بدأت السلطات الإسرائيلية تفكر جدياً في البحث عن قيادة بديلة لمنظمة التحرير الفلسطينية في المنطقة المحتلة. وفي تبدأ 1976 طرحت لأول مرة فكرة إنشاء “الروابط القروية” أثناء مأدبة عشاء أقيمت في منزل الشيخ محمد علي الجعبري في الخليل. وقد طرحها الميجر جنرال يغئال كرمون (الحاكم العسكري لمدينة الخليل من (1974-1976) فالتقطها مناحيم ملسون مستشار الشؤون العربية في الحاكمية العسكرية للضفة وبدأ يدرسها إلى أن شرع ينفذه عملياً بعد التوقيع على اتفاقيات كامب ديفيد* عام 1978 وما نصت عليه من إجراء مفاوضات لإقامة الحكم الذاتي الإداري في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وكان مصطفى دودين الوزير السابق في الحكومة الأردنية قد عاد عام 1975 إلى بلدته دورا/ الخليل في نطاق جمع شمل العائلات وأصبح خلال فترة وجيزة الصديق الحميم لكل من يغئال كرمون ومناحيم ملسون، فوقع عليه الاختيار لإخراج مخطط روابط القرى إلى حيز الوجود.
وقد أسفرت اتصالات ملسون وكرمون وبيبرس بمصطفى دودين عن الإعلان رسمياً عن قيام “رابطة قرى محافظة الخليل” برئاسته في 20/7/1978. وقد حضر نظام الرابطة الأساسي غاياتها المعلنة في حل المنازعات والخلافات بين السكان وتشجيع تنظيم الحمعيات التعاونية لمساعدة المزارعين لتحسين أوضاعهم الاقتصادية وتطوير أساليب الزراعة وتحديثها وغير ذلك. إلا أن الغايات الحقيقية لهذه الرابطة والروابط التي تلتها كانت كما تخلت من الممارسات اللاحقة ودعم سلطات الاحتلال لها بالمال والسلاح، محاولة لخلق قيادة فلسطينية بديلة عن منظمة التحرير الفلسطينية تكون مستعدة لتأييد “كامب ديفيد” وقادرة على المشاركة في مفاوضات الحكم الذاتي وتنفيذ مخطط (إسرائيل) للإدارة المدنية وتولي المناصب أو المهام التي توكل إليها في هذا السياق.
يضاف إلى ذلك أن روابط القرى، اعتماداً على التجربة السابقة لسلطات الانتداب البريطانية، يمكن أن تحقق للاحتلال أهدافاً أخرى هامة من بينها تفتيت الوحدة الوطنية في الضفة الغربية بين الفلاحين والمدنيين وإحياء النعرات القديمة بين أبناء المدن والأرياف. وقد تعمدت سلطات الاحتلال الصهيوني وهي تعلن إنشاء أول رابطة للقرويين في محافظة الخليل المجاهرة بإثارة هذه النعرات، إلا أن إعراض المواطنين من أبناء القرى عن هذه الرابطة واحجامهم عن الانخراط فيها دفعا سلطات الاحتلال إلى سياسة الترهيب والترغيب مع القرويين لإنجاح الرابطة وإخراجها إلى حيز الوجود، وذلك بالتلويح بتقديم فيض من التسهيلات للفلاحين ابتداء من جمع شمل العائلات وقضايا التسويق الزراعي والحصول على البدار بأسعار معتدلة وانتهاء بتقديم المساعدات المادية لتنفيذ بعض مشاريع القرى والمجالس القروية. وقد أعطيت رابطة قرى محافظة الخليل دور الوسيط بين القرى وسلطات الحكم العسكري وأعطي مصطفى دودين سلطات واسعة لتلبية ما يقدم إليه الفلاحون من مطالب.
وفي أوائل عام 1980 وسعت سلطات الاحتلال سلطات رابطة قرى محافظة الخليل فسمحت لها بإقامة لجان فرعية للتربية والصحة والزراعة وغيرها، وأقيمت لجنة مشتركة من الحكم العسكري والرابطة للبحث في زيادة المساعدات التي قدمها الحكم لبعض القرى كي تكون بديلاً للمساعدات التي بدأت اللجنة الأردنية – الفلسطينية المشتركة لدعم الصمود تقدمها لمشاريع القرى والمجالس القروية.
