صلاح الدين الأيوبي الملك الناصر أبو المظفر. وأصله من الأكراد من شرقي أذربيجان، وقد نزلوا بتكريت وفيها ولد صلاح الدين. ولي أبوه أعمالا في بغداد والموصل ودمشق. ونشأ صلاح الدين في دمشق ودخل مع أبيه وعمه شيركوه في خدمة نور الدين محمود بن زنكي* صاحب دمشق وحلب والموصل.
اشترك صلاح الدين مع عمه شيركوه في حملة وجهها نور الدين للاستيلاء على مصر سنة 559هـ فظهرت فيها مزايا صلاح الدين العسكرية. ولما تم لشيركوه الظفر استوزره الخليفة الفاطمي العاضد. ولكن شيركوه ما لبث أن مات فاختار العاضد* صلاح الدين للوزارة وقيادة الجيش، ولقبه بالملك الناصر. وهاجم الفرنجة* دمياط فصدهم صلاح الدين.ثم استق بحكم مصر مع الاعتراف بسيادة نور الدين زنكي. ولما مرض العاضد مرض الموت قطع صلاح الدين خطبته وخطب للعباسيين فانتهى بذلك أمر الفاطميين*. ثم مات نور الدين سنة 569هـ فاضطرت البلاد الشامية والجزيرة ودعي صلاح الدين لضبطها فأقبل على دمشق سنة 570هـ/1174م فاستقبلته بحفاوة. وانصرف إلى ما وراءها وترك حلب للملك الصالح اسماعيل بن نور الدين.
كان صلاح الدين الأيوبي رجل سياسة وحرب. وقد وجه همه إلى اصلاح أمور مصر والشام الداخلية، كما وقف حياته على محاربة الصليبيين ودفع غاراتهم ومهاجمة حصوبهم وقلاعهم في بلاد الشام. وقد ارتبط اسمه في التاريخ بحركة الجهاد الضخمة لتحرير الأرض المقدسة، غدا رمزا للفروسية. وجاءت شجاعته داخل اطار من كريم الأخلاق فاشتهر بالتسامح مع أعدائه والعفو عند المقدرة واحترام العهود والمواثيق.
وقد بدأ لتحقيق هذه الغاية بتوحيد الجبهة الاسلامية في مصر والشام التي تعرضت للتمزق عقب وفاة نور الدين زنكي. ثم انصرف إلى الفرنج حتى أنزل بهم ضربته القاصمة في معركة حطين* سنة 583هـ/1187م.
ونجح في تحرير بيت المقدس وكثير من المدن والثغور والقلاع إلى فلسطين وبلاد الشام. وقد كان ذلك كله بداية تغير كبير نقل المسلمين من الدفاع إلى الهجوم وحول الفرنجة من الهجوم إلى الدفاع. على أنه يلاحظ أن علاقة صلاح الدين بالصليبيين لم تستمر في شكل حروب متصلة بل تخللتها مدن كان لا بد منها ليستريح الجند من طول القتال وتتاح لكل طرف فرصة يلتقط فيها أنفاسه ويعيد تنظيم أموره. وكانت هذه المدن تعقد لمدد محدودة ينص عليها، ولكن معظمها لم يظل سنويا ساريا طوال المدة المحددة له بسبب نكث بعض أمراء الصليبيين بعهودهم. ويلاحظ كذلك أن أيا منها لم تشتمل على قوى الصليبيين في بلاد الشام في وقت واحد، بل كانت تعقد الهدنة مع بعض القوى دون بعضها الآخر حسب الظروف. ومن ذلك أن الملك الصليبي بغدوين الرابع أسرع إلى طلب الهدنة لسوء ظروفه وكثرة خسائره عندما خرج صلاح الدين من مصر سنة 574هـ/1178م ليكمل عدة ضربات قوية للفرنج في فلسطين. واستجاب له صلاح الدين سنة 576هـ/1180م، ولكن الهدنة التي عقدت في هذه السنة كانت مع مملكة بيت المقدس الصليبية وحدها، الأمر الذي جعل يد صلاح الدين طليقة في ضرب بقية القوى الصليبية في شمال الشام. ولا سيما امارة طرابلس التي أسرع أميرها إلى طلب الهدنة مشابهة (رَ: القدس، مملكة – اللاتينية).
