بدأ اهتمام منظمة العمل الدولية بقضية فلسطين في وقت متأخر بالنسبة إلى الوكالات المتخصصة الأخرى المرتبطة بالأمم المتحدة، لأن الناحية الاجتماعية من القضية كانت موضع اهتمام اجهزة دولية أخرى، مثل المجلس الاقتصادي والاجتماعي، ولجنة حقوق الإنسان*، ومنظمة الصحة العالمية* وغيرها.
بعد حرب 1973*، وتوسع اهتمام الأمم المتحدة، بمختلف منظماتها ووكالاتها المتخصصة وأجهزتها، بقضية فلسطين، عكفت منظمة العمل الدولية على معالجة النواحي التي تخصها من القضية، كحقوق النقابات العمالية، والحقوق الاجتماعية، وحقوق الإنسان الأساسية، وحرية العمال وكراميتهم في الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة. فأصدر المؤتمر العام للمنظمة في دورته التاسعة والخمسين القرار رقم 9 بتاريخ 20/6/1974. وكان هذا أول قرار تتخذه المنظمة المذكورة بشأن قضية فلسطين.
أكد هذا القرار في مقدمته على حق العمل، وحرية التنقل، وحق التجمع، وحق التنظيم المهني النقابي، وحقوق النقابات التي تمكن ممارستها دون توفر الاستقلال والحرية السياسية، ورأي أن “حالة العرب الخاضعين للاحتلال الإسرائيلي، شبيهة بحالة العمال الذين يتعرضون للتمييز العنصري في جنوب افريقيا، وغيرها من المناطق الافريقية الخاضعة لنظام استعماري أو تساقط أجنبي. وأعلن قلقه “لاستمرار مخالفة السلطات الإسرائيلية لحقوق الانسان وحقوق العمال في المناطق المحتلة، وعبر عن انزعاجه من “النتائج الخطيرة الناتجة عن هذه المخالفات”.
تضمن القرار الفقرات التنفيذية التالية:
“1- يعلن المؤتمر أن أي احتلال لمنطقة ما ناتج عن “الاعتداء يشكل بحد ذاته خرقاً لحقوق الانسان الأساسية، وبصورة خاصة لحقوق النقابات والحقوق الاجتماعية.
“2- يدين المؤتمر سياسة التمييز العنصري، وخرق حريات النقابات وتعطيل حريات الانسان الأساسية، التي تمارسها السلطات الإسرائيلية ضد الشعوب العربية.
“3- يدعو الهيئة الحاكمة لمكتب العمل الدولي والمدير العام إلى:
“أ- أن يستعملا جميع الوسائل المتوفرة في منظمة العمل الدولية لوضع حد فوري لهذه المخالفات ولهذه الممارسات التمييزية.
“ب- أن يتخذا جميع التدابير القادرة التي تكفل حرية العمال العرب وكرامتهم في المناطق المحتلة”.
وطلب المؤتمر من المدير العام أن يقدم إلى الدورة المقبلة تقريراً عن تنفيذ هذا القرار.
وكان من نتيجة هذا القرار أن أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية* عن قرارها بالانسحاب من منظمة العمل الدولية، وقدمت عقب الدورة الثانية والستين (حزيران 1976) كتاباً إلى المنظمة أثبتت فيه انسحابها رسمياً وفقاً للإجرءات الدستورية، بحيث يسري الانسحاب بعد انقضاء عامين على تاريخ تقديم الكتاب المذكور. وعللت الولايات المتحدة قرار انسحابها بأن المنطقة – وهي منظمة متخصصة بالعمل وشؤونه- أخذت تتدخل في اطار السياسة والشؤون السياسية الدولية التي تخص أجهزة دولية أخرى، وادعت بأن منظمة العمل الدولي:
1) أصبحت مسيسة ومسخرة لأغراض لا تفيد شؤون العمل والعمال (مثل منح منظمة التحرير الفلسطينية* مركز المراقب).
2) تدين قبل أن تحقق، كما فعلت حين دانت اسرائيل بالقرار رقم 9 (1974).
بذلت الولايات المتحدة جهوداً متواصلة لإقناع أكبر عدد ممكن من الدول بأن تتخذ التدابير الهادفة إلى إزالة الأسباب التي دعت الولايات المتحدة إلى إعلان قرار انسحابها من المنظمة، وذلك بتعديل الأنظمة الناقدة في منظمة العمل الدولية، ولكن جهودها انتهت إلى الاخفاق.
