تميز القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي بالاهتمام بالجغرافية الوصفية بفن رسم المصورات الجغرافية أو الخرائط. ثم اهتم علم الجغرافية بوصف الرحلات فأضحى أكثر تنوعاً في نهجه. وفي القرنين الخامس والسادس الهجريين/ الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين ظهرت المعاجم الجغرافية وأصبح للجغرافية مكانة واسعة في الموسوعات التي صنعت في ما بعد في عهد المماليك*. ولا بد من الإشارة إلى أن معظم المؤرخين العرب كانوا أيضاً جغرافيين وأن القول يصدق على أن معظم مؤلفاتهم يمكن تصنيفها فيما يعرف “بالجغرافية التاريخية”. ومع أن معظم هؤلاء ولد وعاش في العراق أو فارس أو الأندلس، وقل منهم ولد وأقام في فلسطين، فقد كان للأرض المقدسة، فلسطين، نصيب وافر في كل ما ألقوه من كتب أو قاموا به من رحلات.
وقد بدأت الجغرافية الوصفية تتكون، ولو ببطء ملحوظ، في منتصف القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي فظهرت في النصف الثاني منه مصنفات قائمة بذاتها في هذا الموضوع. ولعل من أقدم من زاروا فلسطين وكتبوا عنها المؤرخ الجغرافي ابن خرداذبة (205 – 280هـ) مؤلف كتاب “المسالك والممالك”. فتراه يذكر المسافة بين كل بلدة وأخرى مبتدئاً ببيت المقدس حتى يصل إلى القسطاطا بمصر. كما أتى على ذكر ووصف كرر طبرية* وبيسان* وصفورية* وعكا* والرملة* والقدس* واللد* ويافا* ونابلس* وقيسارية* وسبسطية* وعسقلان وغزة وبيت جبرين*، وحدد ما بينها من مسافات.
وفي الربع الأخير من ذلك القرن أيضاً ألف المؤرخ الجغرافي أحمد بن اسحاق اليعقوبي (231 – 318هـ) كتاب البلدان بعد أن ساح في الأقطار الإسلامية شرقها وغربها. ويمتاز كتابه بأنه لا أثر فيه للنقل عمن سبق من المؤلفين، كما أنه يخلو من ذكر العجائب والأساطير التي افتتن بها معظم المؤلفين الأخرين. وأكثر اهتمامه يتعلق بالجانب الإحصائي الطبوغرافي والسكاني. وتميز الكتاب من غيره من اتلكتب بنزعة مؤلفة إلى التحليل العقلي. وقد هدف إلى إعطاء لوحة عامة للبلدان لمن يريد الإلمام السريع بها. فتراه يذكر “الغور* ومدينته ريحا – كما يلفظها حتى اليوم أهل منطقة القدس – وأهلها قوم من قيس*، وبها جماعة من قريش”. ويأتي على ذكر “بيت جبرين وأهلها من جذام*”. ويسهب كذلك في ذكر بيت لحم* والناصرة* وعلاقتهما بالسيد المسيح، وطبرية وحماماتها المعدنية، واللد والرملة ونابلس “وبها أخلاط من العرب والعجم”، حتى يبلغ رفح* والعريش.
ظهر في هذا القرن المؤرخ الجغرافي أحمد بن يحيى البلاذري (ت- 279هـ) مؤلف كتاب “فتوح البلدان” وهو أشبه بتاريخ للفترة الأولى من الفتوحات الإسلامية العربية، وخاصة في بلاد الشام. ولكنه يورد مع التاريخ العسكري الأخبار المحلية عن السكان والهجرات والأبنية الشهيرة.
