أ- لمحة تاريخية: نشأت فكرة تقسيم فلسطين سنة 1937، وكانت لجنة بيل* أول من اقترحها. وقد جاء في تقريرها المؤرخ في 7/7/1937: “ما دام العرب يعتبرون اليهود غزاة دخلاء، وما دام اليهود يرمون إلى التوسع على حساب العرب، فالحل الوحيد هو الفصل بين الشعبين، فتؤلف دولة يهودية في الأراضي التي يكون اليهود أكثرية سكانها ودولة عربية في المناطق الأخرى”. وتكررت فكرة التقسيم مرة أخرى – ولكن في صورة مختلفة – أثناء مؤتمر لندن الذي عقد من 10/9/ إلى 2/10/1946 (رَ: لندن، مؤتمر 1946)، إذ عرضت بريطانيا على العرب ما أسمته مشروع النظام الاتحادي، أو مشروع موريسون*، وهو تقسيم فلسطين إلى أربع مناطق إدارية هي:
1) المنطقة اليهودية، وتشمل معظم الأراضي التي حل فيها اليهود إلى وقت عرض المشروع، وكذا مناطق كبيرة بين المستعمرات اليهودية وحولها.
2) القدس، وتشمل القدس* وبيت لحم* والأراضي القريبة منهما.
3) النقب*.
4) المنطقة العربية، وتشمل ما تبقى من أراضي فلسطين وتمنح كل من المنطقة العربية واليهودية استقلالاً ذاتياً.
لكن العرب رفضوا كلا المشروعين ووقفوا بقوة ضد مبدأ تقسيم فلسطين مهما كانت صوره. وحين أدركت بريطانيا* فشل مساعيها الرامية إلى التقسيم بموافقة العرب، اتجهت منذ انتهاء مؤتمر لندن سنة 1946 إلى أن يتم تقسيم فلسطين وإنشاء الدولة اليهودية فيها عن طريق منظمة الأمم المتحدة التي كان للولايات المتحدة الأمريكية* نفوذ كبير داخلها في ذلك الوقت. وكانت الحركة الصهيونية بدورها قد بدأت تركز نشاطاتها وضغوطها على الحكومة الأمريكية لإدراكها أنها القادرة على تمرير التقسيم في المنظمة الدولية الجديدة.
ب- عرض قضية فلسطين على الجمعية العامة للأمم المتحدة: في 2/4/1947 طلبت بريطانيا دعوة الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى عقد أول دورة استثنائية لها لمناقشة مشكلة فلسطين. وفي 13/4/1947 وافقت أكثرية الأعضاء على هذا الطلب رغم معارضة الدول العربية التي شعرت أن الاجتماع لا مفر منه فحاولت أن تضمن جدول أعمال الدورة الاستشارية موضوعاً إضافياً قصد منه توسيع مجال البحث حتى يشمل موضوع إنتهاء الانتداب وإعلان استقلال فلسطين. غير أن هذا الطلب رفض بحجة أنه يحكم مسبقاً على موضوع البحث. وبعد مناقشات مسهية شارك فيها أمام اللجنة الأولى الهيئة العربية العليا لفلسطين* وممثلو الوكالة اليهودية* قررت الجمعية العامة في 15/5/1947 (القرار 106 – الدورة الاستثنائية الأولى) تأليف ما عرف باللهجة الخاصة للأمم المتحدة بشأن فلسطين (انسكوب). وقد تألقت هذه اللجنة من أستراليا وكندا* وتشيكوسلوفاكيا وغواتيمالا والهند وايران وهولندا* والبيرو والسويد وأرغواي ويوغسلافيا*. وقد حدد القرار مهمة اللجنة على النحو التالي: “سيكون للجنة الخاصة أوسع السلطات في التأكد من الحقائق وتسجيلها. وفي تحري جميع المسائل والقضايا المتعلقة بقضية فلسطين…
“على اللجنة الخاصة القيام بالتحقيقات في فلسطين، وحيث ترى أن ذلك قد يكون مفيداً، وتتلقى الشهادات الخطية والشفهية من السلطة المنتدبة، وممثلي سكان فلسطين، ومن الحكومات والمنظمات والأفراد، وتدرسها، كما ترى ذلك ضرورياً، وكما تعتبره في كل حالة”.
