قد يرجع تاريخ الوجود العربي في فلسطين خاصة، وبلاد الشام عامة إلى أوائل الألف الأول قبل الميلاد. وازداد منذ القرن الثالث الميلادي حتى ظهور الإسلام*. وهناك من يرجع وجودهم إلى ما قبل هذا التاريخ، إذ تظهر بعض النقوش البابلية أن الملك “نرام سين” غزا فلسطين حوالي سنة 2250 ق.م.، وحارب العرب في في سيناء ومعان.
إن جانباً كبيراً من تاريخ بلاد الشام قبل الإسلام يتعلق بظاهرة الهجرات العربية المتتالية التي نزح فيها العرب إلى مناطق مختلفة من بلاد الشام، أما بطريق التغلغل السلمي وإما بالطريق الجنوبي. وإلى ذلك يستند ابن خلدون حين يقرر أن أول من ملك الشام في التاريخ هم العرب.
وما من شك أن بلاد الشام والعراق هي امتداد طبيعي لجزيرة العرب. ولذلك فإن هذه الأقاليم تكون وحدة لا يمكن فصلها عن الجزيرة العربية من الناحيتين الطبيعية والبشرية. وكان من الطبيعي أن تتحرك الهجرات العربية إلى المناطق الصحراوية، أو التي دمرت بفعل انهيار السدود، إلى مواطن الخصب ومراكز التجارة.
والمعروف أن الأقدمين قسموا بلاد العرب إلى ثلاثة أقسام رئيسة: العربية السعيدة، والعربية الحجرية، والعربية الصحراوية. والمهم هنا هو القسم الثاني الذي كان محاذياً للإمبراطورية الرومانية، ثم وقع تحت نفوذها. وهو يشمل سيناء والأنباط*، وفلسطين الحالية كلها، وشرق البحر الميت*، ووادي عربة* حتى خليج العقبة*، والأطراف الشمالية والغربية للعربية السعيدة، وتبلغ في نهايتها الشمالية مدينة دمشق.
وحين أصبحت بلاد الشام تحت حكم الإمبراطورية البيزنطية في نهاية القرن الرابع الميلادي قسمت إدارياً إلى ثلاثة أقسام رئيسة: سورية، وفينيقية، وفلسطين. وقسمت فلسطين إلى ثلاثة أجزاء إدارية:
1) فلسطين الأولى Palestina Prima وكانت قيصرية مدينتها الرئيسة، وضمت القدس* ونابلس* ويافا* وغزة* وعسقلان وغيرها.
2) فلسطين الثانية Palestina Seconda ومركزها بيسان*، ومن مدنها جدرة وطبرية*.
3) فلسطين الثالثة Palestina Terra ومدينتها الرئيسة البتراء. وقد اهتدى المسلمون بعد تحريرهم بلاد الشام بهذه القسيمات الإدارية، آخذين في حسابهم الظروف الجديدة والمصالح الاستراتيجية والبشرية. وقسموا بلاد الشام إلى أجناد، وكان من أهمها جند فلسطين الذي يقع جنوب سهل عكا*، ويحده البحر المتوسط غرباً، وصحراء التيه جنوباً، والبحر الميت وغوطة الأردن شرقاً (رَ: الإدارة).
تنافس السبئيون والمعينيون، خلال الألف الأولى قبل الميلاد، على النفوذ والسيادة في الواحات التي تمر بها الطريق التجارية. فكان في كل واحدة مهمة جاليات من عرب الجنوب تنمو باستمرار. ونزلت ثمود* قرب تيماء، وهي من قبائل الجنوب، ولا تبعد عنها مواطن عتاد*، وهي قبيلة عربية أخرى. وفي المصادر العربية روايات عن الهجرات الأولى صوب الشمال.
