هي حملة استعمارية، عسكرية وسياسية، ساهم اليهود بتمويلها. وقادها نابليون بونابرت سنة 1799م، واستمرت أربعة أشهر، وانتهت بهزيمته عند أسوار عكا* ومن ثم خروج الفرنسيين من مصر.
برز التفكير في الحملة الفرنسية على الشرق العربي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، فقد كانت فرنسا من الدول الاستعمارية التي تطلعت إلى احتلال الشرق، وتوسيع امبراطوريتها. ومما شجعها على ذلك أن توماس كوبرت اليهودي الأيرلندي البارز قد أرسل رسالة إلى صديقه باراراس عضو حكومة الدكتوار “حكومة الإدارة” ينصح فيها الفرنسيين باستعمار الشرق، وخلق لليهود في فلسطين يكون ركيزة لفرنسا داخل هذا الوطن.
كان نابليون قائداً من أبرز قواد الثورة الفرنسية وأخطرهم، وقد لقيت الرسالة اهتماماً بالغاً عنده، عقد على أثره اجتماع سري بينه وبين يهود فرنسا، تمت فيه مساومة مكشوفة بين نابليون واليهود “ينفق اليهود على نابليون وحروبه، على أن يقتسم الطرفان المغانم، لنابليون السلطة والمجد، واليهود المادي وإنشاء إسرائيل”.
وحدد نابليون هدف الحملة أمام حكومة الإدارة الفرنسية بأمرين: الأول قطع طريق الهند على انجلترا وايجاد مستعمرة فرنسية على هذه الطريق. والثاني تحويل البحر المتوسط إلى بحيرة فرنسية.
انطلقت الحملة سنة 1798م بقيادة نابليون لاحتلال مصر بجيش ناهز عنده أربعين ألفاً في سرية تامة. وتزودت بما استطاعت براعة نابليون ومساعده كليبر أن تحشده من جنود ومدفعية وعلماء ومطبعة ومترجمين ونساء متخفيات في زي جنود. ولما اجتاح مصر أعلن أنه إنما جاء صديقاً السلطان العثماني ولأهالي مصر، وأنه يحترم الإسلام والمسلمين، وما جاء إلا لطرد المماليك* أعداء السلطان ومعاقبتهم على قطع التجارة الفرنسية. وأرسل رسائل ودية إلى والي دمشق ووالي عكا – الذين كان ينتظر أن يحركهما الباب العالي ضده – أخفى فيها غرضه الاستعماري وبالرغم من ذلك فقد أخفقت هذه المساعي، وقبض السلطان على الدبلوماسيين الفرنسيين في الآستانة، وكان معنى ذلك قطع العلاقات وإعلان الحرب. وقد أعقب ذلك عقد مخافة دفاعية بين السلطان وروسيا في 25/12/1798م، وانضمت إليها انجلترا في 15/1/1799م، وبهذا عجزت فرنسا عن إرسال المدد والذخيرة لنابليون بسبب سيطرة انجلترا وروسيا على مياه البحر المتوسط، وطلبت منه أن يدير أمره بنفسه.
بعد استيلاء نابليون على مصر أخذ يستعد لاحتلال بلاد الشام، فجهز حملة قدر عدد أفرادها بنحو (12) ألفاً من المشاة والفرسان والمهندسين والمدفعين والهجانة والقواد، وكان هؤلاء الجنود هم صفوة جيشه. وكتب إلى حكومته أن الإنجليز وحدوا قوى الشام للهجوم على مصر، وأنه زاحف الآن إليهم لدفع خطر الهجوم.
غادرت الحملة القاهرة يوم 6/2/1799م، واحتلت العريش في 16 شباط/ فبراير بعد هزيمة المماليك، وبعد أيام كان الفرنسيون يدخلون خان يونس* ورفح* وغزة*. واتجه نابليون إلى الشمال مبتعداً عن الساحل ليحتل اللد* والرملة* ويتزود بالمؤن. ثم وصل إلى يافا* في 3 آذار/ مارس وشرع في حصارها وبناء المتاريس حولها. وكانت المدينة على تل مرتفع ولها سور متين له شرفات وأبراج. ودخل الفرنسيون المدينة في 7/3/1799م، أول أيام عيد الفطر عام 1213هـ، بعد أربعة أيام من القتال العنيف. وقام الجنود الفرنسيون بأبشع الجرائم ضد حامية المدينة وسكانها من رجال ونساء وأطفال ومارسوا السلب والنهب والهتك مدة يومين. وفوجىء نابليون بجنوده يقودون حوالي ثلاثة آلاف أسير وجدوهم في أبراج المدينة وأمنوهم على حياتهم، فغضب لأسرهم وخاف إن هو أطلقهم أن يلتحقوا بالقوى التي تحاربه، وإن أبقاهم ألا يجد المؤونة الكافية لاطعامهم، وبعد أن أطلق منهم المصريين والشاميين أمر بقتلهم خلافاً لكل التقاليد والقوانين، وسيقوا إلى تلال الرمل جنوبي المدينة ليحصدهم الرصاص وليقتل بعضهم بالسلاح الأبيض. وكانت حصيلة المجزرة (2500) شخص أضيفت إلى ألفي شخص قتلوا في أثناء الدفاع عن المدينة، وألقيت الجثث على الرمال لتأكلها السباع والطيور. وتفشى بعدها الطاعون في المدينة.
