كان القضاء في فلسطين منذ الفتح العمري يعتمد على الشرع الإسلامي بمصادرة المعروفة. وكان القاضي يفصل في جميع الخصومات وبين جميع الأطراف. وقد تعدد القضاة بتعدد المذاهب المعروفة. وكان الحاكم أحياناً يفرض مذهبه على القضاء.
قام التنظيم القضائي في فلسطين في العهد العثماني على أساس المحاكم الشرعية التي كانت تنظر في جميع القضايا المدنية والجزائية. وكان السلم القضائي درجة واحدة دون استئناف أو نقض على الوجه المعروف في هذا العصر. وكان شيخ الإسلام في استنابول هو المرجع النهائي في الفتوى والشريعة الإسلامية هي القانون الذي تطبقه المحاكم دون أن تكون “مقننة” على نمط القوانين الحديثة.
أرغمت الدول الأوروبية الدولة العثمانية في فترة ضعفها على منح رعايا هذه الدول امتيازات خاصة داخل الدولة. ومن أهم هذه الامتيازات وأشدها خطراً إخراج أولئك الرعايا من دائرة اختصاص القضاء الوطني بحيث أصبحت قضاياهم تنظر أمام محاكم خاصة هي المحاكم المختلطة والمحاكم القنصلية. وكان في هذه التدابير اعتداء صارخ على سيادة الدولة العثمانية وسيادة الشريعة في بلادها (رَ: الامتيازات الأجنبية).
حاولت الخلافة العثمانية منذ أواسط القرن التاسع عشر أن تلغي نظام الامتيازات وتسترد سيادتها وسيادة القضاء الوطني فشرعت تمهيداً لذلك في اتخاذ سلسلة من الاجراءات التشريعية الرامية إلى تحديث النظام القضائي في أراضي الدولة العثمانية وتقريبه هيكلياً من النظم القضائية المعمول بها في أوروبا أملا في أن يكون ذلك حافزاً للدول الأوروبية على إنهاء نظام الامتيازات ذات العلاقة بالاختصاص القضائي.
وقد عرفت مرحلة الاصلاحات التشريعية هذه بمرحلة التنظيمات التي بدأت باصدار “خطي شريف كلخانة” عام 1839 أعلنت بموجبه المساواة أمام القانون بغض النظر عن الدين. ثم تلا ذلك “خطي شريف همايون” صدر عام 1856 وأنشئت بموجبه المحاكم ذات الاختصاص المستقل. وهكذا ظهرت لأول مرة إلى جانب المحاكم الشرعية والملية محاكم جديدة هي المحاكم المدنية.
وتلا ذلك في مجال القضاء صدور تشريع جديد عام 1864 أقام نظاماً قضائياً من ثلاث درجات: المحاكم الجزائية، والمحاكم الابتدائية، ومحاكم الاستئناف، تمشياً مع الأنظمة الغربية في هذا الشأن. وأصبحت هذه المحاكم تعرف بالمحاكم النظامية تمييزاً لها عن المحاكم الشرعية والمحاكم الملية. وأصبح مجلس التنظيمات في استانبول محطمة استئناف بالنسبة إلى محاكم العاصمة ومحكمة نقض بالنسبة إلى بقية أجزاء الامبرطورية العثمانية.
وفي عام 1876 صدر الدستور الذي لم يعمر طويلاً والذي أقر التنظيمات السابقة ونص على أن تعالج المحاكم الشرعية القضايا الشرعية في حين تعالج المحاكم النظامية (المدنية) القضايا التي ينظمها (القانون) دون تحديد واضح لتوزيع الاختصاصات. وهذا أمر طبيعي في الدساتير إذ تترك التفاصيل للقوانين الخاصة. وتبعاً لذلك صادر في عام 1886 تشريع يحدد اختصاص المحاكم المدنية ويقصرها على القضايا التجارية والمعاملات والقضايا الجزائية في حين تنظر المحاكم الشرعية في قضايا الأحوال الشخصية من زواج وطلاق ونفقة وارث ودية وما شابهها وفقاً للشريعة الإسلامية. وفي الحالتين كانت المحاكم من نظامية وشرعية تطبق أحكام الشرعية القضايا الشرعية في حين تعالج المحاكم النظامية (المدنية) القضايا التي ينظمها (القانون) دون تحديد واضح لتوزيع الاختصاصات. وهذا أمر طبيعي في الدساتير إذ تترك التفاصيل للقوانين الخاصة. وتبعاً لذلك صدر في عام 1886 تشريع يحدد اختصاص المحاكم المدنية ويقصرها على القضايا التجارية والمعاملات والقضايا الجزائية في حين تنظر المحاكم الشرعية في قضايا الأحوال الشخصية من زواج وطلاق ونفقة وارث ودية وما شابهها وفقاً للشريعة الإسلامية. وفي الحالتين كانت المحاكم من نظامية وشرعية تطبق أحكام الشريعة.
