أولا الخصائص الطبيعية:
تفصل بين هضاب فلسطين في الغرب والمرتفعات الأردنية في الشرق، أخدود أراضي سحيق، يعرف القسم الجنوبي منه جغرافيا باسم وادي عربة، الذي يمتد فيما بين رأس خليج العقبة في الجنوب وملاحات جنوبي البحر الميت في الشمال، مسافة بنحو 175 كيلومترا في خط مستقيم. وعلى حين يضيق بطن هذا الوادي فلا يتجاوز الخمسة كيلومترات قبالة قرية بئر غرتدل الأردنية، وقاع السعديين ببطن الوادي على مسيرة 85 كيلومترا من مياه الخليج، حيث تشكل هذه المنطقة خاصرة ضيقة، يتفرج بعدها قاع الوادي ليتجاوز عرضه الثلاثين كيلومترا في منطقة سهل فدان والغمر، وانتهاء بملاحات سدوم.
ويتبع هذا التباين في سعة قاع الوادي، اختلاف آخر منسوب أراضيه من ناحية، وكذلك في منسوب الحافات الجرفية المحدقة به من كلا جانبيه في الشرق والغرب من ناحية أخرى. اذ تبدأ أرض بطن الوادي كيابسة على مستوى سطح البحر على امتداد الطرف الشمالي لخليج العقبة، لتعلو بعد ذلك وئيدا بالاتجاه شمالا لتصل إلى ارتفاع 288 مترا فوق مستوى سطح البحر، عندما يبرز من قاعه حزن يدعى جبل الخريج، في حين يظهر تل آخر بيضاوي الشكل يدعى جبل الريشة يعلو 355 مترا على مسيرة 90 كيلومترا من مستنقعات الحوض الجنوبي المنطمش للبحر الميت، وابتداء من موضع الريشة والخريج ينعكس الانحدار في النصف الشمالي، فيتدنى المنسوب بسرعة، ليصبح دون مستوى سطح البحر على بعد كيلومتر واحد من مخفر الغمر، ويتوالى هبوط سطح الوادي حتى ليغمور قرابة 350 مترا تحت مستوى البحر في منطقة غور الصافي، لذا كانت تنسبة التضريس المنطق لأرضية الوادي هي في حدود سبعمائة متر بين أعلى بقاعه عند الريشة وأدناها بملاحات سدوم.
وبالمثل، تختلف الحافات الجرفية المنتصبة على جانبي يعلن الوادي من حيث المنسوب، اذ تنهض على جانبه الشرقي نجاد من ككل صخور متبلورة من مركبات جرانيتية، تتخللها عروق من صخور متحولة، تمتد زهاء مائة كيلومتر ابتداء من مدينة العقبة حتى شمالي قرية غرندل، فتغشاها في بعض المواضع طبقات من صخور رملية تحجبها، وبينما ترتفع قممها الوعرة المستنة كحائط جبلي، يبلغ ذروته بقمة جبل باقر 1500 متر على بعد ثمانية كيلومترات شمالي العقبة، يتدرج سطح الهضاب بعد ذلك في النهوض بسرعة من جروف رأس النقب لتصل مناسيب بعض تلاع الشراة، 1750 مترا منحدرة بعنف تجاه هاوية وادي عربة، حيث يقدر معدل هبوط الأرض على امتداد ستة عشر كيلومترا فيما بين قمة تلعة رجم الجماعة غربي قرية العوجا وبين قاع وادي عربة بنحو تسعين مترا للكيلو متر الواحد. ومن هنا تتبع مجموعة من الأودية الخانقية القصيرة العنيفة المنتهية بوادي عربة، مثل وادي دلاعة ووادي الطبية ووادي موسى ووادي ضنة، ونظرا للوفرة النسبية لأمطار هذه المرتفعات بفضل شموخها، فان تلك الأودية تجيش بفيضانات ابان عواصف المطر شتاء، فنراها تدفع بصبيبها من الماء والرواسب أمام مصابها عند حضيض الحافة الشرقية لوادي عربة. وعلى النقيض من تلك جروف هضبة النقب الفلسطينية في الغرب، والتي تشرف على وادي عربة بارتفاع يحوم حوالي 600 متر في بعض المواضع و300 متر فقط في مواضع أخرى، ويبدو سقف الهضبة كأرض متماوجة ترتكز صخورها من الحجر الرملي على قاعدة من المركبات الجرانيتة لمسافة 35 كيلومترا فقط فيما بين رأس خليج العقبة وسبخة طابة، ونظرا لتدني المنسوب ثم وقوع جروفها في ظل المطر، فقد انحدرت منها مجموعة من الأودية الصغرى، منها وادي سويدي وحندس عند سيخة الدافية ووادي عطشان وأم سيالة قبالة سبخة طابة، ووادي طليح تجاه قاع المعيديين ثم وادي الجرافي، أما وادي الجيب فهو أكثر أودية هذا الجانب حيث تتأصل منابعه في مرتفعات سيناء، إلى الشرق من حوض وادي العريش، عابرا صحراء النقب الى وادي عربة فملاحات سدوم، ومن ثم يتجاوز طوله 240 كيلومترا، ويبلغ عرض مجراه في المتوسط ثلاثة كيلومترات.