على أن الفارس الصليبي أرباط صاحب حصن الكرك لم يشأ لحماقته أن يترك الفرنجة في بيت المقدس ينعمون بقدر من الهدوء فاستغل موقع حصته الاستراتيجي شرقي البحر الميت* على مفترق الطرق بين مصر وفلسطين والحجاز لينقض الهدن التي كانت تعقد بين صلاح الدين والصليبيين مرة بعد أخرى، تارة بالاغارة على تيماء – قرب منتصف الطريق بين الأردن والمدينة المنورة – وأخرى بالخروج في سفن من أيلة في محاولة لهدم الحرم النبوي الشريف، وثالثة بالتربص للقوافل الاسلامية المتمثلة بين مصر والشام والحجاز للفتك بها وأسر رجالها وصلب أموالها،حتى نفد صبر صلاح الدين فقام باستنفار قواته وتعبئتها وأنزل ضربته الشهيرة بالصليبيين في حطين. ولم تهدأ له ثائرة الا بعد أن استرد للمسلمين قدسهم الشريف فضلا عن معظم الموانىء والمعاقل التي كان العدو قد سلبها من أرض فلسطين.
أما في الحالات التي كان الهدوء يسود فيها أرض فلسطين نتيجة لعدم حدوث ما يعكر جو المدن بين صلاح الدين والصليبيين فان النشاط التجاري كان لا يلبث أن يزدهر في جو من العلاقات الهادئة بين الطرفين. وقد ذكر الرحالة المغربي ابن جبير في رحلته أمه”من أعجب ما يحدث به في ألدنيا أن قوافل المسلمين تخرج إلى بلاد الفرنج وسبيهم يدخل بلاد المسلمين”. ثم أوضح أنه غادر دمشق سنة 580هـ/1184م في قافلة اسلامية التجارة متجهة إلى مدينة عكا” وهي قاعدة مدن الفرنج بالشام” وفيها حلت في حال معد خصيصا لنزول القوافل الاسلامية..
وقد انتهت سلسلة الحروب الطويلة بين صلاح الدين والصليبيين على أرض فلسطين بصلح الرملة* سنة 588هـ/1192م بعد أن “خربت البلاد، وكلف المتحاربين الأموال والأرواح”.
على أن مرونة صلاح الدين السياسية لم تظهر فقط في اقدامه على عقد هدن مع الصليبيين بين حين وآخر بل ظهرت أيضا في جهوده لتطويق خصومه سياسية وعسكرية واثارة الفرقة بين صفوفهم. ومن ذلك ما يرويه المؤرخين ابن الأثير وأبو شامة من أن الأميرة سبيل زوجة برهيموندد الثالث أمير أنطاكية كانت تتصل بصلاح الدين سرا وتخبره بتحركات جيوش الصليبيين وتطلعه على أسرارهم، حتى انها كشفت له النقاب عن كثير من عوارتهم ومواطن الضعف فيهم. وكان صلاح الدين “يكرمها لذلك ويهدي اليها أنفس الهدايا”. وقبل أن يخوض غمار معركة حطين استطاع بأساليبه السياسية أن يوسع شقة الخلاف في صفوف الصليبيين حتى ان ريموند الثالث أمير طرابلس “راسل صلاح الدين وانتمى اليه” وطلب مساعدته على ملك الصليبيين في بيت المقدس. وفي الوقت الذي كان صلاح الدين يعبىء قواته استعدادا لاسترجاع القدس الشريف أرسل إلى رجاله بحلب يأمرهم بمصالحة بوهيموند الثالث أمير أنطاكية “ليتفرغ البال مع العدو في جانب واحد”. وجاء هذا التحرك السياسي مصحوبا بنشاط “العيون والجواسيس” الذين دأب صلاح الدين على ارسالهم إلى مراكز الصليبيين للوقوف على أخبارهم.
ومن ناحية أخرى استغل صلاح الدين الكراهية التي دبت بين الصليبيين في الشام من ناحية والروم – أو البيزنطيين – من ناحية أخرى بسبب الخلافات المذهبية وغيرها فاتصل بدولة الروم في القسطنطينية ليحرم الصليبيين في فلسطين من مساعدة أقرب قوة مسيحية كبيرة. وقد بدأت هذه الاتصالات بين صلاح الدين والروم في وقت مبكر أيام انشغاله بتوحيد الجبهة الاسلامية، ونتج عن ذلك أن أرسل الامبراطور مبعوثا إلى القاهرة سنة577هـ/1181م، وانتهى الأمر بعقد صلح بين الطرفين في السنة التالية.وبذلك أمن صلاح الدين جانب الروم وضمن عدم اشتراكهم مع الصليبيين في أي عمل يوجه ضد المسلمين. وأدرك صلاح الدين مدى الكراهية بين المسيحيين الشرقيين والغربيين، أو بين الأرثوذكس والكاثوليك.
