منذ أن احتلت (إسرائيل) القسم الشرقي من القدس العربية في أعقاب حرب 1967* وهي ماضية في مساع لا تفتر لتهويد المدينة المقدسة بأكملها، وفي العبث بالتراث الحضاري العربي الاسلامي والمسيحي وتحدي مشاعر المؤمنين بالديانتين السماويتين الكبيرتين بتغيير معالم المدينة، الأمر الذي كان موضع استنكار دولي في سلسلة متصلة من القرارات الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة.
وقد كان المسجد الأقصى* أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، أحد أهم أهداف الاسرائيليين في حملة العبث والتحدي هذه. فقد دأب الشبان الاسرائيليون على اقتحام ساحة المسجد الأقصى والرقص والغناء واقامة الحفلات الخلاعية والاعتداء على المصلين المسلمين فيها.
وبتاريخ 21/8/1969 تم احراق المسجد الأقصى بطريقة لا يمكن للسلطات الاسرائيلية أن تكون بعيدة عنها. فقد قامت هذه السلطات بقطع المياه عن منطقة الحرم فور ظهور الحريق وحاولت منع الموظفين العرب وسيارات الاطفاء التي هرعت من البلديات العربية من القيام باطفائه. وكاد الحريق يأتي على قبة المسجد المبارك لولا استماتة المواطنين العرب. فقد اندفع هؤلاء مسلموهم ومسيحيوهم عبر النطاق الذي ضربته قوات الشرطة الاسرائيلية وتمكنوا من اطفاء الحريق. ومع هذا فقد أتى على منبر المسجد واشتعلت النار في سطحه الجنوبي وأتت على سقف ثلاثة أروقة وجزء كبير من هذا القسم. وادعت (اسرائيل) في البدء أن تماسا كهربائيا كان السبب في الحريق. ولكن تقارير المهندسين العرب أوضحت بجلاء أن الحريق تم بفعل أيد مجرمة مع سبق الاصرار والتصميم، الأمر الذي اضطر الحكومة الاسرائيلية إلى الادعاء بأن شابا أستراليا يدعى دينيس مايكل وليم موهان ويبلغ من العمر 28 عاما – كان قد دخل فلسطين المحتلة قبل أربعة أشهر من وقوع الحريق- هو الذي ارتكب الجريمة. وزعمت أنها قبضت عليه وستقدمه للمحاكمة. ولكن لم يمض وقت طويل حتى أعلنت السلطات الاسرائيلية أن دينيس هذا معتوه وأطلقت سراحه.
وقد أتى الحريق على كثير من المعالم التاريخية في المسجد الأقصى وأهمها:
1) منبر صلاح الدين الأيوبي الذي يعد قطعة فنية نادرة مصنوعة من قطع خشبية صغيرة معشقة بعضها مع بعض دون استعمال المسامير أو البراغي أو أية مادة لاصقة. وكان يرمز إلى انتصار القائد صلاح الدين* ودخوله القدس، وباحراقه أراد الاسرائيليون احراق هذا الرمز. وكان هذا المنبر قد صنعه نور الدين زنكي وحفظه في مكان اسمه الحلوية في حلب الشهباء في سورية ونقله صلاح الدين إلى القدس في عام 583هـ-1187م.
2) مسجد عمر الذي كان سقفه من الطين والجسور الخشبية، ويمثل ذكرى دخول عمر بن الخطاب رضى الله عنه وفتح القدس.
3) محراب زكريا المجاور لمسجد عمر.
4) مقام الأربعين المجاور لمحراب زكريا.
5) ثلاثة أروقة من أصل سبعة أروقة ممتدة من الجنوب إلى الشمال مع الأعمدة والأقواس والزخرفة وجزء من السقف الذي سقط على الأرض خلال الحريق.
6) عموديان رئيسيان مع القوس الحجري الكبير بينهما تحت قبة المسجد.
7) القبة الخشبية الداخلية وزخرفتها الجصية الملونة والمذهبة مع جميع الكتابات والنقوش النباتية والهندسية عليها.
8) المحراب الرخامي الملون.
9) الجدار الجنوبي والتصفح الرخامي الملون عليه.
10) ثمان وأربعون نافذة مصنوعة من الخشب والجص والزجاج الملون وهي فريدة بصناعتها وأسلوب الحفر المائل على الجص لمنع دخول الأشعة المباشرة إلى المسجد.
11- مطلع سورة الاسراء المصنوع من الفسيفساء المذهبة فوق المحراب ويمتد بطول ثلاثة وعشرين متراً إلى الجهة الشرقية.