هذه الاختلافات بين جانبي وادي عربة من حيث المنسوب والتركيب الصخري، هي دليل على عدم تناظرهما، بمعنى أنهما لم يكونا رتقا لكتلة أرضية واحدة فتفت نتيجة خسف أرضي أدى إلى هبوط شريحة وسطى بينهما، مشكلة بتلك هوة أخدوية تحدها أزواج متقابلة من الصدوع، فتلك نظرية سادت ردحا من الزمان، قبل أن تحل محلها نظرية “الرقاق التكنونية” PLATE TECTONICS” وموداها طبقا لهذه النظرية أن تشأة الوادي كحفرة أرضية غائرة، كان مبعثها عملية انفراج بين كتلتين أرضيتين نتيجة حركة انزياح جانبية، سيرث بموجبها كتلة شبه الجزيرة العربية، بما فيها أراضي الأردن، صوب الشمال الشرقي، مبتعدة عن الكتلة السينائية التي تشمل شبه جزيرة سيناء وفلسطين ولبنان وشمال غربي سوريا، ويقدر مدى هذه الحركة التي ما زالت مستمرة ببضعة سنتيمترات في العام، وكان الجيولوجي البريطاني كونيل أول من وصل إلى هذه النتيجة عام 1959 عندما قرر بناء على أدلة بنيوية وصخرية أن مدى الحركة منذ بدايتها عند نهاية الزمن الجيولوجي الثاني هو في حدود 107 كيلومترات على امتداد الأراضي الفلسطينية من خليج العقبة حتى أطراف الكتلة السيناتية في غرب سورية.
ويتميز قاع الوادي بعدة أصناف من الرواسب، نتيجة عمليات الهدم التي تتعرض لها المرتفعات المنتصبة على جانبه، فتصاغ من تلك الرواسب خمسة أشكال أرضية محددة المعالم هي: المراوح الفيضية والسياخ والكثبان الرملية والأراضي الوعرةBAIDLANDS وفرشات الرصيف الصحراوي PAYEMENT DESERT.
بالنسبة للمراوح الفيضية فانها مجمعات هائلة من الرواسب تنشأ عند مصاب الأودية المنحدرة من المرتفعات الجرانيتية، التي نتتج أنقاضا صخرية تتراوح أحجامها وأشكالها بين جلاميد ضخمة يزن بعضها بضعة أطنان وأحجار كبيرة مملسة الجوانب أو متكورة، وحصباء ورمال ومواد طينية، وتبرز رؤوس تلك المراوح الفيضية قريبا من مخارج الأودية من الحائط الجبلي بفضل ما يتجمع عليها من جلاميد، وتتدنى أسطحها بعد ذلك تدريجيا تجاه قلب المنخفض الأخدودي تبعا لتصاول أحجام الرواسب التي تمتنق، فتظل تدفعها مياه السيول لتفرش على مساحات أوسع كلما هبطت فتستقر الأحجار والحصباء، لتتوضع بعدها رواسب الرمال والطين عند قواعد المراوح.
وتسود هذه الأشكال القسم الجنوبي من وادي عربة بصفة خاصة، ونظرا لنشاط السيول القادمة من مرتفعات الجانب الأردني، فان المقطع العرضي للقلع غير منتظم بسبب تقدم المراوح المنبعثة من هذا الجانب غربا بسرعة، طاغية بتلك على مراوح أودية الجانب الفلسطيني، مما يدفع بمحور قاع الوادي تجاه جروف هضبة النقب. ورغم ارتفاع درجات الحرارة العظمى صيفا إلى ما يقارب 40 درجة مئوية، وندرة الأمطار التي يقل معدلها عن 50 مم سنويا فان صبيب الأودية يغذي أسطح تلك المراوح بكميات وفيرة من المياه عند تدفق السيول، فيرشح بعضها ليغذي الخزان الجوفي، ويضمن كذلك كميات لا بأس بها من الرطوبة المتغاغلة تحت السطح، لعلها هي السر في نمو أحياء كثيفة من أشجار (الطلح) الشوكية التي لا تطبق أن تفتات عليها سوى الابل والماعز.
