يتفق الباحثون اليوم على تسمية البقعة التي كانت تقوم عليها مدينة مريسة القديمة باسم “تل صند حنة” الذي يقع على بعد 2 كم إلى الجنوب من بلدة بيت جبرين* و30 كم إلى الشرق والجنوب الشرقي من بلدة عسقلان. وتعني كلمة عربية قمة الأكمة، أو مكان القمة. وأما صند حتة فتعني القديسة آنا (سنتا آنا).
يبدو أن الكنعانيين هم أول من سكن هذه البقعة في حوالي منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد. فقد أكدت التنقيبات الأثرية التي قام بها كل من مكاليستر وبلسBliss عام 1900 بتمويل من صندوق استكشاف فلسطين أن المدينة سكنت منذ العصر البرونزي القديم. وتذكر التوراة* أن مدينة المريسة كانت احدى المدن المحصنة حتى عام 900 ق.م. فقد ورد ذكرها في الحملة التي قام بها زارح Zareh الأثيوبي على المنطقة الجنوبية من فلسطين حتى وصل إلى المريسة فصد في موقعة حاسمة جرت في وادي صفاته حسب المصادر الكتابية التوراتية. وأصبحت مريسة وغيرها من المدن الجنوبية بعد خراب الهيكل الأول مدنا آدومية (رَ: الايدوميون).
ازدهرت المريسة في العصر الهلنستي* وكانت المدينة الرئيسة في المنطقة الجنوبية الغربية من فلسطين. وقد أظهرت التنقيبات التي أشير إليها سابقاً مدينة هلنستية كاملة بشوارعها ومساكنها أقيمت وفق قواعد هلنستية، كما اكتسفت كميات كبيرة من الفخار الهلنستي الذي يعد أغنى وأجمل فخار عرف بفلسطين من هذه الفترة (القرن الثاني قبل الميلاد) وثلاثة نصوص كتابية قام بترجمتها كليرمون غانو. فأما النص الأول فمنقوش على قاعدة اسطوانية الشكل ومكرس لملكة مصر أرسوي الثانية زوجة بطليموس الرابع فيلو باتر (221-203 ق.م.). وأما النص الثاني فمحفور على كسرة من الحجر الجيري، وهو عبارة عن اسم فقط من الأسماء الملكية البطليمية. وأما النص الثالث فقد حفر على قاعدة تمثال نسر ضخم كرس للرب أبولو. وربما كانت لهذه النصوص الثلاثة علاقة بالغزوة الناجحة التي قام بها بطليموس الرابع في فلسطين بعد موقعة رفح عام 217 ق.م. وانتصر فيها على السلوقين*. وعثر الى جانب ذلك كله على ست عشرة دمية آدمية من الرصاص ومجموعة من النقود السلوقية البطليمية. ومما ساعد على ازدهار المدينة ونموها في هذا العهد (الهلنيستي) وجعلها أهم مدن المنطقة استيطان جالية صيداوية فيها مارست التجارة* بين الأناضول ومصر وجزر البحر المتوسط والجزيرة العربية.
في عام 110 أو 115 ق.م. تمكن المكابيون من الاستيلاء على مدينة المريسة وأجبروا جميع سكانها على التهود بحد السيف وبقيت في أيديهم حتى احتلال الرومان لفلسطين. وفي عام 40 ق.م. سلم الرومان المدينة إلى هيرود بصفته حاكما رومانيا محليا. وفي العام نفسه دمر البارثيون الفرس مدينة مريسة المحصنة تدميراً كاملاً انتقلت على أثره زعامة المنطقة إلى بيت جبرين. وأقيمت في العهد البيزنطي على الموقع كنيسة عرفت باسم كنيسة القديسة آنا. وقد تعرضت هذه الكنيسة للتبديل والتعديل ابان الحرب مع الافرنج.
من المكتشفات الأثرية الهامة التي عثر عليها بالقرب من مريسة (تل صند حتة) مجموعة من القبور المقطوعة في الصخر تحتوي على كسر زجاجية ودبابيس معدنية وأدوات للزينة وأدوات عظمية تعود كلها إلى القرنين الثالث والرابع الميلادين. وجدران هذه القبور مزينة برسوم تتألف من مشاهد الأشكال آدمية. ومن المؤسف أن محتويات بعضها أخذت طريقها إلى تجار الآثار بمدينة القدس آنذاك، وأما القليل الباقي فقد نشر نشرا غير علمي. وفي عام 1925 قام الآباء الدومينكان في القدس بتنقيب مجموعة أخرى من القبور.
مما سبق يتبين أن مدينة مريسة عرفت الحياة من العصر البرونزي القديم حتى العصر الفارسي البارثي، وبلغت أوج ازدهارها في العصر الهلنستي فأصبحت مركزاً تجارياً فينيقياً هاماً.
المراجع:
- مصطفى مراد الدباغ: بلادنا فلسطين، بيروت 1972-1973.
- قسطنطين خمار: موسوعة فلسطين الجغرافية، بيروت 1969.
- فيليب حتي: تاريخ سورية ولبنان وفلسطين، بيروت 1958.
- Kraeling, E.: McNally Rand Bible Atlas.
- Albright, W.F.: The Archaeology of Palestine, London 1960.
- Thompson Thomas. I.: The Settlement of Palestine in the Bronze Age, Wiesbaden 1979.
- R.A.S.and Bliss.F.J.: Excavations in the Holy Land, vol.III.