عادت الولايات المتحدة في الدورة 63 للمؤتمر العام لمنطقة العمل الدولية (حزيران 1977) إلى بذل جهودها، مركزة على تحقيق الغرضين التاليين:
1) تعديل دستور المنظمة بشكل يمنع مؤتمرها العام أن يناقش شؤوناً سياسية.
2) عدم إثارة تنفيذ القرار 9 (1974).
غير أن جهودها أحبطت للمرة الثانية، بفضل مواقف الدول العربية والإسلامية والاشتراكية وغير المنحازة.
وكان المدير العام للمنظمة، بناء على التكليف المحدد في القرار 9 (1974)، قرر بعثة الى الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة، لتقصي الأوضاع العمالية فيها. لكنه ألغى قراره هذا تخوفاً من الضغوط الأمريكية والعربية عليه، وبخاصة أن انسحاب الولايات المتحدة أدى إلى حرمان المنطقة من 25% من ميزانيتها، مما خلق مصاعب للمنطقة ولموظيفها. ثم عاد المدير العام إلى قراره الأول بعد أن بينت له الوفود العربية والصديقة مخاطر تراجعه عن قرار أصدره.
وهكذا تم إيفاد البعثة، التي عرفت باسم رئيسها فسميت “بعثة فالتكوس”، إلى (إسرائيل) والأراضي العربية المحتلة الأخرى في فلسطين والجولان*، وأجرت لقاءات وأحاديث مع السلطات المحتلة ومنظمات العمال وأصحاب العمل، وبعض رؤساء البلديات والقادة النقابيين العرب، وأعدت ثلاثة تقارير عن زياراتها، وأهمها تقرير عام 1980. وقد حاولت فيه اللجنة أن تضع دراستها الميدانية في اطار الاحتلال العسكري الإسرائيلي، وربطت بين بناء المستعمرات وأثره على مستقبل العمال العرب، وأقرت بوجود تناقض وتعارض بين استمرار سياسة الاستيطان الإسرائيلي وهدف التنمية وفرص الاستخدام. ولكنها، من جهة أخرى، أعلنت أن المشكلات التي يطرحها الاحتلال ليست، في حد ذاتها، من اختصاص منظمة العمل الدولية، إلا أن الاحتلال-بحسب قول اللجنة – يجب أن يكون ماثلاً في الذهن لم يترتب عليه من نتائج وآثار في ميدان العمل. وتضمن التقرير، إلى جانب ذلك، دعوة إلى متابعة مشاهدات اللجنة في الأراضي المحتلة، لأن الوقائع التي ذكرتها تنطوي على انتهاكات فاضحة لمعايير العمل المتعارف عليها لحماية العمال، وإزالة التمييز، وضمان حقوق العمال النقابية والاجتماعية والاقتصادية، ومنح أحداث الأحداث. وقد عمدت اللجنة إلى دراسة جميع هذه الشؤون، وعرضت وجهة نظر سلطات الاحتلال،وما اتخذته هذه السلطات وما لم تتخذه من تدابير لتلاقي الأوضاع التي أتى التقرير على ذكرها. ثم قامت بتقويم الاوضاع على ضوء وجهتي نظر متناقضتين تماماً. وقد أدى هذا الأسلوب الذي اتبعته اللجنة إلى تضمين التقرير ادعاءات السلطة المحتلة وأكاذيبها، وجاءت وجهة النظر العربية لتنتقضها وتوضح الحقائق القائمة في ميدان العمل وشؤون العمال.
واستناداً إلى هذا التقرير، قدمت الوفود العربية إلى الدورة 66 للمؤتمر العام للمنظمة (9-25/6/1980) مشروع قرار عنوانه “آثار المستعمرات الإسرائيلية في فلسطين والأراضي العربية المحتلة الأخرى فيما يتعلق بوضع العمال العرب”.
حاولت الولايات المتحدة – التي عادت إلى عضوية المنظمة عام 1980- و(إسرائيل) والدول العربية وبعض الدول أمريكا اللاتينية إحباط المشروع، ثم كلفت جهوداً لإسقاطه أثناء التصويت. غير أن المشروع نجح بالأكثرية المطلوبة، وصدر عن المؤتمر العام يوم 24/6/1980.