وإلى جانب هذه الاجراءات التنظيمية كانت عملية التشريع تدور في اتجاه آخر هو محاولة تقنين الأحكام الشرعية. فقد صدر قانون خاص بالأراضي، ومجلة الأحكام الشرعية، وقانون للمرافعات المدنية. وبارغم من كل هذه الإجراءات لم توافق الدول الغربية على إنهاء نظام الامتيازات .
دخل الاستعمار الغربي عقب الحرب العالمية الأولى إلى فلسطين التي سلخت نهائياً عن الامبراطورية العثمانية بموجب معاهدة لوزان عام 1922. وصدرت مع بداية الادارة العسكرية البريطانية تشريعات أبقت على النظام القضائي الذي كان سائداً في فلسطين قبل الاحتلال العسكري. ففي 24/6/1918، أي بعد ستة أشهر من سقوط القدس في أيدي الحلفاء، صدر الاعلان رقم 42 بإعادة تنظيم القضاء فأنشئت محاكم صلح (محاكم جزائية)، ومحاكم ابتدائية. ومحكمة استئناف حلت محل محكمة النقض في استانبول، وألغي اختصاص شيخ الإسلام. وفي 18/11/1918 أنشئت محكمة استئناف شرعية وغدت المحاكم المدنية المرجع المختص الصالح في حال تنازع الاختصاص بين المحاكم المدنية والمحاكم الشرعية. وفيما يتعلق بالأشخاص فقد نزع الاختصاص من المحاكم الشرعية والملية بالنسبة إلى الأجانب وأخضعوا للمحاكم المدنية، إلا إذا اختاروا هم اللجوء إلى المحاكم الملية.
وبموجب الاعلان 42 المذكور غدا القانون الذي تطبقه المحاكم من مدنية وملية القانون العثماني الذي كان سارياً قبل الاحتلال “بعد تعديله حسب الاقتضاء” في ضوء القانون الدولي الخاص ومقتضيات حسن الإدارة.
وفي مرحلة مبكرة من الاحتلال البريطاني بدأت المؤامرة على الأراضي. ففي عام 1921 أنشئت لأول مرة في تاريخ فلسطين محاكم خاصة تنظر في الحقوق المتعلقة بالأراضي مهما كان نوعها، وفيما يترتب على تلك الحقوق من نتائج.
وفي 10/8/1922 صدر أمر مجلس الملك الخاص بما يمكن تسميته دستور فلسطين. وخلافاً لجميع الدساتير أغفل هذا الدستور أية اشارة إلى نوع الحكم وحقوق الأفراد وغير ذلك من الأمور الأساسية التي ترد عادة في الأحكام العامة للدساتير ويلجأ إليها المواطنون عند الاعتداء على حقوقهم. وقد جاء هذا القصور متعمداً بحيث لا توجد وثيقة دستورية تحاسب الحكومة بموجبها على ما تتخذه من إجراءات أو تسنه من قوانين. وأقر هذا “الدستور” النظام القضائي الذي كان سائداً في ظل الإدارة العسكرية. غير أنه وضع اللمسات الأخيرة فيما يتعلق نظام الاستئناف فأنشئت محكمة عدل عليا ذات اختصاص استئنافي فيما يتعلق بأحكام المحاكم الابتدائية ومحاكم الأراضي ويحاكم الجنايات، واختصاص ابتدائي ونهائي فيما يتعلق بالطلبات والالتماسات التي لا تقع ضمن اختصاص أية محكمة من المحاكم القائمة كالطعن في القرارات الإدارية. وفي أحوال خاصة كان يطعن في أحكام محكمة العدل العليا هذه أمام مجلس الملك الخاص في لندن.
وفي التنظيمات الجديدة بقيت المحاكم الشرعية على حالها، ولكنها أصبحت تابعة للمجلس الإسلامي الأعلى* الذي أنشىء في 20/12/1921.
ثم صدر نظام المحاكم لسنة 1924 فاستقر النظام القضائي على الوجه الآتي: في القمة محكمة العدل العليا، واختصاصها على الوجه الذي سبق بيانه، ومحاكم مركزية في القدس* ويافا* ونابلس* وحيفا تشابه المحاكم الابتدائية في الاختصاص، ومحكمة جنايات، ومحاكم صلح تشابه في الاختصاص المحاكم الجزائية، ومحاكم خاصة بالأراضي.
وكان إلى جانب هذه المحاكم العادية محاكم عسكرية تحتال عليها جميع القضايا ذات الطابع السياسي في ظل قوانين الطوارىء التي بقيت سارية في فلسطين معظم فترة الانتداب البريطاني. وكانت هذه المحاكم خارجة عن باقية المحاكم العادية.