ولذلك ما كان يستولي على القدس الشريف سنة 583هـ/1187م حتى سلم الأماكن المسيحية المقدسة إلى رجال الدين الأرثوذكس بعد أن تم طرد الصليبيين الكاثوليك منها، بل انه بادر عقب فتح بيت المقدس إلى ارسال سفير إلى اسحق الثاني انجيلوس امبراطور دولة الروم في القسطنطينية ليخبره بما تم على يديه من الفتوح ويسلمه مائة وتسعين من رعايا الامبراطورية البيزنطية كانوا قد وقعوا أسرى في بدء أثناء حروبه مع الصليبيين في فلسطين. فرد الامبراطور على صلاح الدين مهنئا راجيا منه وضع كنيسة القيامة* وغيرها من الكنائس المسيحية باشراف رجال الدين الأرثوذكس الذين تعينهم حكومة القسطنطينية. وطلب امبراطور الروم كذلك من صلاح الدين عقد محالفة في وجه الفرنجة في فلسطين. ويقول القاضي بهاء الدين بن شداد ان رسالة الامبراطور إلى صلاح الدين اشتملت على عدة مطالب “منها صلب الصلوات، ومنها أن تكون (كنيسة) القيامة بأيدي قساوسة من جانبه، وكذلك سائر كنائس القدس. ومنها أن يوقع الاتفاق معه على أن يكون عدو من عاداه، وصديق من صادفه”. ولكن صلاح الدين رفض طلبات امبراطور الروم “وأجيب بالمنع عن جميع مقترحاته” بمعنى أنه أصر على أن تكون سيطرة المسلمين على بيت المقدس كاملة.
وبرغم ذلك لم يقطع صلاح الدين الاتصالات الدبلوماسية مع امبراطورية الروم في القسطنطينية رغبة منه في احكام تطويق الصليبيين في فلسطين. وقد أشار المؤرخون المسلمون والمسيحيون إلى السفارات المتبادلة في تلك المرحلة بين صلاح الدين وامبراطور الروم. ومن ذلك ما ذكره أبو شامة من أنه “كان بين السلطان (صلاح الدين) وبين ملك القسطنطينية مراسلة ومكاتبة….”.
وقد امتدت هذه الجهود التي بذلها صلاح الدين لطريق الصليبيين في الشام سياسية وعسكرية إلى محاولة الاستعانة بالقرى الاسلامية في المغرب. ومن ذلك أنه أرسل سفيرا إلى دولة الموحدين في المغرب لطلب المساعدة من أبي يوسف يعقوب بن عبد المؤمن. على أن صلاح الدين رأى ألا يقف دور ملك المغرب عند تقديم المساعدة بل طلب منه أن “يقطع عن الصليبيين مادتهم من جهة البحر”، أي أن يساعده في فرض حصار بحري عليهم يضمن تطويقهم وقطع الشريان الذي يمدهم بالمؤن والامدادات من غرب أوروبا.
وهكذا تبدو منظمة صلاح الدين لا في مقدرته العسكرية وبطولته وشجاعته وصدق ايمانه رسالته فحسب بل في مهارته السياسية تجاه الفرنج وغير الفرنج من القرى المحاصرة له أيضا.
المراجع:
- أبو شامة: كتاب الروضتين في أخبار الدولتين، القاهرة 1287هـ.
- ابن واصل: مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، القاهرة 1965.
- عماد الدين الكتاب: النفح القسبي في الفتح القدسي، القاهرة 1327هـ.
- ستيفن رنسيمان: تاريخ الحروب الصليبية (مترجم)، بيروت 1967-1969.
- ابن شداد: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، القاهرة 1317هـ.
- سعيد عبد الفتاح عاشور: الحركة الصليبية، القاهرة 1963.
- سعيد عبد الفتاح عاشور: الناصر صلاح الدين، القاهرة 1965.