فحين يتحدث الهمداني عن الأزد بعد تركهم اليمن يؤكد أن منهم من سار إلى الشام قبل آل الحارث وآل جفنة ابني عمرو. وتشير رواية أخرى إلى أن “طوائف من عرب ربيعة ومضر قد سكنت الجزيرة (الفراتية) حتى صار لها ديار ومراع، فنزلوا على خفاوة فارس والروم، حتى أن بعضهم تنصر، مثل تغلب على الجزيرة، وغسان وبهراء وتنوخ* في أرض الشام”. وهكذا كانت هناك حركة طبيعية للقبائل العربية للاستيطان في بلاد الشام. وفي ذلك يقول المسعودي: “كانت قضاعة* أول من نزل الشام، وانصافوا إلى ملوك الروم، فملوكهم، بعد أن دخلوا في النصرانية، على من حوى الشام من العرب. وكان أول من ملك من تنوخ النعمان بن عمرو … ثم وردت سليح الشام، فغلبت على تنوخ، وتنصر من ملكته الروم على العرب الذين بالشام … وغلبت غسان علي من بالشام من العرب فملكها الروم على العرب”. وهكذا أتيح لقضاعة القيام بدور تاريخي في المناطق الجنوبية لبلاد الشام. ثم جاءت هجرة بني غسان فاتحة لنفوذهم بعد سيادتهم على القبائل هناك مثل سليح. وتداخلت طيىء* وبنو مرة في أرض الغسانيين. كما نزلت إلى جوار غسان لخم* وجذام* وبنو كلب*.
وكانت سياسة الرومان اتخاذ الأراضي التي لا يمكن اجتيازها، كالصحراء، حدوداً طبيعية، وإقامة سلسلة من الحصون على طرف الصحراء لمواجهة العدو الفارسي. وعلى النهج نفسه سار البيزنطيون منذ القرن الرابع الميلادي، فاستعانوا بالقبائل الموجودة هناك في أعمال الدفاع والهجوم. وهكذا ارتبطت القبائل العربية بمخطط السياسة البيزنطية الفارسية، فكانت ثمود مثلاً تقطن حدود المنطقة التي سميت فيما بعد فلسطين، ودفع لها الرومان اتاوة سنوية مقابل اعترافتهم بسلطان الروم. ولكن ذلك لا يعني أن ثمود اعتبرت جزءاً من الامبراطورية الرومانية، ولكنها كانت خاضعة لنفوذها المباشر. ومما يؤكد ذلك أن فروة بن عمر الجذامي كان عاملاً للبيزنطيين على معان وما جاورها، ولكنه أسلم، ولما علم البيزنطيون باسلامه أمروا الحارث بن أبي شمر الغساني أن يقتله، فأخذه وصلبه في فلسطين قرب الطفيلة من أعمال الكرك.
ويبدو أن نفوذ الرومان وخلفائهم البيزنطين بقي مقتصراً على إقليم فلسطين بمناطقه الثلاث، وما عدا ذلك فقد حالفوا القبائل العربية المستوطنة أطراف بلاد الشام وشمالي الحجاز، ودفعوا أحياناً أتاوة لهم اعترافاً بسلطانهم.
شهدت بلاد الشام، ومنها فلسطين، قبل الإسلام ثلاثة كيانات عربية رئيسة هي: الأنباط في الجنوب، وتدمر في الشمال، والغساسنة* بينهما. ولعل هذه الكيانات السياسية كانت تشترك بخصائص عامة، فأصلها يرجع إلى استيطان العرب البدو، وازدهارها يعود إلى تجارة المرور (الترانزيت) ثم كان لها دورها السياسي دولة حاجزة بين الدولتين البيزنطية والفارسية.
ظهر الأنباط لأول مرة في القرن السادس قبل الميلاد قبائل بدوية شرقي البحر الميت. وكانوا أول أمرهم رعاة عند اللحيانيين في عاصمتهم الحجر، ثم تدرجوا من الرعي إلى الزراعة* والتجارة*، ثم صاروا مجتمعاً متقدماً منظماً في أواخر القرن الثامن قبل الميلاد. وغدت البتراء محطة للقوافل، وقد حفرت في قلب صخر رملي ، وتسمى بالعربية “الرقيم”. وقد اتسعت مملكة الأنباط في أوج ازدهارها لتشمل الأقسام الجنوبية والشرقية من فلسطين وحوران وأدوم ومدين ومراحل البحر الأحمر، ووصلت حتى دمشق إلى الشمال.