وحين رأت سلطات الاحتلال أن تجربتها قد نجحت إلى حد ما في الخليل أوعزت إلى مصطفى دودين أن يتحرك من أجل تعميم تجربة الروابط في بقية مناطق الضفة الغربية. وقد بدأ دودين من تحركاته في منطقة رام الله في أواخر عام 1980. ولإنجاح هذه الخطة مارست سلطات الاحتلال ضغوطها على المخاتير في المنطقة وأبلغتهم أنه لن يتم النظر في المشاريع أو المساعدات التي تتعلق بقراهم ما لم تقدم عن طريق رابطة قروية تنشأ في منطقة رام الله، وأنه لن يتم إدخال أية قروض أو مساعدات تخصص للقرى من الخارج إلا بموافقة الرابطة المذكورة.
وقد أسفرت هذه الضغوط عن إقامة رابطة لقرى لواء رام الله في أواخر كانون الأول 1980 تسلم رئاستها يوسف الخطيب مختار قرية بلعين الذي اغتيل في تشرين الثاني 1981. ثم تولى رئاسة الرابطة من بعد ابنه جميل يوسف الخطيب.
وفي هذه الأثناء كانت اتصالات مشبوهة أخرى تتم في قرى منطقة بيت لحم من أجل إنشاء رابطة ثالثة. وأكدت الأنباء التي تنشرها الصحف عن احتجاج المواطنين ورفضهم هذه الرابطة أكثر عن الأنباء التي تنشر عن نشاط الداعين لها. وقد أسفرت جهود سلطات الاحتلال عن إعلان قيام الرابطة في مطلع آب 1981 بعد أن عثرت على الشخص المناسب لرئاستها، وهو بشارة قمصية من بيت ساحور* الذي لم يتورع عن المجاهرة بآرائه السياسية والإعلان بأنه الطرف البديل في أية مفاوضات قادمة وعن استعداده لقبول أية سلطات أو مناصب تستند إليه في إطار الحكم الإداري الذاتي للضفة الغربية.
وحين تسلم مناحيم ملسون في أوائل تشرين الثاني منصب مدير الإدارة المدنية للضفة الغربية تنفيذاً لخطة شارون في الفصل بين الإدارتين المدنية والعسكرية في هيكل الحكم العسكري الإسرائيلي كان من أبرز اهتماماته في هذا المجال تنشيط وتعميم تجربة روابط القرى بحيث تمتد شمالاً إلى منطقة نابلس. وقد لوحظ من الاتصالات والزيارات التي قام بها ملسون والخطابات التي ألقاها خلال هذه الاتصالات أن هناك تركيزاً متعمداً وملحوظاً لإثارة النعرات بين المدن والقرى.
وقد أسفر النشاط المحموم الذي بذله ملسون لإقامة، روابط قروية في منطقة نابلس عن إنشاء رابطة القرى لواء جنين تحت اسم “جمعية ناحية سيلة الظهر القروية” في 12/1/1982 برئاسة يونس كمال الحنتولي رئيس المجلس القروي لسيلة الظهر. وتم أيضاً إنشاء رابطة أخرى في منطقة قلقيلية تحت اسم “جمعية قرى منطقة قلقيلية” في 8/2/1982 برئاسة اسماعيل مرزوق عودة رئيس المجلس القروي لحبلة. وفي شهر حزيران 1982 أقيمت رابطة قرى لواء نابلس برئاسة جودة صوالحة رئيس المجلس المحلي لقرية عصيرة الشمالية. وقد أدى ذلك إلى تظاهر سكان نابلس احتجاجاً على إقامة هذه الرابطة وأطلق جنود الاحتلال النار على المتظاهرين لتفريقهم.
أدركت جماهير الشعب الفلسطيني الحظر الكامن وراء إنشاء روابط القرى ومشروع الإدارة المدنية، وهو تنفيذ مؤامرة الحكم الذاتي وتهيئة الأجواء لخلق متزعمين من رؤساء الروابط عملاء الاحتلال الإسرائيلي يقبلون ما تفرضه السلطات الإسرائيلية المحتلة.