استند المؤتمر العام في مقدمة القرار إلى القرار رقم 9 (1974)، وإلى قرارات الأمم المتحدة، وبخاصة مجلس الأمن، فيما يتعلق بالمستعمرات وإزالتها، واعتبار الإجراءات الإسرائيلية لتغيير معالم الأراضي المحتلة باطلة ولاغية كما عبر المؤتمر العام عن قلقه لما جاء في تقرير البعثة عن آثار سياسة الاستيطان الإسرائيلية على العمل والاستخدام “وحرمان العمال العرب من أراضيهم ومساكنهم” وحالة معيشتهم، و”تكثيف سياسات الاستيطان وتزايد عدد المستعمرات في وقت تنخفض فيه فرص العمل وتتوقف التنمية، وبخاصة في القطاع الزراعي، مما أدى إلى هبوط في دخل العمال الزراعيين، وما ترتبه هذه السياسات من أصرار مادية ونفسية ومعنوية على العمال العرب في فلسطين والأراضي العربية المحتلة الأخرى”. ولا حظ المؤتمر أيضاً، بقلق، النتائج السلبية لسياسة الاستيطان” على حقوق وحريات انشاء المنظمات العمالية في فلسطين والأراضي العربية المحتلة الأخرى، ولا سيما القرار الإسرائيلي غير المشروع رقم 825 تاريخ 20/2/1980، بتعديل المادة 83 من قانون العمل الأردني رقم 21 لعام 1960، هذا التعديل الذي يشكل خرقاً فاضحاً لحقوق العمال العرب النقابية وحرياتهم في الأراضي العربية المحتلة”.
وقد تضمنت فقرات القرار تنفيذية، بعد هذه المقدمة، أن المؤتمر العام.
“1- يعبر عن قلقه من إقامة المستعمرات الإسرائيلية في فلسطين والأراضي العربية المحتلة الأخرى، وكذلك نتائجها الاقتصادية والاجتماعية التي تؤثر، على نحو خطير، في الحقوق والمصالح الاجتماعية والاقتصادية للعمال العرب.
“2- يشجب بشدة اقامة المستعمرات الإسرائيلية في فلسطين والأراضي العربية المحتلة الأخرى منذ حزيران 1967.
“3- يطالب السلطات الإسرائيلية بوضع حد فوري لإقامة المستعمرات في فلسطين والأراضي العربية المحتلة الأخرى بما فيها القدس، وإزالة ما هو قائم منها.
“4- يدعو جميع الدول إلى عدم تزويد إسرائيل بأية مساعدات تستعمل بالتحديد فيما يتعلق بالمستعمرات في الأراضي العربية المحتلة.
“5- يدعو مجلس إدارة مكتب العمل الدولي والمدير العام إلى:
أ) تقديم جميع أشكال العون والمساعدة إلى المواطنين العرب في فلسطين والأراضي العربية المحتلة الأخرى، لتطوير قدراتهم الاقتصادية والتقنية ولمواجهة الآثار الناجمة عن الاحتلال وسياسة الاستيطان الإسرائيلية.
ب) اتخاذ جميع التدابير اللازمة لوضع هذا القرار موضع التنفيذ.
“6- يدعو المدير العام إلى تقديم تقارير دورية سنوية إلى المؤتمر العام حول وضع العمال العرب في فلسطين والأراضي العربية المحتلة الأخرى طبقاً للأحكام الواردة في هذا القرار”.
واجهت الدول العربية، وما تزال، محاولات وجود الولايات المتحدة و(إسرائيل) وأصدقائهما من أجل إقصاء جانب من جوانب قضية فلسطين – وهو جانب العمل والعمال- عن منطقة العمل الدولية. وفي الواقع، لم تزج العمل العربية المنظمة في ميدان العمل السياسي، وإنما طالبت – بحق ووفق دستور المنظمة واختصاصاتها- بدراسة الوضع العمالي في فلسطين والأراضي العربية المحتلة الأخرى. وقد استطاع العرب إحباط الجهود والمحاولات الأمريكية – الإسرائيلية، وإقناع مندوبي دول العالم في المنظمة بعدالة قضيتهم.
المرجع:
– قرارات منظمة العمل الدولية ومحاضر اجتماعات المؤتمر العام للمنظمة.