اعتمد الأنباط على التجارة، وجمعوا ثروة كبيرة من جراء سيطرتهم على طريق القوافل المتجهة من جنوب الجزيرة العربية إلى الشمال، ومن غزة على البحر المتوسط الى الخليج العربي شرقاً عبر الصحراء. وكانت البتراء المدينة الوحيدة بين الأردن والحجاز، التي فيها مياه غزيرة نقية.
والحارث الأول رأس ملوك الأنباط، لقب بملك العرب، وسنة 169 ق.م. هي فاتحة عهده. وهو معاصر لمؤسس الأسرة المكابية سمعان. سجل الأنباط انتصارات كثيرة على المكايين اليهود، كما توسعوا في عهدي الحارث الثاني والحارث الثالث حتى باتت دولتهم محيطة بمملكة اليهود المكايين عن ثلاث جهات. وكاد الحارث الثالث يستولي على أورشليم لولا هجوم الروم من الشمال، وقضاؤهم على مملكة يهوذا سنة 70م. واستطاع الروم القضاء على الأنباط في نهاية القرن الأول الميلادي.
أدى الاتجاه الجديد في ميزان القوى العالمية، والتحول في طرق التجارة الدولية إلى تزايد أهمية مدينة عربية أخرى ظهرت في أطراف الصحراء، وهي تدمر التي بدأت تحل محل البتراء. وفي هذه المنطقة بالذات كان احتكاك الأشوريين بالعرب منذ الألف الأول قبل الميلاد. ومنذ منتصف القرن الثاني قبل الميلاد وقفت تدمر بين الامبراطوريتين الفارسية والبيزنطية، وساعدها موقعها الصحراوي المنعزل على المقاومة، كما ساعدها وضعها عند ملتقى الطرق التجارة العالمية. وقد استغل حكام تدمر موقعها الاستراتيجي كدولة حاجزة بين دولتين متصارعتين، فوقفوا مرة إلى جانب الروم ومرة إلى جانب الفرس، حتى لا يطغى أحد الجانبين على الآخر. وظلت تدمر مستقلة رغم تبعيتها الاسمية، في بعض العهود، للروم.
وقد انتقل النفوذ السياسي بعد تدمر إلى مشيخات كثيرة على أطراف البادية، ثم استقر في آل جفنة، الغساسنة في الشام. ولما كانت تدمر آخذه بالاضمحلال شق الغساسنة طريقهم إلى حوران، وحلوا محل الضجاعمة* من سليح، وتنصروا في القرن الرابع الميلادي. وأخبار الغساسنة أقرب إلى التحقيق التاريخي ممن سبقهم من الامارات العربية، وإن كانت غامضة في بداياتها. فقد كان الحارث بن جبلة على علاقة جيدة بالامبراطور جستنيان*، الذي لقبه بسيد القبائل العربية في بلاد الشام، ومنحه لقب فيلارك وبطريق. ويبدو أن دولة الغساسنة امتدت من حوران إلى خليج العقبة، وكانت الجولان* أهم مناطقهم. ويبدو أن عدداً من المشايخ احتفظوا، بالرغم من نفوذ الغساسنة، بسلطتهم في بعض المناطق، وهذا ما يوافق سياسة الروم الذين لم يكن من مصلحتهم ظهور أمير عربي قوي بل جملة أمراء متنافسين. وفي عهد المنذرين الحارث (569 -581م تقريباً) ساءت العلاقة بالبيزنطين، فنفي المنذر إلى صقلية، وقطع البيزنطيون المعونة عن الغساسنة، وحاولوا الإستعانة بالقبائل العربية في شمال الحجاز من أجل ضرب الغساسنة، وجرت اتصالات مع قريش التي رفضت تأليب العرب في الحجاز على الغساسنة.
