تعني كلمة “ماتسبن” البوصلة. وتعرف هذه المنظمة باسم “المنظمة الاشتراكية الإسرائيلية”. وقد تأسست في خريف عام 1962 من عدد الشيوعين المؤيدين للصين. وعرفت بعدائها الشديد للصهيونية وإدانتها لوجود (دولة إسرائيل) لأنها قاعدة للامبريالية والاستعمار في منظمة الشرق الأوسط. ويعد ناتان فاينشتوك من أشهر منظريها. وقد ألف كتاباً بعنوان “الصهيونية ضد إسرائيل”.
تألفت ماتسبن من ثلاث مجموعات أساسية هي: المجموعة الخارجة على الحزب الشيوعي الإسرائيلي”راكاح”* بحجة عدم انتهاجه خطاً ثورياً. ومجموعة التروتسكيين، ومجموعة المنشقين عن حركة العمل السامي. وقد أبدلت هذه المجموعة شعار “يا ساميي الشرق الأوسط اتحدوا” الذي كانت الحركة توقعه بشعار “أيها الثوار الاشتراكيون في الشرق الأوسط اتحدوا”.
ومنظمة ماتسبن منظمة صغيرة، وهي عبارة عن ظاهرة وليست قوة سياسية ولا تياراً سياسياً داخل (إسرائيل). وتقتصر على عدد من المثقفين الراديكالين الذين يعودون في أصلهم الطبقي إلى البورجوازية الصغيرة. والواقع أن أهمية ماتسين تعود على وجه التحديد إلى كونها “إشارة أولية” ودليلاً على إخفاق الحل الصهيوني. ولذلك لا يجوز النظر إليها على أنها تعبير مبلور عن تيار سياسي قائم حالياً في فلسطين المحتلة.
وقد أدى فقدان التجانس الفكري بين أعضاء المنظمة إلى حدوث انشقاق أول في صفوفها في أيلول 1970 فانفصلت عنها مجموعتان هما “الاتحاد الشيوعي الثوري” ومجموعة “أفانغارد”. وحدث الانشقاق الثاني داخلها في شهر شباط فانقسمت إلى جناحين. ماتسبن القدس ويدعى “العصبة الشيوعية الثورية” وهو الجناح التروتسكي الذي ينتمي إلى الأممية الرابعة ويصدر نشرة باسم “ماتسبن ماركسي” وماتسبن تل أبيب وكان يدعى “المنظمة الاشتراكية الإسرائيلية” فأصبح يدعى منذ عام 1977 “المنظمة الاشتراكية في إسرائيل”، وهو يصدر صحيفة باسم “ماتسبن”.
وكانت منظمة ماتسبن رفضت الاختيارين الذين طرحتهما الصهيونية أمام اليهود وهما: الحفاظ على بقاء الكيان الإسرائيلي واستمراره وتوسعه بشتى الوسائل، أوالفناء. ودعت إلى اختيار ثالث يتلخص في دعوة اليهود إلى “المشاركة في النضال الثوري لبناء مجتمع اشتراكي في الشرق الأوسط العربي”.
هذا على الصعيد الايديولوجي. وأما على الصعيد السياسي فقد وصلت المنظمة في تحليلها للمجتمع الإسرائيلي إلى أن التناقض الأساسي فيه يختلف عنه في المجتمعات الأخرى، بمعنى أن هذا التناقض تناقض خارجي. فالعامل الحاسم القادر على تقويض أسس (الدولة الإسرائيلية) هو وجود أنظمة جماهيرية عربية تخوض نضالاً وصراعاً مع الوجود الصهيوني انطلاقاً من أسس ايديولوجية اشتراكية. وتعتقد المنظمة الاشتراكية الإسرائيلية التي تضم بين صفوفها عرباً ويهوداً أن المشكلة الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي يجب أن يجدا حلاً اشتراكياً دولياً، مع أخذ الخصائص المميزة لهذه المشكلة المعقدة بعين الاعتبار. فالموضوع هنا ليس أزمة عادية بين أمتين يكفي حلها المطالبة بتعايش يقوم على أساس الاعتراف المتبادل بالحقوق المشروعة القومية للشعبين. فدولة (إسرائيل) هي النتيجة الطبيعية لاستعمار فلسطين من قبل الحركة الصهيونية على حساب الشعب العربي، وتحت إشراف الاستعمار. كما أن (إسرائيل) بشكلها الصهيوني الحالي أداة لمتابعة “المشروع الصهيوني”. فالشعب العربي لا يستطيع أن يقبل بين ظهرانيه دولة صهيونية لا تهدف إلى خدمة شعبها بقدر ما تهدف إلى أن تكون رأس جسر وأداة سياسية ومكاناً يهجر إليه يهود العالم بأسره. يضاف إلى ذلك أن الطابع الصهيوني (لإسرائيل) معاكس أيضاً للمصالح الحقيقية للطبقات الشعبية الإسرائيلية لأنه يعني أن البلد يخضع بصورة مستمرة للقوى الخارجية. فحل المشكلة يتطلب إذن إلغاء صهيونية (إسرائيل) وتخولها كدولة تحولاً ثورياً عميقاً بحيث تصبح دولة اشتراكية تمثل مصالح الطبقات الشعبية الموجودة فيها. وعلى هذه الدولة أن تلغي بصورة خاصة “قانون العودة” الذي يمنح كل يهودي في العالم الحق المطلق والفوري في الهجرة إلى (إسرائيل) ليصبح مواطناً فيها.