أما السبخات فهي خفيضة في قاع وادي عربة تنفض اليها السيول بما تحمله من حبيبات الرمال الناعمة والطين، لذا كان تصريف مجموعات الأودية على الجانبين تصريفا داخليا، بحيث لا يصل من مياهها للبحر شيء، ويشتمل النصف الجنوبي من الوادي على ثلاث سبخات، الأولى سبخة الدافية الشريطية الضيقة على بعد كيلومترات قلائل شمالي العقبة.
فسبخة طابة الكمثرية الشكل على بعد 35 كيلومترا من الخليج، وهي عبارة عن مسطح طيني مستو تماما، مساحتها 405 كيلومترا مربعا، تنصفها الحدود بين فلسطين والأردن، وتتميز أرضها بالقحولة المطلقة نظرا لملوحة تربتها التي تظهر في كثير من بقاعها قشرات ملحية خالصة على السطح، ومع تلك فعلى الحافة الشرقية لهذه السبخة، تقترب المياه الجوفية من سطح الأرض وتسيل على شكل رشوح نمت عليها واحة من أشجار النخيل البري والطرفاء والغردق والبوص والسعيد، كذلك الحال كانت حافتها الشمالية المعروفة باسم الخبرة موطنا لواحة ما زالت تدل عليها أطراف تيجان أشجار نخيل بارزة فوق رمال الكثبان التي طمرتها. أما قاع السعيديين إلى الجونب من جبل الريشة فيختلف عن تلك، اذا تحجب أرضه فرشات من الرمال لعمق غير معروف ونظرا لوفرة الصبيب المائي للأودية المنتهية اليه، يقوم البدو بزراعة شيء من الشعير يغل محصولا في المواسم العميمة المطر. أخيرا فان أكبر السبخات مساحة ملاحة سدوم، التي انكشفت كأرض يابسة نتيجة انحسار مياه البحر الميت عنها، وتلغى أطرافها تصريفا ماديا من وادي الجيب في الغرب، ومن وادي الحسا في الشرق، مما ساعد على غسل التربة من بعض أملاحها، وأضاف اليها تربة فيضية متجددة، وهذا هو سبب نجاح اقتصاد زراعي فيما يسمى غور الصافي.
الرواسب الرملية عبارة عن تجمعات كثبيبية مصدرها صخور الحجر الرملي،التي تغور فيها أودية الحافة الشرقية بصفة خاصة مثل وادي أحيمر وغرندل ودلاغة ووادي موسى، فمياه السيول عندما تجري بهذه الأودية تكتسح معها كميات طائلة من الرمال الناتجة عن انفراط طبقات الصخور الرملية الهثة، لتلقي بها على مسافات بعيدة في قاع وادي عربة، فلا تلبث أن نذورها الرياح الشمالية الدائمة، التي تتركز بالممر الطبوغرافي لوادي عربة في تتجمع بعد ذلك في بقاع مختارة بأشكال كثبيبة متنوعة، أشبعها القصائم التي تمتد سلاسلها على محاور شبه متوازية تشير إلى الشمال الغربي ويتراوح طول سلاسلها ما بين بضع عشرات من الأمتار وكيلومتر واحد أو نحوه، أما ارتفاع القصيم فيحوم حول ثمانية أمتار وأربعة عشر مترا، وعرض قواعدها أربعة أمثال علوها، في حين تفصل بين أشرطتها ممرات أرضية يتراوح اتساعها ما بين خمسين وثمانين مترا، وتتحرك هذه الكثبان ببطء على قاع الوادي حتى قطعت في سعيها جنوبا المسافة بين قاع السعيدين ومشارف سبخة طابة، حيث تشل حركتها الرطوبة السطحية لأرض السبخة فتوقف زحفها وتتزاحم سلاسلها.