وطلب القرار من اللجنة أن تعد تقريراً للجمعية العامة، وأن تقدم الاقتراحات التي تراها ملائمة لحل قضية فلسطين في موعد لا يتعدى 1/9/1947. ولم يتضمن القرار أي إشارة إلى استقلال فلسطين، مما أدى إلى احتجاج الوفود العربية، ومنها وفد الهيئة العربية العليا لفلسطين.
جـ- تقرير اللجنة الخاصة: عقدت اللجنة بين 26/5 و31/8/1947 16 اجتماعاً عاماً و 36 اجتماعاً خاصاً قي “ليك سَكْسِسْ” والقدس وبيروت وجنيف استمعت خلالها لبيانات سلطات الانتداب، وشهادات ممثلي العرب واليهود، واطلعت على الوثائق التي قدمها كل منهم. وقد بدا واضحاً من المعلومات التي حصلت عليها اللجنة أن الفلسطينيين العرب يشكلون الأغلبية الساحقة من السكان (رغم تدفق اليهود على فلسطين خلال فترة الانتداب). فقد قررت اللجنة رسمياً أن عدد السكان العرب يصل إلى 1.237.374 في المقابل 608.225 من اليهود (والواقع أن عدد السكان العرب كان أكثر وعدد اليهود أقل من ذلك). كذلك بدا واضحاً من تقرير اللجنة أن العرب يملكون ما يزيد على 86% من أراضي فلسطين (والنسبة الحقيقية أكبر) وأنهم – بموجب حقهم الطبيعي القانوني في البلاد – تواقون إلى الحصول على الاستقلال الناجز في دولة فلسطينية تستوعب من فيها من يهود بحقوق والتزامات مساوية للسكان الآخرين. أما اليهود فكانوا مصرين على ترجمة وعد بلفور “إلى واقع يقضي بإقامة دولة يهودية في فلسطين دون أي اعتبار لحقوق أهلها الشرعيين متعللين لذلك بأقاويل بنوا قسماً منها على أساطير تاريخية، وقسماً آخر على ما جاء في وعد بلفور وصك الانتداب على فلسطين”.
أمام هذا الواقع المادي البين في صالح القضية العربية، والذي لم تملك اللجنة إلا أن تسجله في تقريرها (الوثيقة 364/أ.ج ،4) كان عليها أن تصل إلى النتيجة المنطقية المنسجمة معه والتي عبرت عنها أقلية أعضائها. إلا أن أغلبية أعضاء اللجنة الذين لم يتم اختيارهم عشوائياً اتجهت في مقترحاتها بطريقة تحالف تماماً مسببات هذه المقترحات.
تضمن تقرير اللجنة الخاصة بفلسطين توصيات وافق عليها الأعضاء الأحد عشر بالإجماع، وتقضي بضرورة إنهاء الانتداب على فلسطين ومنحها الاستقلال، على أن تسبق ذلك مرحلة انتقالية قصيرة تكون السلطة أثناءها مسؤولة أمام منظمة الأمم المتحدة، مع بقاء الصبغة الدينية للأماكن المقدسة.