وتخلص ماتسبن في تحليلها إلى القول: إن توازن القوى في المنطقة من ناحية والتحليلات النظرية من ناحية أخرى بين استحالة حل المسألة الفلسطينية ضمن إطار فلسطيني منفصل. فتوازن القوى بالنسبة إليها يبدو أن الشعب الفلسطيني يشن كفاحاً مسلحاً يواجه فيه الصهيونية التي تؤيدها الامبريالية. وهو معرض في الوقت نفسه للخطر من الخلف بسبب الرجعية العربية التي تؤيدها الامبريالية أيضاً. وما دام للامبريالية مصالح حقيقية في الشرق الأوسط فلا يمكن أن تكف عن تأييد الصهيونية حليفتها الطبيعية وتقبل بالقضاء عليها، أي أنها ستدافع عنها حتى آخر قطرة من النفط العربي.
وليس بامكان الكفاح الفلسطيني المسلح من ناحية ثانية ضرب المصالح الامبريالية في المنطقة بدون القضاء على شركاء الامبريالية الصغار في الاستغلال، أي “الطبقات الرجعية الحاكمة في العالم العربي”. والاستنتاج الذي تصل إليه منظمة ماتسبن لا يدعو الفلسطيني إلى الانتظار بهدوء حتى يتم القضاء على السيطرة الامبريالية في المنطقة بأسرها بل يدعوه إلى الانضواء تحت راية النضال الأوسع في سبيل التحرير السياسي والاجتماعي للشرق الأوسط بأسره. وبعبارة أخرى فإن استخدام الكفاح المسلح جزء من الكفاح العام لاسقاط الأنظمة القمعية، بما فيها النظام الصهيوني في (إسرائيل)، واسقاط الامبريالية في الشرق الأوسط. ولكن لا يمكن تحقيق أي من هذه الأهداف إذا بقي الكفاح ضمن الاطار الفلسطيني المحض.
أما بالنسبة إلى الأفكار والشعارات المطروحة عن الحل الثوري للنواع العربي- الإسرائيلي فإن منظمة ماتسبن توجه نقداً إلى الشعار الداعي إلى “دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية المستقلة التي يتمتع مختلف سكانها من مسلمين ويهود ومسيحين بحقوق متساوية وبغض النظر عن دياناتهم”، لأن هذا الشعاار يعني خلق دولة جديدة مؤلفة من تجمعات دينية لا تمايز قومياً فيها. وترى المنظمة أن العجز الأساسي في هذا الشعار يكمن في تخطيه المسألة القومية بشكل عام والواقع الإسرائيلي بشكل خاص.
لا شك أن اليهود المقيمين في (إسرائيل) جاؤوا للاستيطان تحت تأثير الصهيونية وبقيادتها. وأنهم اضطهدوا الشعب الفلسطيني وما زالوا يضطهدونه. ولكن من المستحيل حذف حقيقة تاريخية أخرى هي أن هذه المجموعة أصبحت تشكل إلى حد كبير كياناً قويماً مختلفاً عن كيان سائر يهود العالم من جهة، وعن كيان الفلسطينيين العرب من جهة أخرى، كياناً له لغته الخاصة وحياته الاقتصادية والثقافية المميزة. أي الشعب الذي يتكلم العبرية في المنطقة ليس مجرد جماعة دينية. وإنه لمن السذاجة الاعتقاد بأن مثل هذه القضايا المعقدة تنحل بمجرد اعتبار الإسرائيليين جماعة تعتنق دينا معينا وحسب. وتؤكد ماتسبن أن أي حل واقعي وتاريخي للنزاع ينبغي أن ينظر بعين الجد إلى أن الشعب الإسرائيلي يتصف بالخصائص المشتركة للقومية وروابطها. أو بعبارة أدق يؤلف الإسرائيليون قومية في طور التكوين ويؤلف العرب كذلك قومية في طور التكوين، ولم تكتمل العملية لدى أي من الطرفين بعد. ومما لا شك فيه أن عملية التكوين سوف تزداد نضجاً مع استمرار الكفاح والصراع من أجل إقامة جمهورية اشتراكية كبيرة في منطقة الشرق الأوسط.
فالمنظمة لا تفهم اذن حق تقرير المصير على أساس الدعوة إلى فكرة الوجود المنفصل، أو الدولة المنفصلة للشعب الإسرائيلي أو للشعب الفلسطيني بل تطالب الثوريين العرب واليهود في المنطقة بضرورة الاندماج في دولة اشتراكية كبرى في الشرق الأوسط.
المراجع:
- إسرائيل وشعوبها، باريس 1977.
- ب. مرحاف: اليسار الإسرائيلي، باريس 1973.
- المنظمة الاشتراكية في إسرائيل – ماتسبن – تل أبيب 1978.
- ليلى سليم القاضي: المنظمة الاشتراكية الإسرائيلية: ماتسبن، بيروت 1971.