النبك صنف آخر من الترسبات الرملية التي تتجمع حول شجيرات المنطقة،وهي عبارة عن كومات من الرمال التي تنصيدها أكمات النبات فتبدو على شكل أسافين، تشير رؤوسها الدقيقة إلى الاتجاه الذي تنصرف إليه الريح، وهو هنا صوب الجنوب مع ميل قليل نحو الشرق، أما قواعد النبك في الاتجاه الذي تقبل منه الريح فتسترها الشجيرات، وتحمي رمالها من العصف، ويتراوح ارتفاع هذه الأشكال ما بين كوسات صغيرة وأكداس يتجاوز ارتفاعها المتر وطولها عشرة أمتار، وتنتشر حقول النبك فوق فرشات الرمال التي تغشى القسم الجنوبي من قاع السعيدين، فضلا عن الحاشية الشمالية من سبخة طابة تنمو شجيرات الغضا والغردق بكثافات عالية بفضل ارتفاع منسوب رطوبة التربة حتى قرب سطح الأرض.
فيما يتعلق بصنف الأراضي الوعرة فيظهر نطاقها بالاقتراب من الأطراف الجنوبية لملاحة سدوم، وتتألف من طبقات المارل الأبيض المصفر، تتعاقب مع أخرى من رقائق الجبس والطين والغرين والرمال الناعمة، وهي من بقايا أرسابات بحيرة بلايستوسينية غابرة، امتد مسطحا المائي آنذاك نحو ثلاثين كيلومترا جنوبي غور الصافي قبل أن تجف، ويطلق على هذه الرواسب اسم تكوينات اللسان، وهو نفس المسمى الذي يطلقه الجيولوجيون على البحيرة سراعا بأعداد لا تحصى من الشعاب، والمسيلات الغادرة، تحصر فيما بينها متاهة من تلال مادية وأخرى مخروطية وأعمدة أرضية، على نحو يجعل اختراقها أمرا غاية في الصعوبة حتى لو كان ذلك سيرا على الأقدام.
وأخيرا تغشى فرشات الحصباء سطح مساحات واسعة من بطن وادي عربة خاصة في نصفه الشمالي ابتداء من قمة جبل الريشة حيث يشق أدنى بقاعه مجرى رئيسي محدد متصل، بجمع مياه الروافد المنحدرة اليه من الجانبين هو المسمى وادي عربة، وبعد أن يتلقى هذا المجريى العديد من تلك الروافد خاصة من صحراء النقب، يستمر شمالا ليعرف باسم وادي الجيب قبل انصبابه تجاه مستنقعات وسباخ الصافي: تسود الشطر الأكبر من مجرى الوادي وجوانبه فرشات من مواد فيضية حصوية رملية جلبتها الأودية الجاذبية، ثم كثفتها الرياح بازالة الحبيبات الرملية الدقيقة من بين حصواتها فاتخذت الأرض شكل رصيف صحراوي مثالي يعرف في أدبيات علم أشكال الأرض بالمرتفعات الصحراوية.
ثانيا: العمران والسكان:
في كنف ظروف صحراوية قاسية ظل وادي عربة بمثابة برية قاحلة ابان مراحل تاريخية طويلة، قدرة معدلات أمطاره السنوية تعبر عليها مدينة العقبة في أقصى الجنوب حيث بلغ نصيبها 38 مم، وقرية غور الصافي في أقصى الشمال التي لا تتجاوز أمطارها 73 مم، فهي بذلك كميات ضئيلة لا تشكل الا أقل من 20/1 من منطقة التبخر بسبب ارتفاع درجات الحرارة اذ ان معدلات أحر شهور السنة تموز هي 33 درجة مئوية في كل من العقبة وغور الصافي. لذلك يعتبر وادي عربة جغرافيا من بيئات الصعوبة الدائمة لجفافه وحرارته وقحلة، ومن ثم اقتصر دوره بشريا على كونه أرض ممر وليس ديار مقر، كالوظيفة التجارية كانت الباعث على ما نبض به من حركة كشريان مواصلات تسلكه قوافل التجارة الآتية من جنوب الجزيرة العربية وشرق أفريقيا والهند على دروب الصحراء، لتضع أجمالها في موضع العقبة، ومنها إلى البترا عن طريق وادي مارة بعين غرندل، ومن ابترا كانت الدروب تعبر الوادي عرضيا إلى غارة وغيرها من ثغور البحر المتوسط أو تتابع مسيرتها عبر الوادي لتصعد صحراء النقب فشمال سيناء إلى مصر.
