القطمون حي غربي واقع غربي مدينة القدس* إلى الجنوب قليلاً. ويقوم على رابية مشرفة على معظم الأحياء العربية واليهودية من القدس الجديدة، وهي: البقعا الفوقا، والبقعة التحتا، ورحافيا، وميكور حاييم، وتل بيوت. وأكثر نقاط القطميون إشراقاً دير دار سمعان، وهو مقر الكرسي البطريركي الصيفي للروم الأرثوذكس. ونظراً لهذا كان للحي، ولبناء الدير باللذات، قيمة عسكرية كبرى عرفها الصهيونيون فسعوا إلى احتلاله منذ أواخر شهر نيسان 1948 في حين أهمل سكان الحي تحصينه وتركوا مهمة الدفاع عنه للمجاهدين من قوات جيش الجهاد المقدس*، وكانوا قلة بقيادة المناضل ابراهيم أبو دية*. ولم يكن هؤلاء مزودين بالأسلحة الكافية لأن رقابة سلطات الانتداب البريطانية على ادخال السلاح إلى الفلسطينيين من الخارج وعلى حمله ونقله كانت شديدة، بينما كانت هذه السلطات ذاتها تتغاضى عن تسلح اليهود.
مهد الصهيونيون لاحتلال حي القطمون بالاستيلاء على معظم المباني والمرتفعات المشرفة على الحي وحصنوها جيدا، ولا سيما مبنى “زلبرشتاين” المؤلف من أربع طبقات وسيطروا على جميع وسائط النقل حتى أصبحت باصات القطمون عاجزة عن الوصول إلى نقطة أبعد من حي “الثوري”. ومن هناك كان الركاب ينقلون إلى باب الخليل في سيارات مصفحة لأن اليهود كانوا يطلقون من حي مونتفيوري النار على كل سيارة ويقابلهم العرب بالمثل من جبل صهيون. وقد أدى هذا الوضع الى هجرة معظم سكان القطمون، مما أغرى الصهيونيين بمهاجمتهه بعنف بعد أن قطعوا عنه التيار الكهربائي والاتصالات الهاتفية يوم 10/3/1948 ونسفوا ثلاثة منازل عربية. ولكن المجاهدين استبسلوا في الدفاع عنه وأجبروا المعتدين على الارتداد. وقد تكرر ذلك عدة مرات خلال شهري آذار ونيسان سنة 1948.
بعد أن فشلت كافة المحاولات الصهيونية لاحتنلال حي القطمون وبالتالي فك الحصار عن الأحياء اليهودية في القدس ولا سيما حي ميكور حاييم، ومع اقتراب موعد جلاء القوات البريطانية عن فلسطين، أولت القيادة الصهيونية منطقة القدس جل اهتمامها وعملت على تعزيز قواتها فيها بحيرة وحداتها المقاتلة، ومنها اللواء هاريئل (بالماخ)* الذي تحرك باتجاه القدس يوم 20/4/1948 في نافلة من 350 عربة على رأسها دافيد بن غوريون رئيس الوكالة اليهودية*. ولكن هذه القافلة وقعت في كمين أعده لها المجاهدون العرب وتكبدت خسائر فادحة قبل أن تتمكن من التخلص منه بعد وصول النجدات. وعندئذ اتضح للقيادة الصهيونية أنه لا بد لها من خطة متكاملة محضرة جيدا للسيطرة على منطقة القدس فوضعت ما دعته بخطة بيبرس (ويبوس هو اسم القدس قديما باكنعانية).
كان الهدف المباشر للخطة فك الحصار المضروب على القدس الجديدة والحي اليهودي بالقدس القديمة بالاستيلاء في المرحلة الأولى على المناطق الأربع المسيطرة على المدينة وجوارها وهي: النبي صموئيل، والشيخ جراح، والقطمون، ومستشفى أوغستا فيكتوريا على جبل المكبر.
نصت خطة الهجوم على التحرك على ثلاثة محاور: الأولى باتجاه النبي صموئيل بهدف فتح الطريق إلى النبي يعقوب، والثاني باتجاه الشيخ جراح للوصول إلى جبل المكبر، والثالث باتجاه القطمون لتأمين الاتصال بميكور حاييم والمستعمرات الصهيونية حول مدينة القدس.
