لم تقتصر صلة العرب بفلسطين على الذين سكنوها منهم، أو الذين كانت منازلهم على تخومها، وإنما تعدتهم إلى الأقوام العربية الذين كانوا ينزلون في أنحاء شبه الجزيرة العربية، ويشتغلون في التجارة*، ويطرقون فلسطين لهذه الغاية. ورد عن الاصطخري في “مسالك الممالك” أن قبر هاشم بن عبد مناف والد جد الرسول صلى الله عليه وسلم في غزة، وأن عمر بن الخطاب* أيسر بها في الجاهلية، وكان يعمل في التجارة، وأنها كانت مستطرقاً لأهل الحجاز، إضافة إلى علاقات أهل اليمن التجارية معها.
استمرت هذه العلاقات قائمة بعد ظهور الاسلام*، وصار الاحتدام بفلسطين يأخذ بعداً آخر أكثر جدية وعمقا في وجدان الإنسان العربي المسلم، لارتباط فلسطين ابتداء بامراء الرسول، صلى الله عليه وسلم، إليها وثبوت الخبر في القرآن الكريم، في قوله تعالى: “سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى* الذي باركنا حوله”. وذكر بعض المفسرين مكانة فلسطين والإشارة إليها مرة أخرى في القرآن الكريم، في قوله تعالى: “والتين والزيتون وطور سنين”. وظهرت مكانة فلسطين في الفكر الإسلامي أيضاً، عقيب هجرة الرسول إلى المدينة المنورة باتخاذ بيت المقدس قبلة المسلمين في صلاتهم مدة ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، وجعل مسجد بيت المقدس، قرين المسجد الحرام في مكة والمسجد النبوي في المدينة، بحق الزيارة وشد الرحال إليه. قال عليه السلام: “لا تشد إلا الرحال إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى”. ثم يضاف إلى ذلك، جهود المسلمين التي تمثلت بالسفارات والوفود التي أرسلها الرسول إلى بلاد الشام يدعو أهلها وأمراءها إلى الإسلام، وأسفرت عن اسلام بعضهم مثل الأمير فروة بن عمرو الجذامي الذي أعلن اسلامه بعد غزوة تبوك، وأهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء، فعلم البيزنطيون بهذا الاتصال فأخذوه وضربوا عنقه على ماء في فلسطين، وقيل صلبوه. يضاف إليها الجهود العسكرية التي شملت المنطقة ما بين المدينة المنورة وجنوب فلسطين، على شكل سرايا وغزوات وصلت إلى أرض مؤتة وأبل الزيت* ويبني*، بين فلسطين والبلقاء، وحققت، كما في غزوة تبوك، عقد عدد من المعاهدات والاتفاقيات مع الحواضر التي كانت تقوم على تخوم أرض فلسطين وجنوبها، وبخاصة معاهدة أيلة التي قيل إنها فتحت الباب الخلفي لفلسطين وسيناء أمام المسلمين، وسهلت لهم عملية فتحها.
وعندما كان الرسول على فراش الموت كان جيش أسامة بن زيد الذي جهزه الرسول، منتصباً لغزو أطراف فلسطين، فلما استخلف أبو بكر أنفذ جيش أسامة إلى حيث أمر الرسول، مقتفياً خطة رسول الله في نشر الإسلام وتحرير فلسطين من النفوذ البيزنطي. ولما تخلص أبو بكر من المشكلات التي واجهته بعد وفاة الرسول وتغلب عليها، سير الجيوش إلى بلاد الشام، وحعل عمرو بن العاص* على أحدها، وأمره أن يجعل طريقه إلى أيلة، وينفذ منها عامداً إلى فلسطين ويفتحها.
أفرغ أبو بكر جهده في هذا الميدان، يريد أن يحقق ما وسعه تحقيقه من خطة رسول الله، ويروى أن عمر بن الخطاب سأل أبا بكر أن يبعث الجيوش إلى العراق فأجابه أبو بكر: “لأن يفتح الله على يدي شبراً من الأرض المقدسة، أحب إلي من رستاق من رساتيق العراق”. وأقبض أبو بكر ولما يتم فتح فلسطين.
