فكر بعض أعوان الصهيونية من الإنكليز بعد إصدار وعد بلفور* في الحصول على نوع من الموافقة العربية عليه. وأرسلت الحكومة البريطانية في كانون الثاني سنة 1918 رسولاً خاصاً إلى الملك حسين، ولكن الرسول لم يكن صريحاً حتى إنه لم يذكر وعد بلفور بل ذكر أن الحكومة مهتمة بهجرة “يهود إلى فلسطين على أن لا يضر ذلك بحقوق العرب الاقتصادية والسياسية، فأجاب الملك حسين: على هذا الأساس نرحب باليهود إلى جميع البلاد العربية.
أما الصهيونيون فكان همهم توسيع معنى وعد بلفور فألحوا على الحكومة البريطانية حتى وافقت على إرسال لجنة منهم رئاسة حاييم وايزمان إلى فلسطين بينما كان نصفها الشمالي ما زال بيد الأتراك. ولم يستطع وايزمان الاتفاق مع أي من الزعماء العرب الفلسطينيين، لا مع سليمان ناصيف في القاهرة مع المفتي كامل الحسيني في القدس، ولا مع القاضي راغب الدجاني في يافا، فوجه همه لمقابلة فيصل قائد جيش الثورة العربية، وذهب إلى مقر قيادته بقرب العقبة ومعه كتاب تعريف من المستشار السياسي للقائد البريطاني العام. وتم الاجتماع في أوائل حزيران سنة 1918 بحضور ضابط بريطاني تولى الترجمة.
وتقرير هذا الضابط أصدق من مزاعم وايزمن. فبناء على هذا التقرير دامت المقابلة خمسا وأربعين دقيقة ادعى أثناءها وايزمان أن الحكومة البريطانية نفسها أرسلت للمقابلة، كما ادعى أنه قادر على إقناع أمريكا بمساعدة العرب إذا هم قبلوا المطالب الصهيونية. ولمينخدع فيصل وأجاب كما يلي: “أنه كجندي لا دخل له بالسياسة، فذلك بيد والده الملك في مكة. وأنه كعربي لا يقبل أن يبحث في وضع فلسطين تحت حماية بريطانية أو جعلها مجالاً لهجرة يهودية”. فالمقابلة في العقبة كانت إذن فاشلة كلمقابلات السابقة في القاهرة وفلسطين.
تمت هذه المقابلة الأولى دون حضور “لورنس العرب”. ولكن هذا لعب دوراً خفياً في خدمة القضية الصهيونية بعد انتهاء الحرب وعودته إلى انكلترا واستخدامه في وزارة الخارجية مستشاراً في الشؤون العربية. وظلت حقيقة موقفه غامضة حتى كشفت أسرار السجلات البريطانية الرسمية للمؤرخين فتبين أن لورنس كان ممثلاً متنكراً لبلفور يحسن الصهيونية لفيصل بل يفرضها عليه فرضاً. وأما مطالبة لورنس بنوع من الاستقلال العربي في العراق وسورية فكان دائماً مع استثناء فلسطين للصهيونية.
دبر لورنس لوايزمن مقابلة مع فيصل يوم وصوله إلى لندن رجالاً بعد مقابلة بلفور وزير الخارجية في 10/12/1918. وكان فيصل قد جاء لحضور مؤتمر السلام وتمثيل والده فيه فلازمه لورنس مرافقاً ومترجماً ومستشاراً. وكاد يوقع فيصل في أحبولة نصبها وايزمان عندما قدم لفيصل نص معاهدة بالانكليزية مطبوعاً على الألة الكاتبة بين “الدولة العربية” و”فلسطين” وكأن وايزمان كان الممثل الشرعي لها، وكأنها كان لها حينئذ صفة دولة بحسب القانون. ونصوص هذه المعاهدة تلخص مطالب الصهيونية بشأن الهجرة والأراضي وتجعل المادة الثالثة وعد بلفور أساساً لدستور فلسطين ونظام حكومتها دون ذكر للعرب فيها. وأما استفادة الدولة العربية منها فمقصورة على “المساعدة الفنية”.
من المؤكد أن الذي فهمه فيصل من ترجمة لورنس الشفوية لم يقنعه بل جعله يرتاب أشد الريبة، فكتب تحفظاً باللغة العربية جعل فيه كل شيء مشروطاً بحصول الغرب على الاستقلال والسيادة. فالمعروف عن فيصل أنه كان مستعداً ضمن هذا الاطار لترضية اليهود في فلسطين والموارنة في لبنان. وترجم لورنس تحفظ فيصل إلى الانكليزية على قصاصة ورق ترجمة مختصرة مشوهة حذف منها كل ذكر للقطة الأساسية وهي الاستقلال العربي. وزاد وايزمان نفسه التشويه والتزوير بما أضافه إلى الكلمة من عنوان وما أدخله ضمنها من تاريخ “4 كانون الثاني”.
لم يجد وايزمان فائدة من تقديم المعاهدة إلى وزارة الخارجية، ولكن رأى الإفادة منها للدعاية فأعطى نسخة منها إلى هنتر ملر أحد أعضاء الوفد الأمريكي في مؤتمر السلام دون تحفظ فيصل ودون ترجمة لورنس له. فنشر ملر هذا النص في مذكراته سنة 1924 وظل يضلل القراء مدة طويلة. وأما لورنس فساعد في هذا التضليل عندما قام نسخة عن المعاهدة إلى أرنولد توينبي أحد المستشارين في البعثة البريطانية في مؤتمر السلام. وهذه النسخة أيضاً كانت دون تحفظ فيصل أو ترجمته.