12- الجسور الخشبية المزخرفة الحاملة للقنابل، والممتدة بين تيجان الأعمدة.
هاج العالمان العربي والاسلامي استنكاراً لهذه الجريمة البشعة المتعمدة بحق واحد من أهم مقدسات المسلمين في العالم، وأحد أبرز المعالم الحضارية الانسانية. ودعي مجلس الأمن الدولي للالتئام لبحث هذه الجريمة واستمع الى البيانات التي ألقيت أمامه وكانت تمثل غضب العالم من هذا العمل البشع. وبتاريخ 15/9/1969 أصدر مجلس الأمن في جلسته رقم 1516 قرارا رقمه 271 (1969) يقضي بإدانة (إسرائيل) لتدنيسها المسجد الأقصى ويدعوها إلى إلغاء جميع التدابير التي من شأنها تغيير وضع القدس.
وجاء في مقدمة القرار أن مجلس الأمن يعبر عن “حزنه للضرر البالغ الذي ألحقه الحريق بالمسجد الأقصى يوم 21/8/1969 تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي” ويبارك “الخسارة التي لحقت بالثقافة الانسانية” نتيجة هذا الضرر.
وبعد أن استذكر المجلس قراراته وقرارات الجمعية العامة الخاصة يبطلان اجراءات (إسرائيل) التي تؤثر في وضع مدينة القدس، وبتوكيد مبدأ عدم قبول الاستيلاء على الأراضي بالتقرير العسكري، مضى يقرر أن “أي تدمير أو تدنيس للأماكن المقدسة أو المباني أو المواقع الدينية في القدس، أو أي تشجيع أو تواظؤ للقيام بعمل كهذا يمكن أن يهدد بشدة الأمن والسلام الدوليين”. وقال المجلس أن العمل المقيت لتدنيس المسجد الأقصى يؤكد الحاجة الملحة إلى أن تمتنع (إسرائيل) عن خرق القرارات التي كان المجلس والجمعية العامة قد أصدراها بخصوص القدس، وإلى أن تبطل جميع الاجراءات والأعمال التي اتخذتها لتغيير وضع المدينة المقدسة.
ودعا القرار 271 (إسرائيل) إلى التقيد بدقة بنصوص اتفاقيات جنيف وبالقانون الدولي الذي ينظم الاحتلال العسكري. كما دعاها إلى الامتناع عن اعاقة المجلس الاسلامي الأعلى في القدس عن القيام بمهامه، بما في ذلك أي تعاون يطلبه المجلس الاسلامي من دول أكثرية شعوبها من المسلمين، أو من مجتمعات اسلامية فيما يتعلق بخططها لصيانة واصلاح الأماكن الاسلامية المقدسة في القدس. ودان المجلس فشل (إسرائيل) في الالتزام بالقرارات السابقة الصادرة عن الجمعية العامة وحثها على انقاذ نصوص هذه القرارات. وأخيراً أكد المجلس من جديد أنه سيعود إلى الاجتماع لينظر في الخطوات التي يمكن أن يتخذها ضد (إسرائيل) ان هي أجابت مليا أو لم تجب اطلاقا على نداءاته. ودعا المجلس الأمين العام إلى أن يتابع عن كثب تنفيذ هذا القرار ويقدم إليه تقيرا في أقرب وقت ممكن.
صدر قرار مجلس الأمن رقم 271 هذا بأغلبية 11 صوتا ومن دون معارضة،ولكن بامتناع أربع دول من بينها الولايات المتحدة الأمريكية، مما يدل على امعانها في تأييد (إسرائيل) بلا حدود، حتى حين يكون المجتمع الدولي برمته ضدها.
قدم الأمين العام للأمم المتحدة إلى مجلس الأمن عدة تقارير أكد فيها صراحة (إسرائيل) تمعن في تحديها لقرارات الأمم المتحدة مشاعر العالم المتحضر بتغيير معالم القدس ووضعها القانوني الحضاري. وكانت (إسرائيل) محل ادانة واستنكار في عدد جديد من القرارات أصدرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن والكثير من المنظمات الدولية.
المراجع:
- المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم: ملف القدس 1977.
- تقرير الأمين العام للأمم المتحدة حول “المستوطنات البشرية” وثيقة الأمم المتحدة A/34/53 تاريخ 26/10/1979.
- تقارير الأمين العام للأمم المتحدة S/8164- A6793/10/24- S/9537- S/9149 قرارات الأمم المتحدة بشأن فلسطين والصراع العربي – الإسرائيلي.
المسجد القيمري:
رَ: القدس (المباني الأثرية والتاريخية في -)