وفي 9 آذار/ مارس 1799م أرسل بونابرت إلى شيوخ نابلس* يخيرهم بين الحرب والسلام. وكتب إلى أحمد باشا الجزار* يدعوه إلى ترك القتال والعيش في سلام مع الفرنسيين. ولم يحاول المسير إلى القدس*، ويبدو أنه خشي أن يثير المشاعر الإسلامية، وأن يأخذ دخوله معنى الحرب الصليبية، فاكتفى برسالة إلى حاميتها.
قام أحمد باشا الجزار بتحصين عكا، عندما وصلته أخبار الحملة الفرنسية، ومنع رسو السفن القادمة من مصر في مينائه خوفاً من أن تكون فرنسية. وأرسل رسالة (قصيدة شعرية) إلى الشيخ يوسف الجرار شيخ جبل نابلس يطلب النجدة والوقوف في وجه الخطر الكبير الذي يهدد البلاد والعباد. وفي الوقت نفسه وصلت إلى الشيخ مراسم السلطنة العثمانية التي تحث على الجهاد، فقام بتوجيه رسالة (قصيدة شعرية) إلى مشايخ القبائل في جبل نابلس، ورسائل أخرى إلى مشايخ القبائل في جبل القدس والخليل* والبلقاء والكرك وعجلون طلب منهم فيها إرسال النجدات للدفاع عن الوطن، فأرسلوا مجموعات من فرسانهم للمرابطة في مرج ابن عامر*. أما جبال نابلس فقد تم فيه استنفار جميع القادرين على القتال، والتقى قادتهم بالشيخ يوسف في قلعة صانور*، ووضعوا خطة لقتال العدو في أثناء تقدمه نحو التي بلغت سبعة آآلاف مقاتل إلى مرج ابن عامر، حيث انضمت إليه جموع جبل عجلون والبلقاء وعرب الصقر وآل ماضي بالإضافة إلى عسكر الجزار وغيرهم.
تقدم نابليون بجيشه نحو عكا، وبذلك بعساكره طريقاً برياً قريباً من الساحل، وتوجه الأسطول الفرنسي إلى ميناء عكا، فسبقه إليها الأسطول الإنجليزي ومنعه من دخولها وصادر السفن التي كانت تحمل مدافع الحصار. وفي يوم 18/3/1799م، كان نابليون أمام أسوار عكا، وبدأ يستعد لاقتحامها بعد أن احتل حيفا والناصرة*. وحاول اختراق الأسوار ونسف الأبراج أكثر من مرة، ولكن عساكر الجزار ثبتوا في الدفاع عن قلعتهم، ومنعوا نابليون من دخولها.
وكانت نجدة جبل نابلس إلى يافا قد ردتها ميمنة الجيش الفرنسي الزاحف إلى عكا وتعليقها إلى قاقون ثم إلى أحراش وادي الرشا بجوار عزون. وهناك أحاطت بهذا الجموع العربية وأحرقت الأحراش من حولها، فاحترق وقتل عدد كبير من جنودها وتمكن البعض من الهرب وإخبار نابليون بما حدث فأرسل القائد دوماس لإخضاع جبل نابلس، ولكنهم تمكنوا من قتل دوماس وهزيمة قواته في شعاب وادي قاقون، وسمي جبل نابلس بعد ذلك بـ “جبل النار”.
في تلك الأيام وجه نابليون نداء دعا فيه يهود أسيا وافريقيا لتأييده والانصمام إليه مقابل وعد قطعه على نفسه باسترجاع القدس وممتلكاتها وقد خاطب النداء اليهود بقوله: ” يا ورثة فلسطين الشرعيين” وعرض عليهم مساعدة فرنسا في تحقيق وجودهم السياسي كأمة بين الأمم، وفي استعادة وطنهم وتحقيق السيطرة عليه والدفاع عنه ضد كل المخاطر. وفي 22 أيار/ مايو 1799م نشرت الصحيفة الفرنسية الرسمية “لومينيتور” ما يلي حول هذا النداء: “لقد أعلن بونابرت نداء دعا فيه جميع يهود آسيا وافريقيا للانضواء تحت راياته من أجل إقامة القدس القديمة”، فكان نابليون أول من أعطى وعداً بوطن قومي لليهود في فلسطين، أعطاه يوم 4 نيسان/ أبريل 1799م في أثناء حصاره لمدينة عكا. لكن اليهود في ذلك الوقت، في فلسطين وبلاد الشام كانوا أضعف من أن يقدموا دعما لنابليون، فلم يسارعوا إلى تلبية دعوته.