واستمر لورنس يساعد الصهيونيين على حساب العرب فأرسل من وزارة الخارجية في لندن باسم فيصل ودون علمه – على ما يبدو – برقية إلى الأمير زيد نائب فيصل في دمشق تطلب إيقاف الحملة في الصحف العربية على الصهيونية، وتقول انها تضر بالعرب لأن الصهيونيين كانوا يساعدون العرب في مؤتمر السلام ولم يكن لهذا، بالطبع، أساس من الصحة.
ولما انتقل فيصل من لندن إلى باريس لحضور مؤتمر السلام وجد لورنس هناك. فقد جعله بلفور مستشاراً في الوفد البريطاني. فلازم لورنس فيصلاً هنا أيضاً وجعل نفسه صلة وصل بينه وبين الوفد البريطاني. وحدث أن نشرت جريدة “لو هاتان” حديثاً مع فيصل كان مترجمه إلى الفرنسية أمين سره الأول رستم حيدر خيج السوربون. وقال فيصل في هذا الحديث إنه مهتم كل الاهتمام بمستقبل فلسطين لأن الأكثرية فيها من المسلمين ولأن القدس مقدسة عند جميع المسلمين. وهو مستعد لقبةل لاجئين من اليهود فيها ولكن إذا كان الغرض إنشاء دولة يهودية هناك فالعرب سيقاومون ذلك بكل قوتهم.
وفور قراءة هذا التصريح ذهب وايزمان مع الصهيوني الأمريكي فلكس فرنكفورتر لمقابلة فيصل ومعهما لورنس. وليس هنالك برهان على أن فيصل قابلهم هذه المرة. ولكن من الثابت أن لورنس كتب بخط يده كتاباً بالإنكليزية على أنه من فيصل إلى فرنكفورتر ووقع في آخره تقليداً لتوقيع فيصل بالعربية. وهذا الكتاب يجعل فيصلاً يلغي كل ما قاله في الجريدة الفرنسية قبل أربع وعشرين ساعة وتشيد بفائدة تعاون العرب مع الصهيونيين. والغريب أنه لم يعلم بهذا الكتاب لا الأمين الأول رستم حيدر ولا الأمين الثاني عوني عبد الهادي* (الفلسطيني). وهذا الكتاب أيضاً حفظ للدعاية.
يعد هذا أخذ موقف فيصل من الصهيونية يزداد تصلباً، وذلك لما رآه من تطرف رجالها ومطامعهم. وصرح فيصل في تموز سنة 1919 للمستشار السياسي للقائد العام البريطاني: “كنت قبل بضعة أشهر مستعداً لقبول عدد محدود من المهاجرين وتوسيع المستعمرات الموجودة، ولكن مطامع الصهيونيين قد أخافت الشعب العربي حتى جعلته يرفض كل شيء من الصهيونية”. وهذا هو عين ما قاله فيصل في شهادته أمام لجنة التحقيق الأمريكية في تلك السنة، أي انه استمد رأيه من رأي الشعب.
ولما ذهب إلى انكلترا للمرة الثانية في سنة 1919 قابله محرر الجريدة اليهودية “جويش كرونكل”، ولم يكن لورنس حاضراً هذه المرة لأن فيصل لم يحتج إليه للترجمة إذا كان معه الجنرال جبرائيل حداد والشيخ فؤاد الخطيب وهما يتقنان الانكليزية. وقال المحرر إن فيصل ضحك عند الإشارة إلى فلسطين على أنها “أرض إسرائيل”، فقال فيصل ان الأسماء لا تغير الحقيقة والأصح أن تسمى “أرض العرب”. ففلسطين عربية منذ قرون وأرضها مقدسة عندهم، وهو يعتبرها جزءاً من سورية. وكان فيصل قد أفهم وايزمان أنه يقبل هجرة محدودة ونظاماً للتعليم بالعبرية ومساواة اليهود بالعرب أمام القانون. وكل هذا لا يتعارض مع السيادة العربية. فلما سأله المحرر عن رأي بعض الصهيونيين في أن وعد بلفور معناه إنشاء دولة يهودية أجاب فيصل: لا تستطيع التنازل عن فلسطين. سنحارب حتى نبقيها عربية وتحت سيادة عربية.
وتجدر الإشارة إلى أنه في سنة 1929 قدم اليهود للجنة تحقيق بريطانية كتاب فيصل إلى فرانكفورتر فاحتج عوني عبد الهادي بأنه مزور وأبرق إلى بغداد فجاء الجواب بأن الملك فيصل لا يذكر أن كتاباً بهذا الوصف أرسل بعلم منه. وفي سنة 1936 وأثناء الثورة الفلسطينية (رَ: 1936-1939) نشر وايزمان في “التايمز” و”البالستين بوست” نص المعاهدة دون تحفظ فيصل، ولكن مع ترجمة لورنس الخاطئة. وقد شرح ذلك وفند بمذكرة عربية إلى اللجنة الملكية (رَ: بيل، لجنة) نشرت خلاصتها في جريدة “الدفاع” (يافا) وجريدة “بالستين بوست” (القدس).
المرجع:
–Tibawi, A.L.: Anglo-Arab Relations and the Question of Palestine 1914 – 1924, London 1977.