قام عمر بن الخطاب يواصل أداء المهمة من بعد أبي بكر، بعزم وهمة بالغين، وجعلت الرسل تروح وتجيء بين المدينة المنورة وميدان القتال في الشام وفلسطين، تنقل عنه وتأتيه بالأخبار، يريد ألا يفارق ما يجري ولا يفارقه، ليباشر ذلك عن قرب، ويوجهه عن بينه وجلاء. وقد احتاج عمر غير مرة، إلى أن ينتقل بنفسه إلى ميدان القتال، وأحصنت له الأخبار أربع زيارات، وهذا ما لم يحط به بلد آخر. وقبل عام عشرين للهجرة، كان المسلمون قد أتموا فتح فلسطين وتحرير مدنها في الداخل والساحل.
اقتضى فتح فلسطين وبلاد الشام عامة، إعادة النظر في الأوضاع التي كانت تسودها سابقاً، وقدوم عمر بن الخطاب للغرض نفسه في زيارته الرابعة والأخيرة. وفي الجابية، بحث عمر مع الأمراء والقادة أمور البلاد والترتيبات اللازمة لرعاية الشؤون وتدمير المصالح والأحوال، فقسمت البلاد أقساماً أربعة، أطلق على كل قسم منها اسم “جند” من قبل وجود الجند المقاتلة في كل قسم من هذه الأقسام الأربعة يقيضون أرزاقهم فيها، فهو بهذا المعنى “معسكر” وقيل من قبيل أن الجند يجمع كوراً. وجعلت فلسطين جندا من هذه الأجناد الأربعة واتخذت مدينة “لد” قصبة هذا الجند. وظلت مدينة لد كذلك حتى أمر سليمان بن عبد الملك بناء مدينة الرملة* في خلافة الوليد بن عبد الملك*، واتخذها حاضرة لجند فلسطين، وانتقل إليها. ويمكن القول ان جند فلسطين، احتفظ بوضعه الذي سمي له في أيام عمر بن الخطاب، باستثناء بعض التعديلات البسيطة، لزمن طويل تال على عصر الخلفاء الراشدين. وقد يكون ما ورد عند الاصطخري، يكشف إلى حد كبير امتداد جند فلسطين آنذاك. يقول الاصطخري: “جند فلسطين طوله للراكب يومان من رفح* إلى حد اللجون*، وعرضه من يافا* إلى أريحا* يوم”.
وقد تعاقب على إمارة الشام بعامة، وجند فلسطين بخاصة كثير من الأمراء، ففي خلافة عمر بن الخطاب، كان أبو عبيدة أمير بلاد الشام كلها، وكان عمرو بن العاص أميراً على فلسطين. فلما سار عمرو بن العاص لفتحها، استخلف أبا عبيدة على فلسطين، فجعل أبو عبيدة يزيد بن أبي سفيان* أميراً عليها ومات أبو عبيدة في طاعون عمواس فاستخلف على إمارة الشام معاذ بن جبل*، ومات معاذ بعد أبي عبيدة بقليل، فاستخلف على إمارة الشام يزيد بن أبي سفيان، وكان معاوية بن أبي سفيان* أميراً على فلسطين. ولما كان يزيد بن أبي سفيان في مرض الطاعون الذي مات فيه، استخلف مكانه أخاه معاوية، فأقره عمر. وصير علقمة بن مجزر* أميراً على فلسطين، وأمر بعده عبد الرحمن بن علقمة الكناني. واستمر معاوية قائما بأمر الشام كله في خلافة عثمان بن عفان وحتى نهاية الخلافة الراشدية، يولي من قبله الأمراء على فلسطين ويعزلهم.
أما بخصوص الأرض في فلسطين، فقد عوملت بنحو ما عوملت به أرض بلاد الشام جميعاً، تركت بموافقة المسلمين الفاتحين تقديراً منهم للظروف العامة، بيد الذين كانوا يزرعونها ويستغلونها مقابل جزء من الغلة يقدمونه للمسلمين، عرف باسم خراج الأرض، جعل منه عطاء الجيش والنفقة على مصالح المسلمين الفاتحين. وظلت الأرض ملكاً عاماً بينهم، مما يشير إلى تعزيز الواجب الجماعي في الحفاظ على أرض فلسطين والدفاع عنها. وفيما يتعلق بالناس الذين كانوا في فلسطين، وظلوا متعلقين بـديانهم من غير دين الإسلام، فقد وضعت عليهم الجزية مع العناية بأوضاعهم حين تقدير الجزية عليهم. وصار مال الجزية مع العناية بأوضاعهم من غير دين الإسلام، فقد وضعت عليهم الجزية مع العناية بأوضاعهم حين تقدير الجزية عليهم. وصار مال الجزية موردا آخر من الموارد المالية التي تنفق في مصالح المسلمين العامة. واستتماماً للإجراءات الاقتصادية، رتب عمر بن الخطاب الأرزاق الشهرية للناس، وجعل لكل واحد منهم، الرجل والمرأة والمملوك، رزقاً شهرياً مقداره مدان من البر وما يكفيه من الخل والزيت، وكفل المعيشة لأهل الذمة ممن لا يجد قدره على كسب معيشته بالوسائل الانسانية المشروعة (رَ: الضرائب).