وكان نابليون في بداية حصاره لقلعة عكا قد أرسل مساعده كليبر على رأس قوة بلغت “ألفين” من الجنود، ليرابط في مرج ابن عامر، ويصد هجوماً محتملاً من الشرق، وقد جاء هذا الهجوم بالفعل، من قوات السلطنة العثمانية التي قدمت من الشام، لتلك الحصار عن عكا، لكن قوات كليبر تمكنت من صدهم. ولما وصلت جموع جبل نابلس، والقوات التي التحقت بها، إلى المرج انضمت إلى قوات السلطنة، وبدأت تهاجم قوات كليبر بين بلدة الفولة وجبل طابور في 16 نيسان/ أبريل 1799م، وتضيق عليها الخناق، مستعملة أسلوب الكر والفر. وكادت قوات كليبر تستسلم بعد نفاذ ذخيرتها، ولكن الخبر وصل بسرعة إلى نابليون فانجدها، وقصف المهاجمين بالمدافع التي لا قبل لهم بها، ففروا إلى الجبال المحيطة بمدينة جنين*، فتبعهم نابليون، وأحرق جنين والقرى المجاورة لها، وعاد إلى عكا.
أحس نابليون بمرارة الهزيمة الأولى، وقرر الانسحاب من فلسطين مع من تبقى من جيشه، بعد حصار لعكا دام شهرين، وخسارة تكبدها بلغت (1200) قتيل في الحرب، وألف جندي ماتوا بمرض الحمى والطاعون، و(2300) بين مريض وجريح. وقبل الرحيل أمر بقذف عكا بجميع ما يملك من مدافع، مدة أربعة أيام متوالية، وانسحب إلى يافا في 24/5/1799م وهو يقول: “لو فتحت عكا أبوابها لي لبدلت وجه العالم، وجعلت التاريخ يسير حسب مشيئتي”. وفي 28 ايار/ مايو أنهى احتلاله ليافا، وقبل رحيله نسف حصونها، ودفن ما فيها من مدافع وعتاد في الرمال، والقى بأربعة آلاف بندقية – كان قد غنمها – في البحر، وأحرق المراكب الراسية في الميناء. ولما وجد المئات من جنوده قد أصيبوا بالطاعون، طلب من الأطباء قتلهم بالسم، ومع أنهم رفضوا إلا أنه قتل المرضى والجرحى من عساكره حتى لا يعيقوه في مسيره.
ثم استأنف مسيره. وفي 14/6/1799م دخل القاهرة في موكب عظيم كالمنتصر، ليخفي الهزيمة النكراء التي مني بها. ورحل عنها عائداً إلى فرنسا سراً في 22/8/1799م، وألقى مقاليد قيادة الجيش في مصر إلى كليبر.
كان كليبر أشد القادة الفرنسيين بأساً وغروراً، ثارت مصر في وجهه، فبطش بالمصريين قتلاً وحرقاً وسبياً للنساء، فقتله الفتى الحلبي المجاهد سليمان الحلبي، الذي ثأر لمصر من كليبر بتوجيه طعنة من خنجر مسموم في مقر القيادة الفرنسية بالقاهرة يوم 14/6/1800م فأراده قتيلاً. وواجه سليمان وزملائه له من غزة* أبشع عقاب.
وانتهت حملة نابليون بالفشل … وباتت على حقيقتها: خطة استعمارية وحرباً صليبية ومؤامرة صهيونية.
المراجع:
– إحسان النمر: تاريخ جبل نابلس والبلقاء، جمعية عمال المطابع – نابلس، 1975م.
– أكرم الراميني: نابلس في القرن التاسع عشر، مطابع دار الشعب – عمان، 1799م. عن كتاب “كشف اللثام عن محيا الحكومة والحكام”. مخطوط رقم 1341 بمكتبة الجامعة الأردنية.
– الجبرتي: تاريخ الجبرتي، القاهرة ،1322هـ.
– حسني أدهم جرار: أسرار حملة نابليون على مصر والشام، دار الضياء – عمان 1990م.
– حسين سليمان: مجلة تاريخ العرب والعالم – العدد 54، نيسان، 1983م.
– حيدر الشهابي: تاريخ أحمد باشا الجزار، مكتبة انطون – بيروت، 1969م.
– خيرية قاسمية: النشاط الصهيوني في الشرق العربي، مركز الأبحاث، م.ت.ف – بيروت 1972م.
– رفيق شاكر النتشة: الاستعمار وفلسطين، دار الجليل – عمان، 1984م.
– صادق جلال العظم: الصهيونية والصراع الطبقي، دار العودة – بيروت، 1975م.
– عبد الله باشا الشريدة: مقابلة معه في دير أبي سعيد في 5/8/1984م.
– فهمي الشناوي: مجلة الدوحة القطرية – العدد 116، آب 1985م.
– محمد عزة دروزة: العرب والعروبة في حقبة التغلب التركي، المكتبة المصرية، بيروت، 1981م
– محمد فؤاد شكري: الحملة الفرنسية وخروج الفرنسيين من مصر، دار الفكر العربي.
– محمد كرد علي: خطط الشام، دار العلم للملايين – بيروت، 1971م.
– مصطفى الدباغ: بلادنا فلسطين، رابطة الجامعيين بمحافظة الخليل، 1974م.