من ناحية أخرى، كان اكتشاف خامات النحاس في تيمنا على الجانب الفلسطيني وفيتان على الجانب الأردني، سببا لقيام مناجم لاستخراج هذا المعدن ما زالت آثارها شاخصة حتى الآن، فكان النحاس من بين عوامل ازدهار موقع رأس خليج العقبة منذ القرن العاشر قبل الميلاد، حيث نشأت هناك سلسلة متعاقبة من المواني التي تدل عليها أطلال تل خليفة قرب الحدود الراهنة بين الجانب الأردني والجانب المحتل، ويعتقد علماء الآثار بأن هذا الموقع هو مكان ميناء النحاس السليماني الشهير، الذي عرف باسم عصيون جبر، ثم أيلة في عهود القوة البحرية عندما بسط الرومان نفوذهم على تلك البلاد، خاصة بعد مد الطريق البرية اليها من فيلادلفيا (عمان) وهي ما عرف بطريق الملوك KINGS HIGH WAY.
وبمرور الزمن اضمحلت تجارة البحر الأحمر، وبطرق القوافل البرية المارة برأس الخليج، وانكمشت معها محطات القوافل حتى اندثرت، ولم يبق هناك سوى مخفر متطوح تمثله قلعة العقبة التي بناها المماليك في أوائل القرن السادس عشر الميلادي، ورممها العثمانيون بعد ذلك بنصف قرن، وكانت تسمى عقبة أيلة، ثم أهمل لفظ أيلة حيث نشأت قرية العقبة قريبا من القلعة. ومن الواضح أن صعوبة البيئة على امتداد وادي عربة ترجع أساسا لندرة الماء. فكان العمران قصرا على محطات نزول القوافل لمعاودة المسير، أو كان العمران مجرد مخيمات أو قرى تعدين تزدهر زمنا لتذوي وتفض بعد ذلك عندما يستنزف الخام، ولا ترجع أزمة الماء هنا الى ندرة آباره فحسب، بل ان معظم ينابيع الجانب الفلسطيني تشوبها ملوحة عالية بحيث تفضلها مياه الجانب الأردني كما ونوعا، لذا كانت مواطن العمران القديمة في الشرق أكثر عددا وأطول عمرا، منها فيتان على مصب وادي ضانا وغرندل عند مصب واد يحمل نفس الاسم، كما كانت آبار مصب وادي اليتم الضحلة موردا عذبا لأيلة فالعقبة حتى عهد قريب.
النشاط الاقتصادي المعاشي الذي استمر منذ القدم حتى اليوم بوادي عربة هو الرعي* الذي تمارسه جماعات بدو الأحويات في الجنوب والسعيديين من قبائل بئر السبع إلى الشمال منهم، ثم الزراعة* وهي حركة سكان الأغوار ممن يدعون (الغوارنة) على الحافة الشرقية من ملاحات سدوم. وكان البدو يتنقون بحرية تامة بين جنبات الوادي حتى العقد الثاني من القرن الماضي عندما أصدر المندوب السامي البريطاني بلاغه في أول أيلول/ سبتمبر 1922 الذي بمقتضاه تبدأ الحدود بين فلسطين وامارة شرق الأردن من خليج العقبة. وعلى بعد مليون إلى الغرب من بلدة العقبة تتجه الحدود شمالا وفي خط مستقيم يترسم محور وادي عربة في أعمق بقاعه حتى الطرف الجنوبي للبحر الميت. ولكن هذه الحدود لم تصبح مانعة قاطعة إلا عندما دخل اليهود عام 1949 موقع المرشرش على الساحل الفلسطيني للخليج وطردوا منه أهاليه، وهدموا مساكنهم ليقيموا على أنقاضها بلدة جديدة صارت ميناء سمرها ايلات، وهكذا تم فصل شطري الوطن العربي باسفين بري، وفتح لليهود منفذا على البحر الأحمر، كانت أهم وظائفه استقبال واردات النفط الايراني فضلا عن كونه نافذة للتجارة الخارجية مع أقطار آسيا وشرق افريقيا، وتم ربط الميناء بطريق برية حديثة. تسير بمحاذاة خط الهدنة مباشرة لتتصل بشبكة طرق الأراضي المحتلة/ كما أقدم مطار للنقل الداخلي.
