعمال التنقيب الأولى إلى عام 1929. ثم قامت مديرية الآثار الأردنية منذ عام 1954 بأعمال التنقيب والترميم المختلفة بمشاركة البعثات الأثرية الأجنبية أو باتفاق مع منظمة اليونسكو. ومن المواقع النبطية التي تلي البترا أهمية من الناحية الأثرية: الجحر، أو مدائن صالح، وراحة العلا، وراحة الجوف، أو دومة الجندل، ومأدبا وسيع.
المراجع:
– جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، بيروت، 1969.
– Contineau, J.: Le Nabateen, Paris 1930 – 1932.
– Dalman, G.: Petra und seine Felsheligrumer, Leipzig 1908.
– Hammond, Ph: The Nabataens, Their History, Culture and Archaelogy, Lund 1973.
– Kammerer, A : Petra et la Nabatene Paris 1929.
– Linder, M.: Petra und das Konigreich der Nabataer, Bad Windsiheim 1974.
– Musil, A.: Arabia Petraea, Wien 1907.
– Musil, A. : The Northern Hegaz, New York 1926.
– Shippan, I. Sh.: The Nabataen State and its culture (in Russian), Moscow 1976.
– Weigand, Th.: Petra, Berlin 1921.