وقد امتاز القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي بكثرة ما ظهر فيه من المؤلفات الجغرافية. ولعل أكثر الكتاب الجغرافيين أصالة في هذا القرن المؤرخ الرحالة البحاثة علي بن الحسين المسعودي (ت- 346هـ). وأفضل كتبه التي تظهر فيها مادة جغرافية بالمعنى الصحيح “كتاب التنبيه والإشراف”. وكان قد قام برحلات كثيرة لم يفتر في أثنائها عن التحري والاستقصاء. ثم جاء معاصره الجغرافي الرحالة أبو اسحاق الاصطحري (ت- 346هـ) مؤلف كتاب “صور الأقاليم” و”مسالك الممالك”. وقد أولع بالأسفار وطوف من جزيرة العرب إلى بعض الهند شرقاً والمحيط الأطلسي غرباً. وقد أتى على ذكر كثير من مناطق فلسطين ومدنها. وعند ذكر المدن يأتي على ما فيها من أشجار وفواكه، وما بينها من مسافات، وكم يستغرق السفر بينها من أيام. فهو يقول مثلاً: “ومن طبرية إلى الرملة ثلاثة أيام”. كما أتى على وصف الغور ونخيله وعيونه ومناخه وبحيرة طبرية* وعيونها الحارة. ومن الرحالة العالم محمد ابن حوقل (ت 367هـ) مؤلف كتاب “المسالك والممالك”، وهو أشبه بكتاب الاصطحري مع إضافات بعيدة، وقد طاف المؤلف بجميع البلاد الإسلامية، ومنها فلسطين، منذ 28 عاماً.
ولعل أشهر جغرافيي القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر البناء* البشاري المعروف بالمقدسي لأنه ولد في بيت المقدس (336 -380هـ). وهو القائل عن نفسه “سميت بستة وثلاثين إسماً دعيت وخوطبت بها، مثل مقدسي، وفلسطيني، ومصري، ومغربي، وخراساني….. إلخ ذلك لاختلاف البلدان التي حللتها، وكثرة المواضع التي دخلتها” وقد قصر كتابه “أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم” الذي يعد من أجل المصنفات التي وضعت في البلدانية العامة على وصف البلاد الإسلامية، وعلى ما شاهده بعينه واختبره بذاته بكثير من التفصيل. ولم يفته ذكر مذاهب السكان وتجارات فلسطين وصناعاتها ومحاصيل كل بقعة من بقاعها ومنتوجاتها ومعادنها. ويتكلم كذلك عن مكاييلها وأوزانها وأعياد الطوائف الأخرى وشهورهم، وعن أصحاب المهن من كتاب وصباغين ودباغين وصيارفة إلى غير ما هنالك. وتراه يقسم التضاريس الطبيعية لفلسطين، كالجغرافيين المحدثين، إلى أربعة صفوف: أولها السهل الساحلي، وثانيها المنطقة الجبلية، وثالثهما الأغوار، ورابعها سيف البادية ( أي المرتفعات الشرقية). وعندما يتكلم على كل مدينة من المدن الفلسطينية لا يترك شاردة ولا واردة. فهو يأتي على ذكر دروبها وأسواقها ومساجدها وحماماتها وموقعها، وحتى مقارها. ومن أقواله في وصف مسقط رأسه: “بيت المقدس ليس في مدائن الكور أكبر منها، لا شديدة البرد، وليس بها حر، وقل ما يقع بها الثلج….بنيانهم حجر لا ترى أحسن منه، ولا أتقن من بنائها، ولا أعف من أهلها، ولا أطيب من العيش بها، ولا أنظف من أسواقها، ولا أكبر من مسجدها، ولا أكثر من مشاهدها. عنبها خطير وليس لمعتقها نظير. وفيها كل حاذق وطبيب وإليها قلب كل لبيب، ولا تخلو كل يوم من غريب … وأما كثرة الخيرات فقد جمع الله فيها فواكه الأغوار والسهل والجبال … وأما الفضل فلأنها عرضة القيامة ومنها المحشر وإليها المنشر. وإنما فضلت مكة والمدينة بالكعبة والنبي صلى الله عليه وسلم. ويوم القيامة تزفان إليها فتحوي الفضل كله”.
وقال عن مذاهب أهل فلسطين: “مذاهبهم مستقيمة أهل جماعة وسنة، وأهل طبرية ونصف نابلس وأكثر عمان شيعة”. وقال عن الطقوس والأعياد: “ورسومهم أنهم يقدون القناديل في مساجدهم على الدوام يعلقونها بالسلاسل مثل مكة … ومن أعياد النصارى التي يتعارفها المسلمون ويقدرون بها الفصول: الفصح وقت النيروز، والعنصرة وقت الحر، والميلاد وقت البرد، وعيد بربارة وقت الأمطار”.