وقد سبقت الإشارة إلى الاهتمام المبكر بموضوع الأراضي وإنشاء محاكم خاصة بها، في حين أن قضايا الأراضي تنظر فيها عادة المحاكم المدنية العادية. بيد أن الرغبة في الاستيلاء على الأراضي لصالح الصهيونية كان أقوى من احترام مبادىء العدل والقانون السائدة في العالم. وتنفيذاً لهذا المخطط استحدثت الإدارة البريطانية فيما بين عامي 1920 و1923 نظاماً في غاية الخطورة خول المندوب السامي سلطة تحويل الأراضي الأميرية إلى أراضي ملك أو أراضي متروكة، وذلك “دون أي اعتبار لأية أحكام مغايرة نص عليها قانون الأراضي العثماني، أو أية قوانين أخرى خاصة بالأراضي”، كما جاء في القانون. وهكذا وضع المندوب السامي فوق القانون فيما يتعلق بالأراضي الأميرية التي كانت تؤلف جزءاً كبيراً من أراضي فلسطين (رَ: الأرض، ملكية). ويعتبر هذا الاجراء في أي مجتمع متحضر عملاً غير دستوري واعتداء صارخاً على سيادة القانون. ولكن دستور فلسطين جاء خالياً من أية اهتمامات دستورية. فلم يكن بالامكان الطعن أمام القضاء في أي إجراء يتخذه المندوب السامي تنفيذا لهذه السلطات غير الدستورية. ونتيجة لهذا سجلت معظم الأراضي في فلسطين أموالاً عامة، وصار على الأفراد أن يقيموا الدليل المضاد، ولم يكن ذلك بالأمر السهل.
ثم جاءت قوانين تسوية الأراضي التي وضعت لإرغام الشعب الفلسطيني على بيع أراضيه فانتزعت من القضاء حق النظر في الدعاوى الخاصة بالملكية وتصحيح السجلات العقارية. وأسند هذا الاختصاص إلى مدير تسوية الأراضي الذي كان في معظم الأحوال صهيونياً. وكانت قرارات المدير نهائياً لا يجوز الطعن فيها إلا باذن خاص من رئيس محكمة الأراضي، كما لم يكن جائزا الطعن في قرارات محكمة الأراضي الناظرة في هذه الطعون أمام محكمة العدل العليا. ولم يعط حق الطعن هذا إلا عام 1939 بعد أن تم تنفيذ الجزء الأكبر من مخطط الاستيلاء على الأراضي. وكان اعطاؤه تحت ضغط ظروف الحرب العالمية الثانية.
كان الاعتداء على حرمة القضاء شيئاً مألوفاً حتى شمل التمييز بين القضاة أنفسهم في التشكيلات القضائية. فكان رؤساء المحاكم دائماً من الانكليز. وأغرب من هذه أنه كان ينبغي تأليف هيئة محكمة العدل العليا حين يعرض عليها، بوصفها محكمة استئناف، طعن في قضية شخص أجنبي محكوم عليه بالاعدام من ثلاثة قضاة اثنان منهم على الأقل من البريطانيين.
ولذلك كان من حق النائب العام ايقاف الاجراءات الجنائية حتى بعد صدور قرار قاضي التحقيق باحالة الدعوى على المحكمة المختصة، أي بعد خروج القضية من يد النيابة العامة. كما أنه كان يجب على قاضي الصلح (أي المحكمة الجزائية) إذا عرضت عليه قضية تتعلق بموقف حكومي قصر في أداء واجباته الوظيفية أن يحيل الشكوى على النائب العام، ولم يكن له أن يمضي في نظر الدعوى إلا بناء على تعليمات هذا النائب العام. وبهذا توافرت الحماية للموظفين، ولا سيما للشرطة، لانتهاك حقوق الناس دون رقابة فعلية من القضاء.
ولم يكن القضاء بالمقابل يستطيع التعرض للعقوبات الجماعية التي كانت تفرض على القرى العربية، أو الأحياء العربية في المدن، بالرغم من أن العقوبات الجماعية تعد اعتداء صارخاً على مبادىء القانون الجنائي من خصوصية الجريمة والعقوبة والفاعل.
وعلى الجملة فإن القضاء في فلسطين في عهد الانتداب البريطاني كان قضاء من نوع فريد في كثير من جوانبه. فقد أخضع لاعتبارات سياسية ومخالفات للمبادىء القانونية المعمول بها في جميع أرجاء العالم المتحضر. وكانت هذه المخالفات ترتكب باسم القانون لأنها كانت تصدر بقانون، أو بناء على قانون، وكان القضاة عاجزين عن التصدي لها حتى لو أرادوا.
القضاء: رَ: الإدارة
القطارات: رَ: السكك الحديدية