فتح دخول فلسطين في حوزة المسلمين، الباب أمام القبائل العربية التي أخذت تتدافع إلى داخل فلسطين، وتنتشر فيها من أقصاها إلى أقصاها. فإضافة إلى منازل غسان في اليرموك والجولان*، كانت عاملة* في جبلها المنسوب إليها مشرفة على طبرية*، ونزل قوم من الأشعريين مدينة طبرية وصاروا الغالبين عليها، وتقدمت قبائل من جذام* من منازلها بين مدين وتبوك وأدرج إلى منطقة العريش. ونزل بعض افخاذها في المنطقة التي تلي مدينة طبرية، ونزل فريق آخر منهم في بيت جبرين*. وإضافة إلى من كان في القدس* من العرب، صار العرب يؤلفون في القدس وفي مدينة لد جزءا مذكوراً من أهلها. كما سكن مدينة أريحا قوم من العرب من قبس* وجماعة من قريش. وإضافة إلى من كان في منطقة الخليل* وما حولها، من لخم* ومن بطن الدار بن هاتىء من رهط تميم الداري صاحب رسول الله عليه وسلم، نزلت قبائل من لخم ما بين مصر والشام حول العريش، وسكن أقوام بن وائل في جنين*، وآخرون من مضر بن نزار في نابلس*. وصار أهل فلسطين أخلاطاً من لخم وجذام وعاملة وغسان وبهراء وكندة* وقيس وكنانة ووائل وبكر وبلي وعذرة* والقين وكلب* والأزد ومدجع* وهمدان وخثعم وأنمار، وغيرها من القبائل التي نزلت في كل ما وجدته مرفوضاً قد جلا عنه أهله، أو كان ساحة متروكة، أو كان خارجاً عما كان يملكه أهله من المنازل والدور في جميع مدن فلسطين وحواضرها في الداخل والساحل.
صار جند فلسطين بعد الفتح معسكراً متقدماً لانطلاق الجيوش الإسلامية إلى ما حولها، يشارك أجناد الشام الأخرى في حركة الجهاد، وأعطاء موقعه الممتاز، إضافة إلى خصوبة أرضه وكثرة أهله، دوراً كبيراً في حركة الجهاد، سواء على مستوى رد المحاولات البيزنطية العسكرية لاستعادة سيطرتها على بلاد الشام وفلسطين، أو على مستوى مد حركة الفتح الإسلامي إلى البلاد المجاورة الأخرى.
ففي مجال الدفاع، أقيمت التحصينات والدفاعات الداخلية في فلسطين، وقام الولاة بترميم الحصون الداخلية في مدن عكا* وصور وقيسارية* وعسقلان، وأطلق عمر بن الخطاب على سبيل المثال، يد معاوية بن أبي سفيان في إصلاح حال هذه السواحل، وترميم حصونها، وترتيب المقاتلة فيها، وإقامة الحرس على مناظرها، واتخاذ المواقيد لها. وأقام معاوية في فترة تالية، مصنعاً للأسلحة البحرية في عكا، بعد أن كانت بلاد الشام وفلسطين تعتمد كلياً على ما تنتجه دور الصناعة البحرية في مصر، ثم نقل المصنع في فترة لاحقة إلى مدينة صور. وقد شجع الولاة بأمر الخليفة عمر بن الخطاب، ثم يأمر الخليفة عثمان بن عفان، الناس على الإقامة في المدن والحصون الساحلية، والمرابطة فيها، وبذلوا لهم الأعطيات المجزية، وأقطعوهم الاقطاعات، ليتدبروا من غلاتها عيشهم وشراء ما يلزمهم من الأسلحة. وقد أفلحت هذه السياسة كثيراً، ونجحت في جذب الناس إلى السواحل من كل ناحية، وصاروا ينزعون إليها وينزلون فيها. وأعد في الوقت نفسه جيش آخر يقوم بمهمة الدفاع عن المدن والسواحل وحمايتها عند غياب الجند المرتبين فيها، في الفتوحات، بما ألقى على البلاد رداء الأمن والطمأنينة. وكانت هذه السياسة الدفاعية خطوة أولى نحو بناء الأسطول الإسلامي وركوب البحر في خلافة عثمان بن عفان (رَ: معاوية، أسطول).