وممن اشتهر كثيراً من جغرافيي القرن التالي، أي الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، الرحالة الفارسي ناصر خسرو (394هـ – 481هـ) مؤلف كتاب “سفر نامة” الذي ضمنه أخباراً عن اجتيازه المدن الفلسطينية في طريق إلى الحج بمكة المكرمة، أمثال عكا وطبرية وحيفا* والرملة والقدس والخليل* وعسقلان، وضمنه كذلك وصفاً للحرم القدسي يعد من أدق ما وصل من المعلومات. ولعله أول من ضبط أبعاده وقياساته. وتراه يلاحظ أبواب المدن واتجاهها، ويعنى بمصادر المياه في كل بلد. ومن أدق ملاحظاته الجغرافية قوله إن قرى القدس تقوم على رؤوس الجبال أو سفوحها. وقد ألقت رحلته “سفر نامة” هذه ضوءاً على الكثير من الشؤون الاجتماعية والاقتصادية لفلسطين قبل غارة الصليبيين عليها.
وتميز القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي بالكتابة عن جغرافية فلسطين أكثر من غيره كونه عهد استيلاء الصليبيين (رَ: الفرنجة) على بيت المقدس وقسم كبير من هذه البلاد المقدسة. ومن أبرز من كتب الرحالة الأندلسي ابن جبير (540 – 614هـ) الذي زار عكا في هذا العهد وعاد إلى فلسطين بعد فتح صلاح الدين الأيوبي* لبيت المقدس. والمعروف أنه زار المشرق ثلاث مرات إحداها سنة 578هـ/1183م، وهي التي ألف فيها “رحلة ابن جبير”. وقد عني هذا الرحالة بالنواحي الاجتماعية، وبالحياة الاقتصادية من حيث المزروعات والسلع المتبادلة، وبالبحث عن المدارس والمارستانات في فلسطين خاصة. وقد أفاد منه جهرة الجغرافيين بعده.
وجاء بعد ابن جبير معاصره الرحالة المؤرخ علي بن أبي بكر الهروي (ت- 611هـ). وهو الذي قال عنه ابن خلكان: “طاف أكثر المعمور”. فقد أقام بيت المقدس تحت سلطة الصليبيين وألف كتاب “الإشارات إلى معرفة الزيارات”، وخص القسم الأوفى منه بوصف بلد مآب ومدينة طبرية وأعمالها ونابلس والقدس الشريف وما حوله والطريق من القدس إلى مدينة الخليل والخليل من القدس إلى عسقلان. وقد قصر كتابه على ذكر الزيارات دون الأبنية والآثار والعجائب والأغنام على حد قوله.
أفاد من كتاب الهروي كثير من المؤلفين منهم المؤرخ الرحالة ابن العديم (588 – 660هـ) في كتابه المشهور “زبدة الحلب في تاريخ حلب”، والمؤرخ ابن شداد (613-684هـ) في كتابيه “بغية الطلب في تاريخ حلب” و” الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة” الذي ألفه برسم الملك الظاهر بيبرس*. وقد قسم كتابه هذا تبعاً لنظام الاجناد الخمسة المعمول به منذ الفتح الإسلامي، وهي: جند قنسرين (وفيها حلب)، وجند حمص، وجند دمشق، وجند الأردن، وجند فلسطين (رَ: الإدارة). وقد عقد الباب الرابع من كتابه على ذكر بلاد جند الأردن وأسماء كورها، وذكر طبرية وبحريتها، وبيسان، وبانياس وحصون هذا الجند وما فيه من البلاد الساحلية مثل: صور وعكا وحيفا. وعقد الباب الخامس على ذكر بلاد جند فلسطين وهي: الرملة واللد وايلياء (بيت المقدس) وبنائه ولمعة من فضائله، وفضل الصخرة الشريفة، وخراب بيت المقدس، وفتحه وملوكه وحروبه. وذكر مدينة الخليل ونابلس وقيسارية وأرسوف* ويافا وعسقلان وغزة وغيرها من المدن الساحلية وما فيها من المزارات والأمكنة المشهورة. هذا بالإضافة إلى المعلومات عن الحروب الصليبية، مما جعل من الكتاب المذكور مصدراً تاريخياً قيماً.
كذلك أفاد منه ياقوت الحموي (574 -626هـ) صاحب “معجم البلدان” الذي زار فلسطين مرتين وقال في تعريفها: “إنها آخر كور الشام من ناحية مصر، قصبتها بيت المقدس، ومن مشهور مدنها عسقلان والرملة وغزة وأرسوف وقيسارية ونابلس وأريحا* وعمان ويافا وبيت جبرين”. فهو يفسر الأعلام الجغرافية ويبين نطقها الصحيح ويورد الروايات والاشقاقات المختلفة بشأنها مع بيان طول المكان وعرضه وتحديد البرج الذي يقع تحته. فهو بحق جماع للجغرافية في صورها الفلكية والوصفية واللغوية، وللرحلات وللجغرافية التاريخية. ولم يقتصر على وصف بلدان جزيرة العرب بل تعداها إلى جميع البلدان التي عرفها العرب أو سمعوا بها من حدود الصين إلى إسبانيا.