ويبدو أن نهاية القرن السادس وبداية القرن السابع الميلاديين شهادة تدهور أوضاع العرب السياسية في بلاد الشام. ولم يكن هناك كيان سياسي واحد يجمع القبائل والمدن في فلسطين وبقية أجزاء بلاد الشام. فقد ضعف الغساسنة اثر ضربات الروم والفرس، فتجزأ ملكهم. وزادت الحالة السياسية غموضاً حين هاجم الفرس بلاد الشام سنة 611م. ولم يكد النفوذ البيزنطي يعود إلى بلاد الشام على يد الامبراطور هرقل* حتى جويه بالفتوحات الإسلامية.
أما بقية المناطق فكانت تسيطر عليها قبائل أخرى، فكانت البلقاء بيد لخم وجذام وبلقين وبلي بن عمرو، وكان فروة بن عمرو الجذامي يسيطر على معان، ويوحنا بن روية يحكم أيلة. وهكذا انتشرت قبائل العرب وتوغلت داخل بلاد الشام، واستوطنت فيها، وأسست كيانات خاصة واضحة. وقد كان للرومان والبيزنطيين مصلحة في التعاون مع القبائل العربية من أجل حماية حدود بلادهم أمام هجمات الفرس أو البدو، ولذلك فتحوا الباب واسعاً أمام استقرار القبائل العربية وتنقلها في تلك المنطقة. ولم ينقطع سبل التدفق العربي، بل ازداد خلال القرن الثالث الميلادي. وشقت قبائل جديدة طريقها إلى بلاد الشام، فنزل بنو كلب دومة الجندل وتبوك وأطراف الشام ووادي القرى والواحات شرقي حوران وجنوبيها، وأقامت جماعات كلبية أخرى حول سلمية وتدمر، وبذلك ورثت كلب عهد الغساسنة. كما استقرت قبائل أخرى مثل جمح في أذرعات، وأقامت بطون من لخم بين الرملة* ومصر، ونزل بعضها ما بين مدين وتبوك، ونزل فخذ آخر فيما يلي طبرية وأرض الأردن.
يتضح مما مر سابقا إن فلسطين خاصة، بلاد الشام عامة ظلت موطناً للعرب منذ عهد عاد وثمود، ومروراً بالأنباط والتدمريين والغساسنة، وحتى تحرير العرب المسلمين الشام من البيزنطيين. وأن هجراتهم كانت للاستيطان، وأن بعضهم استطاع أن يؤسس كيانات سياسية هناك. وأن هذه الأجيال العربية المتعاقبة كانت العنصر الأساسي البارز الذي يكون مجتمع بلاد الشام. ورغم تغلب الأوضاع السياسية والحضارية ظل عرب الشام محتفظين بخصائصهم البشرية والحضارية، فلم تستطع الأنظمة الدخيلة أو الأقوام الأجنبية أن تغير منها، أو تصبغها بصبغة مختلفة، بل على العكس، غير العرب من المظاهر الحضارية التي اقتسبوها بملا يلاثم قيمهم وتقاليدهم. ولعل كل ذلك ينفي المقولة التي روج لها بعض المستشرقين والسياسيين والتي تزعم أن بلاد الشام حديثة العهد بالعروبة، وأن صلتها بالعرب ترجع إلى ما بعد ظهور الإسلام وانتشاره.
المراجع:
– ابن حزم: جمهرة أنساب العرب، القاهرة 1962.
– الطبري: تاريخ الرسل والملوك، القاهرة 1960.
– نولدكه: أمراء غسان، بيروت 1923.
– أ .موسيل: شمال الحجاز، (مترجم)، الإسكندرية 1952.
– رينيه دبسو: العرب في سورية قبل الإسلام (مترجم)، 1959.
– محمد أحمد باشميل: العرب قبل الإسلام، دمشق 1973.
– فتحي عثمان: الحدود الإسلامية – البيزنطية، القاهرة 1966.