أما في مجال حركة الفتح، فقد شارك جند فلسطين الأجناد الشامية الأخرى، وسار من أهله مع عمرو بن العاص في مسيرة إلى فتح مصر، أربعة آلاف من قبائل عكا، كما اشتركت أعداد أخرى في الجيش الذي أرسل بقيادة عبادة بن الصامت* مدداً لعمرو. وكان المقاتلون من جند فلسطين ينتظمون في الحملات التي كانت الدولة الإسلامية توجهها إلى حرب بيزنطة براً وبحراً، ووصلت هذه الحملات في البحر المتوسط بعد امتلاك الأساطيل البحرية وبنائها، إلى جزر أرواد وقبرص ورودس، وفتحها. وكانت هذه الحملات البحرية تنطلق في الغالب من عكا. هاجم الأسطول الإسلامي في بعض جهاده البحري جزيرة صقلية وجزيرة كريت دون أن يتمكن من فتحهما في العصر الراشدي، وقد شهدت مياه البحر المتوسط تعاوناً بحرياً موقتاً بين الأسطول البحري الشامي والأسطول البحري المصري، وحققا سوية انتصاراً رائعاً على البيزنطيين عام 31هـ، وقبل عام 34هـ، في معركة ذات الصواري.
وبينما كان جند فلسطين يقوم بنصيبه في حركة الجهاد براً وبحراً، وقعت حادثة قتل الخليفة عثمان بن عفان، وزج المسلمون في أتون الفتنة الكبرى، وجر جند فلسطين إلى حلبة الأحداث طوعاً وكرهاً. وكان معاوية بن أبي سفيان قتال لأهل الشام. أيها الناس، قد علمتهم أني خليفة أمير المؤمنين عمر، وخليفة أمير المؤمنين عثمان، ولم أقم على خرابة قط،وقد قتل عثمان مظلوماً وأنا وليه. فقالوا: نحن كنا طالبون بدم عثمان. وطلب معاوية إلى شرحبيل بن السمط الكندي أن يكتب إلى مدائن الشام ليغضبوا للخليفة المظلوم. ويذكر خليفة ابن خياط ما يفيد أن أهل فلسطين استجابوا لمعاوية، ووقفوا إلى جانبه طلبا بدم أمير المؤمنين عثمان، وخرجوا معه إلى القتال في معركة صفين خيالة ورجالة. ويعدد خليفة بن خياط بعض القبائل من أهل فلسطين التي وقفت إلى جانب معاوية ومن كان عليها من الرؤساء والوجهاء. فيقول كان على مسيرة أهل فلسطين مع معاوية، مسلمة بن مخلد، وكان على رجالتهم، الحارث بن عبد الأزدي، وكان على قبائل كنانة شريك الكناني، وعلى قبائل جذام ولخم ناتل بن قيس الجذامي سيد جذام في بلاد الشام، وكان على همدان حمزة بن مالك، وعلى غسان يزيد بن أبي النمس، وكان ابن عبد الله الخثعمي على قبيلة خثعم، إلى غير ذلك من القبائل. وكان عمرو بن العاص قد ترك الحجاز في أثناء الخلاف على عثمان وصار إلى فلسطين، وأقام بها، وكان له فيها ضيعة تدعى عجلان باسم مولى له، فوقف هو الآخر إلى جانب معاوية طلباً بدم عثمان. وانجلت معركة صفين عن فكرة التحكيم، وعقد مؤتمر التحكيم في أذرح بأطراف فلسطين من الشرق، وحضره كثير من المهتمين بأمور السياسة من أهل الشام وفلسطين، إضافة إلى الوفود والهيئات الرسمية الذين حضروا بتفويض أطراف النزاع. ولما لم يحسم المؤتمر الخلاف، واصل أهل فلسطين الوقوف إلى جانب معاوية، وساروا مع عمرو بن العاص في الجيش الذي قاده لأخذ مصر، فلما أخذها رجحت كفة معاوية رجحاناً مبيناً، كما اشتركوا في البحوث الأخرى التي أرسلها معاوية إلى بلاد الحجاز وغيرها، وظلوا إلى جانب معاوية يساندونه حتى آلت الخلافة إليه، فحمد معاوية موقفهم وأهل الشام، وعدهم بهذا السبب من شيعته، واطمأن إليهم في أموره، وأشركهم في ملكه وسلطانه، كأمثال مالك بن هبيرة وأبي عبد الرحمن القيني وسفيان ابن عوف الأزدي وغيرهم وأدخل بعضهم في خاصته كأمثال حسان بن مالك الكلبي وروح بن زنباع* وناتل بن قيس الجذامين، وأوصى بهم ولده يزيد من بعده، وأوصاه أن يستبطنهم وينتصر بهم على من يناوئه، ولكن ذلك لم يمنح ناتل بن قيس الجذامي من مخالفة روح بن زنباع الجذامي بعد وفاة يزيد بن معاوية، وإعلان الوقوف باسم أهل جند فلسطين إلى جانب عبد الله بن الزبير والبيعة له والتخلي عن البيعة خليفة من بني أمية. وهكذا عاش جند فلسطين أحداث المجتمع الإسلامي كلها، واضطلع رجالاته بدور مشهور في أمور السياسة والحكم والإدارة* بعيداً عن النظرة الجزئية والمحلية.