وكان لفلسطين ذكر في كتاب “تقويم البلدان” للمؤرخ الجغرافي الملك المؤيد صاحب حماة أبي الفداء (672-732هـ) الذي غلب على كتابه الطابع الجغرافي الوصفي.
واستمرت الرحلات في القرن الثامن فكان ابن بطوطة (703- 779هـ) أمير الرحالين المسلمين كما يدعوه الانكليز. وقد زار فلسطين وأقام فيها في طريقه إلى الحج عدة مرات. وكتابه “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” المعروف اختصاراً “بالرحلة” من الكتب الهامة لمعرفة العالم الإسلامي في هذا القرن، وفيه وصف لجغرافية فلسطين. ومن جغرافيي هذا القرن أيضاً برهان الدين بن الفركاح، وقد خص فلسطين في اثنين من كتبه بقدر كبير من الحديث القيم في مجالي الجغرافية التاريخية والآثار المختلفة.
وفي القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي ألف أبو البقاء يحيى بن شاكر بن الجيمان (814 – 885هـ) كتاب “القول المستطرف في سفر مولانا الأشرف”، ويسمى أيضاً “تاريخ قايتباي”، ووصف فيه رحلة الملك الأشرف قايتباي (815- 901هـ) في سورية سنة 882هـ على شكل يوميات. وكانت غاية السلطان من الرحلة الإشراف بنفسه على حصون البلاد وقلاعها وطرقها وجسورها. فهي في الواقع رحلة عسكرية لكنها تضمت بعض المعلومات الجغرافية عن المدن الفلسطينية التي زارها كغزة والناصرة وصفد*، وفيه معلومات وفوائد اجتماعية عن عادات تلك الأيام وأحوال أهلها.
وجاء بعد ابن الجيعان الأمير المملوكي غرس الذين الظاهري المقدسي المعروف بابن شاهين (813 -873هـ) الذي تولى نيابة الكرك وصف وملطية فألف كتاب “زبدة كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك” وصف فيه المدن الفلسطينية وطرقها ومسالكها ومظاهر العمران فيها، وخص القدس بصفحات ذكر فيها أسواقها ومدارسها وخاناتها وحماماتها وعمائرها وكنائسها وديناتها وضواحيها وقبورها وأماكنها المقدسة عند المسلمين والمسيحيين.
وأغنى ما كتب في القرنين التاسع والعاشر الهجريين/الخامس عشر والسادس عشر الميلادين عن طبوغرافية القدس والخليل وبقية مدن فلسطين هو ما جاء في كتاب “الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل” للمؤرخ الباحث مجير الدين عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن العليمي* الحنبلي المقدسي (860-928هـ) فقد وصف في كتابه القدس والخليل وما ورد في أخبارهما وآثارهما وما جرى فيهما من وقائع وحروب.
وفي القرن الثاني عشر الهجري/الثامن عشر الميلادي اقتصرت الكتابات الجغرافية على الأماكن المقدسة في فلسطين. ومن أشهر من كتب في ذلك الشيخ مصطفى أسعد بن أحمد الدمياطي اللقيمي مؤلف كتاب “سوانح الأنس برحلتي لوادي القدس” سنة 1143هـ،وعبد الغني بن اسماعيل النابلسي* (1050-1143هـ) مؤلف كتاب “الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية” الذي أودع فيه ما شهده في مدن عكا والناصرة ونابلس والقدس والرملة ويافا وعسقلان وغزة وخان يونس* في رحلته التيب قام بها إلى فلسطين سنة 1101هـ.
المراجع:
- كراتشكوفسكي: تاريخ الأدب الجغرافي العربي، القاهرة 1961.
- نقولا زيادة: رواد الشرق العربي في العصور الوسطى، القاهرة 1943.
- أ.س. مرمرجي: بلدانية فلسطين العربية، بيروت 1948.
- زكي محمد حسن: الرحالة المسلمون في العصور الوسطى، القاهرة 1945.
- R.: Extraits des Principaux Geographes Arabes du moyen Age, Paris 1932.