وإزاء التحرك الإسرائيلي عبر روابط القرى والإدارة المدنية مارست الجماهير الفلسطينية دورها الوطني في التصدي لهذه المشاريع بمختلف الوسائل المتاحة لها. ففي 1/11/1981 أصدر رؤساء البلديات وممثلو النقابات المهنية والهيئات الاجتماعية والمجالس الطلابية في الضفة الغربية بياناً أعلنوا فيه “أن مشروع شارون (وزير الدفاع) يهدف إلى إيجاد بديل عن منظمة التحرير الفلسطينية، وأن الحل الوحيد يتمثل في انسحاب القوات الإسرائيلية من كل الأراضي المحتلة وإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية.
ولما تم اغتيال يوسف الخطيب رئيس رابطة قرى رام الله في أواخر تشرين الثاني 1981 عمدت سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى تسليح رؤساء وأعضاء روابط القرى ووفرت الحماية الأمنية لهم وزودت الروابط بالبنادق وعربات النقل وعربات الجيب العسكرية وأجهزة الاتصال تمهيداً لتحويلها إلى عصابات وميليشيات مسلحة تنفذ الدور المنوط بها في مواجهة الشعب الفلسطيني.
وقد بين أريئيل شارون وزير الدفاع الإسرائيلي دور هذه الروابط عندما صرح في كانون الأول 1981 “بأن السلطات الإسرائيلية قررت تسليح روابط القرى تلبية لطلب زعماء هذه الروابط، ولكني تثبت للجميع أن إسرائيل تدعم القيادات المعتدلة في المناطق المحتلة”.
وتحولت روابط القرى إلى ميليشيات محلية تساعد قوات الاحتلال الصهيوني في أعمال العنف والقمع والتصدي للجماهير الفلسطينية وعمدت إلى نصب الحواجز للسيارات واعتقال الوطنيين وإطلاق النار عليهم.
وفي 9/3/1982 أصدر رئيس الوزراء الأردني بصفته الحاكم العسكري العام أمراً موجهاً إلى أعضاء روابط القرى بين فيه الدور المرسوم لروابط القرى وارتباطها بالمحتل الإسرائيلي وأعطى أعضاء الروابط مهلة شهر للانسحاب منها، وإلا فسيجري تقديمهم للمحاكمة بتهمة التعامل مع العدو، وهي تهمة تصل عقوبتها القصوى إلى الإعدام. وقد أسهم الأمر الأردني في عرقلة تجربة الروابط وانفضاض عدد من أعضائها والمتعاونيين معها.
إلا أن الغزو الإسرائيلي الجديد للبنان (صيف 1982) الذي دعمته الإمبريالية الأمريكية واستهدف تصفية منظمة التحرير الفلسطينية وإقامة حكومة موالية في لبنان تنضم إلى مؤامرة كامب ديفيد، هذا الغزو وما أسفر عنه من حصار لمنظمة التحرير الفلسطينية في بيروت وإضعاف لبنيتها العسكرية أعادا النشاط الروابط القرى ولمخططات الإدارة المدنية المصاحبة لها في الضفة الغربية وقطاع غزة. ففي هذه الأثناء أعلن إنشاء رابطة القرى محافظة نابلس برئاسة جودة صوالحة رئيس المجلس القروي لعصيرة الشمالية وسمحت سلطات الاحتلال لرابطة قرى محافظة الخليل بإصدار جريدة أسبوعية تنطق باسم الروابط بعنوان “أم القرى”. وقد صدر العدد الأول منها في 18/6/1982، أي بعد أسبوعي من بدء الغزو الصهيوني للبنان.
المراجع:
– محمد عزة دروزة: القضية الفلسطينية في مختلف مراحلها، بيروت 1959.
– أميل توما: ستون عاماً على الحركة القومية العربية الفلسطينية، بيروت 1978.
– ملفات وزارة شؤون الأرض المحتلة، عمان.
الرواية: رَ: القصة