وإلى جانب الدور السياسي الذي قام به جند فلسطين في حياة المجتمع الإسلامي وأحداثه، شارك هذا الجند آخر من جوانب حياة المجتمع لا يقل عن الجانب السياسي أهمية، ذلك هو الجانب الحضاري.
كان في الشام وفلسطين عناصر سكانية متعددة، ومع هذا التنوع السكاني، كان هناك تنوع لغوي ممثل باللغات السامية أخوات اللغة العربية، من اللغة السريانية والعبرانية والفينيقية، ثم هناك اللغة اللاتينية واليونانية، إضافة إلى اللغة العربية. وهي لغات كانت جميعها منتشرة بين السكان، ويستعملها أهل بلاد الشام وفلسطين قبل الفتح العربي الإسلامي بمجالات متباينة ومستويات متفاوتة. ثم جاء الفتح العربي الإسلامي وسط هذا التنوع السكاني والتنوع اللغوي، يحمل فكر الوجدانية ولغة العربية، فلم يعامل الناس في البلاد بسياسة القهر، ولم يحرم عليهم استعمال تلك اللغات أو يحاربها ظلماً وعدواناً، وإنما سار في البلاد سيرة متأنية، وراعى سنن الحياة في التطور والانتخاب الطبيعي لما هو أقدر وأفضل وأصلح لخدمة مصالح الناس.
كانت البدايات الأولى لحياة المسلمين الحضارية في الشام وفلسطين ممثلة بإقامة الشعائر الإسلامية من صلاة وصيام وغيرها من العبادات. وقد باشر المسلمون هذه المظاهر الحضارية بلا كلل ولا ملل، فرضاً من فروض الطاعة لله والتقرب إليه، وقد رزق جند فلسطين الكثيرين من أعلام الإسلام المشهورين، منهم أبو عبيدة عامر بن الجراح “أمين الأمة”، وشرحبيل بن حسنة*، وأبو الدرداء عويمر، ومعاذ بن جبل، وقبرا هذين الصحابيين الجليلين ولا يزالان إلى اليوم مذكورين في أرض الغور*. ومنهم شداد بن أوس الأنصاري الذي توفي في بيت المقدس عام 58هـ، وكان من العلماء والحكماء. ومنهم بشير بن عقربة الجهني الذي سكن فلسطين ومات بقرية من كورها عام 85هـ، وكذلك ثابت بن نعيم الجذامي وتميم بن أوس بن خارجة الداري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي وفد الى الرسول وطلب أن يقطعه أرضا في فلسطين فأعطاه ما بين عين حيرون وبيت إبراهيم الخليل. ومنهم الحارث بن عبد الله وصفوان بن وهب القرشي الفهري وشمعون أبو ريحانه الأزدي الذي سكن بيت المقدس، وشهاب بن خراش الشيباني الذي سكن فلسطين وخليد بن سعد من أهل بيت المقدس، ومنهم عبد الله بن محيريز الجمحي عالم بيت المقدس الذي توفي عام 98هـ. وغيرهم كثيرون، منهم من دخل فلسطين ومات فيها بطاعون عمواس، ومنهم من سلم من الطاعون وظل يسكن فلسطين، إضافة إلى الذين وفدوا إليها ونزلوا فيها من بعد، وكان لهم ولاولئك الذين سبقوهم الفضل الكبير في إضفاء هذا الطابع الحضاري الممثل بالفكر الإسلامي واللغة العربية، على البلاد.
