انعقد المؤتمر الصهيوني* الأول في شهر آب سنة 1897 في مدينة بازل السويسرية التي استضافت فيما بعد العديد من المؤتمرات الصهيونية. وكان إقرار صيغة رسمية للأهداف الصهيونية واحداً من أهم بنود جدول أعمال المؤتمر الأول. وقد عرف هذا البند فيما بعد باسم برنامج بازل. وهو البرنامج الذي أضحى دعامة رئيسية من دعائم الفكر السياسي للحركة الصهيونية الناشئة وخططها العملية. وكان المسؤول الأول عن وضع ذلك البرنامج هو تيودور هرتزل.
تكون البرنامج من جملة افتتاحية تحدد بإيجاز هدف الحركة الصهيونية قائلة: “تهدف الصهيونية إلى إقامة وطن للشعب اليهودي في فلسطين تحت حماية القانون العام”.
ووضع البرنامج نصب الأعين، للوصول إلى هذا الهدف، الأساليب الأربعة التالية:
1) تنمية الوسائل المناسبة لتوطين المزارعين والعمال والحرفيين اليهود في فلسطين.
2) تنظيم اليهودية العالمية وتوحيدها عن طريق هيئات محلية وعالمية مناسبة، ووفقاً للقوانين السائدة في البلدان المختلفة.
3) تقوية العاطفة القومية اليهودية والوعي القومي وتنظيمهما.
4) اتخاذ الخطوات التمهيدية للحصول على موافقة الحكومات على هدف الصهيونية إذا لزم ذلك. ولا يتم هذا إلا بالمفاوضات السياسية في الدول الكبرى للاعتراف بالحقوق القانونية لليهود، ولتحقيق استيطان يهودي واسع
وقد ثار جدل كثير حول لفظة “وطن”، ومنشئها، واستعمالها، ومعناها. وجرى اعتماد هذه اللفظة مرة أخرى بعد هذا التاريخ بعشرين عاماً في وعد بلفور* الذي أصدرته الحكومة البريطانية عام 1917. ولا ريب أن لفظة “وطن” مبهمة وعرضة لمختلف التفسيرات. وقد أثرت الحركة الصهيونية بعد مؤتمرها الأول هذا استعمال صيغة أقوى وذات مدلول سياسي أعمق هي “وطن قومي يهودي”، لكن هذه الصيغة أيضاً لم تكن واضحة إلى الوضوح. وقد امتنعت الدبلوماسية الصهيونية، في الواقع، عن إعلان التزامها العلني حول هذه لمدة طويلة من الزمن، ولا سيما زمن الحكم العثماني.
وعلى الرغم إبهام هذه اللفظة وغموضها كانت النية من ورائها واضحة. فقد صرح هرتزل نفسه خلال النقاش الذي دار في المؤتمر حول اعتماد كلمة “وطن” أو “دولة” في البرنامج، صرح قائلاً: “لا داعي للقلق حول صياغة هذه الكلمة، فالناس سوف يفهمون، على أي حال، أنها تعني دولة”.
والكلمات التي دونها هرتزل في مفكرته خلال انعقاد المؤتمر ذات دلالة أبلغ وأغمق. فقد كتب “لو كان علي أن اختصر برنامج بازل بحملة واحدة وهي جملة ولا أجرو أن أعلنها للملأ – لقلت: في بازل أوجدت الدولة اليهودية”.
وقد أشار العديد من المؤرخين إلى أن اختيار كلمة “وطن” بدل كلمة “دولة ” يعود إلى عاملين رئيسين، الأول هو الرغبة في بعث الطمأنينة في الباب العالي والرأي العام العثماني من أجل الحصول على براءة من السلطان عبد الحميد* للاستيطان في فلسطين بمساعدة بعض الدول الأوروبية الكبرى التي يتم تجميدها لهذا الهدف. والعامل الثاني هو الرغبة في تخفيف حدة اعتراضات الطبقة الارستقراطية المالية، وطبقة المثقفين الليبراليين والطبقات الوسطى اليهودية في أوروبا الغربية. فقد كان أفراد هذه الطبقات يعدون أنفسهم مواطنين في دولتهم الأوروبية يتمتعون بالمساواة السياسية والاقتصادية. ويربطون بين نمو الحركة الصهيونية ونمو الشعور المعادي للسامية. لذلك أبدى هؤلاء نوعاً من العداوة لتيودور هرتزل، لاعتقادهم أن الحجة المطروحة لقيام دولة يهودية من شأنها أن تقوض مكاسب الاندماج التي حصلوا عليها في مجتمعاتهم ودولهم الأوروبية بعد طول انتظار، وأن مثل هذه الحجة الصهيونية قد تصبح سلاحاً إضافياً في أيدي القوى المعادية للسامية.
