احتل الجيش البريطاني مدينة القدس* في 9/12/1917. وبعد أيام قليلة دخلها القائد العام للقوات البريطانية الجنرال ادموند اللنبي، فدعت السلطات المسؤولة مفتي القدس الشيخ كامل الحسيني ورئيس بلديتها حسين سليم الحسيني ورؤساء الكنائس وحاخام اليهود وعدداً كبيراً من الوجهاء والأعيان في منطقة القدس، من مسلمين ومسيحيين ويهود، للاشتراك في حقل رسمي لاستقبال القائد والسلام عليه والاستماع إلى خطاب يلقيه في الساحة الواقعة أمام قلعة القدس.
وفي يوم الاحتفال وقع أول اصطدام سياسي بين العرب والإنكليز في تاريخ الاستعمار البريطاني لفلسطين. فقد أنهى اللنبي خطابه بقولته المشهورة “لأن انتهت الحروب الصليبية” وعندئذ انسحب المفني ورئيس الكنيسة الارثوذكسية وعدد غير من المدعوين المسلمين والمسيحين احتجاجاً على هذا الكلام.
أوجس القائد العام والمسؤولون البريطانيون خيفة من أن يكون هذا الحادث انطلاقة لمقاومة سياسية فلسطينية لبريطانيا فانتدبوا الجنرال جبرائيل باشا حداد (وهو لبناني الأصل، خدم في حكومة السودان وكان مساعداً للجنرال اللنبي) للاجتماع بالمفتي وزعماء المدينة الذين انسحبوا أثناء الاحتفال، لمعاتبتهم على موقفهم من ناحية، وإقناعهم بأن من المصلحة أن يتفاهموا ويتعاونوا مع الإنكليز. وفي اجتماع عقد بحضور المذكورين جرى نقاش حاد مع الجنرال جبرائيل حداد، وأنهى مفتي القدس الاجتماع قائلا لحداد: “روحوا فتشوا عمن يتعاون معكم”.
ولما تبين للفلسطينيين غدر بريطانيا بالعرب وخيانتها لهم، وانكشف النقاب عن سياستها الحقيقية ووعد بلفور*، انصرفوا يقاومون هذه السياسية بالوسائل التي كانت تتيحها حالة الحرب التي لا تزال قائمة يومئذ. وكان الإنكليز قد عمدوا إلى خطة استقطاب بعض العرب للوقوف إلى جانبهم في الأراضي الفلسطينية التي تم احتلالها عام 1917 ومطلع عام 1918. موصلفلما تم للإنكليز احتلال فلسطين بأكملها، وانتهت الحرب، جعلوا همهم الأول تكتيل الفلسطينيين الذين أظهروا استعداداً للتعاون معهم ومناهضة من أسموهم “المتطرفين” الذين يقاومون سياسة الاستعمار البريطاني، وتجميع أشخاص آخرين من سائر أنحاء فلسطين على الغرض نفسه. وتشكلت يومئذ لجنة خاصة سرية للاتصال بالأشخاص “المعتدلين” الذين يعتقد أنهم يحبذون التعاون مع الإنكليز ويقدمون عليه. وتعهد الصهيونيون بمساعدة الإنكليز في هذه المهمة. وعرف من رجال هذه اللجنة الجنرال حداد، ومطران القدس الانكليكاني، والمستر رينولدز (مدير مدرسة المطران الإنجيلية بالقدس)، وكلفريسكي (صهيوني من أصل روسي)، وخانكين (كبير سماسرة الصهيونيين لشراء الأراضي).
واستطاع الإنكليز استقطاب بعض الأشخاص من العرب، وخاصة من الفئة المعروفة “بأصحاب المصلحة الحقيقية” التي كان أفرادها يسعون إلى ضمان مصالحهم الخاصة والمحافظة على مكانتهم في البلاد إذا وقع تصادم جدي بين العرب والإنكليز. وبغية الدعاية لهذه الفكرة (فكرة التعاون)، وإظهار محاسنها، استحضر الإنكليز صحفياً لبنانياً معروفاً أصدر صحيفة باسم “لسان العرب*” في القدس، وجعلها بوقا لهذا التعاون. وقد أطلق عليها الوطنيون اسم “لسان العقرب”.
وفي الوقت ذاته لجأ الإنكليز إلى بعض الأعيان وعلماء الدين الإسلامي ورجال الدين المسيحي لحث الزعماء والوجهاء على التعاون مع السلطة المنتدبة. ولكن جهود الإنكليز ذهبت سدى في صفوف الوطنيين الذين رفضوا أي شكل من أشكال التعاون بالرغم من تهديدهم بضياع مصالحهم.
وعقدت في عام 1918 سلسلة من الاجتماعات السرية بين ضعاف النفوس الذين قبلوا بالتعاون، دون أن يستطيعوا الجهر بنياتهم، فتلكأوا كثيراًً في إنشاء حزب رسمي لهم، واستعاضوا عن ذلك بإنشاء “المنتدى الأدبي” في القدس برئاسة فخري النشاشيبي لمناوأة النادي العربي* برئاسة الحاج محمد أمين الحسيني*، وأصدروا في القدس صحيفة باسم “القدس الشريف” لحسن صدقي الدجاني* وصحيفة “مرآة الشرق”* لبولس شحادة*. وكان جميع هؤلاء متفقين على أنهم “حزب عربي” متعاون مع الإنكليز. وكان الإنكليز والصهيونيين، فضلاً عن العرب، ينظرون إليهم كحزب موال لبريطانيا.
وفي مطلع 1919 جرت محاولات جدية لإخراج هذا الحزب إلى حيز الوجود بشكل عملي ورسمي، فعقد “المتعاونون” عدة اجتماعات في القدس وعكا* ويافا* وحيفا* وغيرها لهذا الغرض، ولكن الوثبة الوطنية التي ظهرت يومئذ، وقيام المظاهرات الكبيرة ضد الإنكليز وتصريح بلفور في مختلف أنحاء فلسطين، وتشكيل “الجمعيات الإسلامية المسيحية”*، كل ذلك قضى على جميع هذه المحاولات، فأخذ بعضهم ينسحبون من هذا التكتل ويحاولون الانضمام إلى القافلة الوطنية.