إلى جانب ذلك، قام المسلمون بتشيد دور العلم لنشر الحضارة ولغتها العربية. وكانت هذه المؤسسات الثقافية الحضارية آنذاك، ممثلة بالمساجد، فأقاموها في طول البلاد وعرضها. وبدأ الخليفة عمر بن الخطاب ذلك، ببناء المسجد الأقصى في بيت المقدس. عندما دخله عام 16هـ وأعطى أهله العهد العمري – عهد إيلياء* – وشارك في أعمال البناء بنفسه. وطلب إلى أمراء أجناد الشام أن يتخذوا في كل مدينة مسجداً، فأقيمت المساجد في مدن فلسطين من قيسارية إلى عسقلان. وأرسل الخليفة عثمان بن عفان من بعده، بطلب إلى معاوية بن أبي سفيان أن يبني المساجد، ويكبر ما كان ابتنى منها قبل خلافته وأخذت هذه المساجد تباشر دورها في نشر الثقافة والعلم في البلاد، حتى غصت بحلقات الدرس والعلم، وازدحم فيها الناس الذين صاروا يأتونها للتفقه في أمور دينهم، حتى ضاقت بهم المجالس، فأرسل يزيد بن أبي سفيان غلى عمر بن الخطاب يخبره أن أهل الشام قد كثروا وملأوا المدائن، واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم في الدين، وطلب إليه أن يعينه برجال يعلمونهم، فنظر عمرو بن الخطاب إلى من حوله من الصحابة في المدينة فوجد خمسة من الأنصار، كان كل منهم جمع القرآن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أبي بن كعب، وأبو أيوب الأنصاري، خالدبن يزيد – وأبو الدرداء، وعبادة بن الصامت، ومعاذ بن جبل، فاستبقى أبي بن كعب لضعف صحته ومنقمه. واستبقى أبا أيوب لشيخوخته وكبره، وبعث الثلاثة الباقين إلى الشام، وكان هؤلاء من جملة الصحابة الذين كانوا يفتون في مسجد رسول الله في حياة الرسول، فكان معاذ بن جبل من أعلم الناس بالحلال والحرام بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال عمر بن الخطاب في خطبته بالجابية فيه: “من أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل” هذا إضافة إلى أن أبي بن كعب وأما أيوب الأنصاري كانا يفدان كثيراً إلى الشام وينفع الناس بعلمهما.
سارت البعثة العلمية إلى بلاد الشام، وبدأت بحمص، ثم تفوقت عن بعد ذلك، فنزل أبو الدرداء في دمشق، وحل معاذ في فلسطين، وظل يباشر التدريس فيها وينشر العلم والثقافة، حتى توفي، فلما بلغ عمر بن الخطاب خبر وفاته قال: رحم الله معاذاً، والله لقد رفع الله بهلاك معاذ من هذه الأمة علماً جماً، ولرب مشورة له صالحة قد قبلناه منه، ورأيناها أدت إلى خير وبركة، ورب علم قد أفدناه وخير قد دلنا عليه. فلما مات معاذ، صار بعده إلى فلسطين عبادة بن الصامت، وكان أحد النقباء بدربا، وتولى القضاء* في بيت المقدس، وراح يواصل مهمة معاذ الحضارية في نشر الثقافة، وظل كذلك حتى مات عام 34هـ.
كان أعلام هذه الحركة الحضارية يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سالك الله به طريقاً إلى الجنة، وأن فضل العالم على فضل العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وأن العلماء ورثة الأنبياء، وأن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وأورثوا العلم، فمن أخذ العلم أخذ بحط وافر. ولذلك انطلق هؤلاء الرواد مدفوعين بحرارة الإيمان ينشرون حضارة الإسلام واللغة العربية بنشاط عظيم، وتحلق الدارسون حولهم حتى بلغ عددهم حول أبي الدرداء على سبيل المثال ألفاً وستمائة ونيفا.