وهكذا جاء برنامج بازل مؤيداً لجهود هرتزل الدبلوماسية والسياسية وواضعاً نصب عينيه العاملين المذكورين. فقد بدأ هرتزل، من قبل، إجراء مفاوضات مع الباب العالي للحصول على براءة استيطان. وزار الآستانة لهذا الغرض ، لكنه لم يفلح. هذا من جهة، ومن جهة أخرى أرضى برنامج بازل الآراء المتضاربة لليهود الشرقيين والغربيين. وهذا أحد أسباب أهميته. وقد صيغ هذه الصياغة الدقيقة لينال رضاء أكبر عدد من الفئات اليهودية الفعالة، وليخفف ما وسعه من الاحتكاك والصدام على مختلف الجبهات اليهودية. فقد ارتاح اليهود الغربيون إلى الفقرات التي تشير إلى ضرورة الاستعانة بالدبلوماسية الدولية، وإلى ضرورة العمل بمقتضى القوانين السارية في البلدان المختلفة. أما اليهود الشرقيون فقد راقتهم الفقرات التي تعد بالرجوع إلى فلسطين. وأرضت مطامعهم الدينية والطوباوية والقومية.
وتجدر الموازنة بين صباغة برنامج بازل وما كتبه تيودور هرتزل في كتابه ” دولة اليهود” الذي صدر قبل انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول بعام واحد. فالكتاب يشدد على لفظة “دولة” في حين يعتمد البرنامج لفظة “وطن” والكتاب يعطي فلسطين والأرجنتين أهمية متساوية من حيث كونهما مركزين محتملين للاستيطان اليهودي، في حين يعرب البرنامج بوضوح عن تفصيل فلسطين محققاً مطالب اليهود البولونيين والروس.
ولا بد من الإشارة إلى أن كتاب هرتزل وبرنامج بازل، كليهما، يشددان على أهمية الاستيطان في الخطط الصهيونية، وهو أمر يماشي التوسع الاستعماري في ذلك الوقت. وتم إبراز المشروع الصهيوني على أنه يمثل موقعاً متقدماً من مواقع الإمبريالية الأوروبية في العالم الآسيوي – الأفريقي. يضاف إلى ذلك كله أن إغفال البرنامج أي ذكر لعرب فلسطين يشير بوضوح إلى الطابع العدواني الاستعماري الذي اصطبغت به الحركة الصهيونية منذ أيامها الأولى.
وقد أرسى المؤتمر الصهيوني الأول الدعائم التنظيمية المتعلقة بتنفيذ ذلك المشروع . فجعل المؤتمر أعلى هيئة للحركة الصهيونية، وجرى تأسيس لجنة عمل من ثلاثة وعشرين عضواً لمعالجة الأمور الهامة التي تطرأ في الأوقات التي لا يكون فيها المؤتمر منعقداً. لكن السلطة الفعلية كانت، في الواقع، بيد هيئة تنفيذية صغرى اسمها “لجنة الأعمال الداخلية” مؤلفة من خمسة أشخاص، ورئيسها تيودور هرتزل، ونائبه ماكس نورداو.
وتأسس عند انعقاد المؤتمر الصهيوني الثاني في العام اللاحق بنك اسمه “بنك الاستيطان اليهودي” ليكون الأداة المالية المساعدة على تنفيذ برنامج بازل.
المراجع:
– Theodor Herzl: The Jewish State, London 1964.
– Theodor Herzl: The Complete Diaries, Vol. I. New York 1960.