لم يضيع اليهود وقتا فشرعوا في حفر الآبار، وانشاء المستوطنات على منحدرات جروف هضبة النقب، وحين تبين لهم وجود خزان جوفي في منطقة الغمر وسهل فدان وبقاع أخرة، تجاوزوا خط لهدنة الذي كان بمثابة الحد السياسي، وطغوا شرقا على مساحة قرابة 330 كيلو متر مربع من الأراضي الأردنية منذ بداية السبعينات، وسيجوها بأسلاك شائكة، ودعموها بطريق ترابي تسير عليها دوريات عسكرية بدعوة مع تسلل رجال المقاومة الفلسطينية؟ وبعد أن طمأنوا الأردن بأن ما فعلوه اجراء مؤقت لا يمس حقوقه في السيادة على الأرض راحوا يستصلحون عشرات الآلاف من الدونمات، زرعت بساتين النخيل والحمضيات والخضروات والفاكهة المدارية ترة من آبار جوفية عذبة، تغيها مياه متجددة من السيول العديمة التي تنصب من أودية جبال الشراة الأردنية، لتغور في الرواسب الفيضية العميقة التي يفعم بها بطن وادي عربة، لكي تسحب المياه ذات المنشأ الأردني لأغراض الشرب والزراعة في عدد من المستوطنات اليهودية التي يعيش سكانها تحت ظلال جنان وارفة.
وأتت معاهدة وادي عربة عام 1994 لرسم الحدود بين الأردن والأراضي الفلسطينية المحتلة فلم يتراجع اليهود عن شبر واحد مما سلبوه وعمروره على مدار يزيد على ربع قرن من الزمان، على أن يعرض الأردن عن تلك المساحة بأخرى مساوية لها من الجانب المحتل يتم الاتفاق عليها. بل انه في منطقة الغمر توحد مزرعة لليهود على مسيرة ثلاثة كيلومترات من الحدود المفارضة، أي داخل أراضي الأردن، وقد تم تأجيرها لليهود بعقد مدته 25 عاما، وسمح لهم باستخدام ممر طوله ثلاثة كيلومترات عبر أراضي الأردن يتنقلون عليه بحرية تامة ما بين مزارع الغمر والأراضي المحتلة، وذريعة القوم في تلك هو كون مزرعة الغمر عبارة عن محطة تجارب هدفها انتاج محاصيل على مياه آبار مالحة، وعدوا الأردن بأنه سوف يستفيد من نتائجها أيضا؟
وعلى الجانب الأردني من وادي عربة، فان أهم التطورات حدثت عند طرفيه الشمالي والجنوبي. ففي الشمال ازدهر اقتصاد زراعي ناجح في مساحة تربو على ثلاثين ألف دونم في غور الصافي وغور فيفة وتسقي من مياه مصبات عدة أودية تنفجر ينابيع أحواضها، أهمها جميعا وادي الحسا، وتحول الكثير من سكانها الغوارنة إلى ملاك لوحدات زراعية مما رفع مستوى معيشتهم، كذلك أنشىء مصنع الشركة العربية للبوتاس على الطرف الجنوبي للبحر الميت وبدأ انتاجه الفعلي عام 1983، ويصدر حاليا حوالي 1,5 مليون طن من هذه المادة يذهب 86% منها إلى أقطار آسيا عبر ميناء العقبة. أما الطرف الجنوبي لوادي عربة فموضع مدينة العقبة التي تحولت من مجرد قرية يعيش سكانها على الصعيد وشيء من زراعة بساتين النخيل والخضر على مياه آبار ضحلة حتى الخمسينات من القرن الماضي، فصارت اليوم مدينة تعج بالسياح والفنادق، ويخدم ميناؤها تجارة الأردن الخارجية، فضلا عن خدمات بضائع الترنزيت للأقطار العربية المجاورة، خاصة للعراق، كما تحولت إلى هدرة وصل مع الأراضي المصرية عن طريق عدد من العبارات التي تجوب مياه الخليج بين طابا على الساحل المصري وبين العقبة. ولكن فيما عدا طرفي الوادي، فعلى امتداد 150 كيلومترا لا يوجد على الجانب الأردني سوى عدد من القرى، يعيش سكانها مرحلة حضارية حائزة بين البداوة والاستقرار. فقراها تعاني نقصا في الخدمات والبنى التحتية، وهي ضمن ما يسمى في الأردن جيوب الفقر، وينطبق هذا من الشمال إلى الجنوب على قرى قريقرة وبيرمدكور وغرندل ورحمة.
المراجع:
- صلاح الدين بحيري: أرض فلسطين والأردن، طبيعتها وحيازتها واستعمالاتها. مركز البحوث والدراسات العربية، القاهرة 1974.
- صلاح الدين بحيري: جغرافية الأردن، عمان 1991.
- مصطفى مراد الدباغ: بلادنا فلسطين، الجزء الأول – القسم الأول.