بدأ تنفيذ الهجوم يوم 27/4/1948 على بيت اكسا وشعفاط تمهيداً لاحتلال النبي صموئيل. وفي اليوم التالي هاجم الصهيونيون حي الشيخ جراح بينما كانت القوة المخصصة لاحتلال القطمون تستعد لتنفيذ مهمتها وفي ليلة 29-30 نيسان تحركت هذه القوة باتجاه ديرمار سمعان عبر درب شديد الوعورة في الوادي ثم تسلقت الرابية من أقسى منحدراتها بهدف مفاجأة المناضلين الذين تمركزوا هناك معتبرين هذا الاتجاه غير صالح للهجوم. وعندما أصبحت على مقربة من الذروة استراحت فترة ثم هاجمت الدير وتمكنت من احتلاله بعد معركة قصيرة مع بعض العراقين التابعين لقوات الجهاد المقدس، إلا أن هؤلاء تمركزوا بعد انسحابهم من الدير في البنايات المجاورة وأمطروا الصهيونيين نيراناً حامية أوقفت فيهم خسائر كبيرة ومنعتهم من توسيع رقعة الاحتلال فقر القائد الصهيوني، وقد بدأت خيوطاً الفجر تلوح، أن يتحصن داخل الدير بانتظار الظلام لمتابعة التقدم. إلا أن هؤلاء تمركزوا بعد انسحابهم من الدير في الدبابات المجاورة وأمطروا الصهيونيين نيراناً حامية أوقعت فيهم خسائر كبيرة ومنعتهم من توسيع رقعة الاحتلال فقرر القائد الصهيوني، وقد بدأت خيوط الفجر تلوح، أن يتحصن داخل الدير بانتظار الظلام لمتابعة التقدم. وكان المجاهدون آنئذ يقتربون خلسة من العدو مستفيدين من أسوار الحدائق وجدران المنازل، وشنوا هجوماً معاكساً على القوات الصهخيونية التي بدأت تشعر بحرج الموقف فصمد عدد منهم إلى سطوح الدير وقذفوا العرب بعدد كبير من القنابل اليدوية مما حد من قوة الهجوم المعاكس ثم ايقافه. وكان عدد القتلى والجرحى بين الصهيونيين قد تزايد كثيراً وساور قلئجهم الشك بامكانية الاحتفاظ بالدير ففكر بالانسحاب. ولكن نظراً لاستحالة نقل الجرحى فقد قرر الانتظار حتى يحل الظلام ثم يبدأ بالانسحاب.
وفي تلك الأثناء وردت أنباء من حي ميكور حاييم المحاصر بأن أعداداً كبيرة من الأهالي العرب بدأت تغادر الحي عن طريق السفوح الأخرى، الأمر الذي رفع معنويات القوات الصهيونية.
عاود العرب بعد ظهر يوم 30 نيسان الهجوم على الدير تساندهم مصفحة تحمل مدفعاً. ولكنهم لم يحققوا أي نجاح لعجزهم عن استغلال القدرة النيرانية للمصفحة بشكل جيد فتوقفوا. وفي المساء سمعت أصوات انفجارات شديدة متواصلة. وعلم الصهيونيون المحاصرون في الدير أن هذه الرمايات من مدفعية اللواء عتصيوني الذي يتحرك من اتجاه كريات شموئيل لدعمهم فقرروا الصمود رغم الخسائر الكبيرة التي منوا بها. ومع حلول الظلام مساء يوم 30 نيسان بدأت قوات اللواء عتصيوني تصل إلى الدير وتحل محل قوات اللواء هارئيل الذي عاد إلى القدس حاملاً جرحاه وجثث قتلاه. وفي صباح 1/5/1948 تابعت قوات اللواء عتصيوني تقدمها من منزل الى آخر حتى تم لها الاتصال بحي ميكور حاييم وسيطرت على حي القطمون بكامله.
بعد أن أخلي حي القطمون من معظم سكانه لم يبق سوى بعض العائلات الفقيرة كان أفرادها يتعاونون في الدفاع عنه مع المجاهدين العراقين والفلسطينيين من قوات الجهاد المقدس الذين كان عددهم يراوح بين 180 و200 مجاهد بعد وصول نجدة اليهم من جيش الانقاذ* بقيادة عبد الحميد الراوي. كما كان هناك حوالي 30 جندياً من القوات الأردنية مع ثلاث عربات مدرعة مكلفة حماية القنصلية العراقية. وما ان بدأ هؤلاء بمساعدة المجاهدين حتى أصدر القائد البريطاني أمراً للقائد الأردني عبد الله التل بسحبها فوراً تعرضت لقصف المدافع البريطانية. ولما أعلم التل الملك عبد الله بذلك أوعز اليه بتنفيذ فانسحبت المفرزة الأردنية.
وحاول ابراهيم أبو دية بعد أن جمع حوالي 300 مجاهد من القرى المجاورة القيام بهجوم معاكس على القطمون واسترداده، ولكن القوات البريطانية حالت دون وصوله.
وهكذا سقط أجمل حي عربي في القدس بسبب تفوق العدو العددي الكبير (بلغت القوات المهاجمة حوالي ثلاثة آلاف) وتقاعس الجنود البريطانيين عن تنفيذ وعودهم بالمحافظة على الوضع القائم حتى انتهاء الانتداب.
المراجع:
- عارف العارف: النكبة، بيروت 1956.
- حسن البدري: الحرب في أرض السلام، القاهرة 1976.
- عبد الله التل: كارثة فلسطين، القاهرة 1959.
- محمد فائز القصري: حرب فلسطين، دمشق 1962.