ويحدث ابن عساكر عن طريقة التدريس في ذلك الوقت، فيقول: “كانوا يقرأون ويتسابقون عشرة عشرة، لكل عشرة منهم مقرىء، أما المفرثون الذين كانوا يتولون تدريس هذه العشرات، فكانوا يحضرون مجلساً متقدماً في العلم، يعقد حول عمود من أعمدة المسجد، يديره العلماء من الصحابة أمثال أبي الدرداء ومعاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وغيرهم، ويعلمون المقرئين القرآن، أجزاء أجزاء، منذ الصباح الباكر بعد صلاة الغداة، يأتون فيه على آيات القرآن وألفاظه ومعانيه، ويفتون فيما كانوا فيه يستفتون، فإذا انقضى المجلس، انتقل المقرئون إلى طلابهم يعلومنهم، ومن كان يحكم القراءة منهم كان يتحول إلى حضور المجالس العلمية المتقدمة. وقد بعث هذا الاهتمام البالغ بالفكر والتحري الدقيق لمسائله من جهة، وكثرة الصحابة الذين بلغ عددهم في بلاد الشام عشرة آلاف عين رأت الرسول من جهة أخرى، بعثا الثقة في نفوس الناس بهذا العلم، وجعل الخلفاء من بعد، إذا كانت الحادثة يسألون عنها أهل الشام”.
أثمرت هذه الجهود العلمية ثماراً طيبة، وامتدت فروعها عبر البلاد والأجيال، ونبغ علماء قادوا مسيرة الحضارة من بعد، فظهر من تلاميذ معاذ بن جبل، عبد الرحيم بن غنم الأشعري الذي كان رأس التابعين وقفة عامة التابعين في الشام، ونبغ أبو تميم الجيشاني الذي قرأ على معاذ بن جبل وتزعم الحركة الصليبية بمصر ومات فيها، ونبغ من تلاميذ أبي الدرداء، خليد بن سعد السلاماني الذي نزل بيت المقدس، وراشد بن أبي سكنة، وكان هو وإخوته قراء وفقهاء. واشتهر من طلاب عبادة بن الصامت، عبادة بن نسي الكندي الذي تولى القضاء بطبرية وقال فيه سلسلة بن عبد الملك. ثلاثة في كندة، إن الله لينزل بهم الغيث وينصر على الأعداء: رجاء بن حيوه، وعبادة بن نسي وعدي بن عدي، إضافة إلى اسماعيل بن أبي بكر الرملي وإسماعيل بن عبد الله الرملي. وبذلك أخذ جند فلسطين يزخر بالعلماء ومجالس الدراسة التي أحدثها فيها الوليد بن عبد الرحمن الجرشي. وكان يحضرها كثير ممن يوصف بالعلم والرياسة، وكان من جراء هذا الدور الحضاري الأنف الذكر أن توثقت العربية في بلاد الشام وفلسطين، واحتاجت مصالح البلاد إلى الدواوين فنقلت فيها من الرومية إلى العربية وكان في خلافة عبد الملك ابن مروان.
المراجع:
– ابن الأثير: الكامل في التاريخ: القاهرة 1303هـ.
– أحمد بن أعثم: الفتوح، حيدر آباد 1970.
– ابن الجوزي: فصائل القدس، بيروت 1979.
– ابن حزم: جمهرة أنساب العرب، القاهرة 1981.
– محمد بن سعد: الطبقات الكبرى، بيروت 1960.
– أبو عبيد القاسم بن سلام: الأموال، القاهرة 1353هـ.
– ابن عساكر: تهذيب تاريخ دمشق، بيروت1979.
– ابن هشام: السيرة النبوية، بيروت 1971.
– محمد بن عبد الله الأزدي: فتوح الشام، بيروت 1970.
– البلاذري: فتوح البلدان، القاهرة 1319هـ.
– الذهبي: دول الإسلام، القاهرة 1974.
– الطبري: تاريخ الرسل والملوك، القاهرة 1950.
– لي سترلنج: فلسطين في العهد الإسلامي، عمان 1970.
– المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجومر، القاهرة 1966.
– محمد كرد علي: خطط الشام، بيروت 1969.
– مصطفى مراد الدباغ: القبائل العربية وسلائلها في بلاد فلسطين، بيروت 1979.
– الواقدي: المغازي، القاهرة 1271هـ/1855م.
– اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي: بيروت 1960.
– Mayerson, Ph.: The First Muslims Attack on South Palestine A.D.633-634, New York 1964.
– Trimingham, J.S.: Christianity among the Arabs in Pre -Islamic Times, London and New York 1979.