أما بعد ذلك فقد انقسمت اللجنة إلى أكثرية وأقلية قدمت كل منهما مشروعاً. وقد اقترح مشروع الأكثرية أن تقسم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية ترتبطان فيما بينهما باتحاد اقتصادي. أما الدولة العربية فتتألف من الجليل الغربي ومنطقة نابلس الجبلية والسهل الساحلي* الممتد من أسدود* في الجنوب إلى الحدود المصرية، وتدخل في هذا منطقة الخليل وجبال القدس* وغور الأردن. وعلى هذا خصص للدولة العربية حوالي 42.88% من المساحة الكلية لفلسطين. أما سكانها فكانوا حوالي 725.000 عربي و10.000 يهودي. في حين تضم الدولة اليهودية الجليل الشرقي ومرج ابن عامر* والقسم الأكبر من السهل الساحلي ومنطقة بئر السبع بما فيها النقب، أي أنه خصص لها ما يقرب من 56.74% من المساحة الكلية لفلسطين، أما سكانها فكانوا حوالي 498.000 من اليهود و497.000 عربي. وبموجب هذا المشروع يجعل للقدس كيان مستقل لنظام دولي خاص، وتتولى الأمم المتحدة إدارتها، ويعين مجلس وصاية ليقوم بأعمال السلطة الإدارية نيابة عن الأمم المتحدة. وتشمل مدينة القدس في وضعها المقترح “بلدية القدس الحالية مضافاً إليها القرى والبلدان المجاورة حتى أبو ديس شرقاً وبيت لحم جنوباً وعين كارم* غرباً، وتشمل معها المنطقة المبنية من قرية قالونيا*”. وكان في مدينة القدس 100 ألف يهودي و105 آلاف عربي.
واقترحت أقلية اللجنة التي ضمت مندوبي ايران والهند ويوغسلافيا أن تقوم في فلسطين حكومتان مستقلتان استقلالاً داخلياً وتتألف منهما دولة اتحادية واحدة عاصمتها القدس. وقد امتنعت أستراليا عن دعم أي من هذين المشروعين لأنها شعرت “أن كليهما يضعف إمكان اتخاذ القرار عادل من قبل الجمعية العامة”.
د- الجمعية العامة كلجنة خاصة: في 3/9/1947 جعلت الجمعية العامة نفسها لجنة خاصة لبحث كلا المشروعين. وقد مثلت جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في هذه اللجنة التي عقدت 34 اجتماعاً بين 25 أيلول و25 تشرين الثاني. استمعت هذه اللجنة الخاصة مرة أخرى إلى أقوال الهيئة العربية العليا والوكالة اليهودية. وكان محامياً الدفاع عن تقرير الأكثرية ممثلي غواتيمالا وأرغواي “وقد غمرا بالهدايا الصهيونية وفيما بعد الإسرائيلية”. ورغم أن الولايات المتحدة الأمريكية حافظت على صمتها السياسي لبضعة أسابيع بعد تأليف اللجنة الخاصة إلا أنها كشفت القناع عن وجهها أخيراً، كما سجل وزير دفاعها آنئذ فورستال في مذكراته. وكان تصريح وزير الخارجية الأمريكية مارشال الذي أدلى به في 17 أيلول وقال فيه “إن الولايات المتحدة تتولي أهمية كبرى لخطة التقسيم” ذا مغزى بالنسبة لما تبع ذلك. ففي 11 تشرين الأول قام الممثل الأمريكي في اللجنة الخاصة بالإعلان رسمياً عن دعم الولايات المتحدة لخطة الأكثرية بالتقسيم، وللهجرة اليهودية. وقد اتخذ الاتحاد السوفياتي* موقفاً مماثلاً بعد يومين فقط. وكان أحد شروط هذا القرار الأساسية أن يكون هناك اتحاد اقتصادي ضمن خطة التقسيم نظرا لأن 60% من أحسن المناطق في فلسطين وهي المناطق التي أدرجتها الأكثرية في الدولة اليهودية المقترحة كانت ستصبح تحت حكم أقل من ثلث السكان (اليهود).
بعد أن ناقشت الجمعية العامة، بصفتها لجنة خاصة، تقرير اللجنة التي أوصت أكثريتها بالتقسيم شكلت لجنتين فرعيتين، أوكلت إلى إحداهما تقديم مشروع الأكثرية (أي التقسيم)، وإلى الثانية تقديم تقرير عن مشروع الأقلية (أي دولة الموحدة المستقلة).
وقد قدمت اللجنة الفرعية الثانية تقريراً معللاً يرفض مشروع التقسيم ضمنته ثلاثة مشاريع قرارات رفضتها الجمعية العامة ومضمون مشروع القرار الأول عدم تمتع الجمعية العامة بالسلطة القانونية التي تحولها تقسيم فلسطين. وأوصى المشروع الثاني بالتعاون الدولي لمعالجة مشكلة اللاجئين. ودعا المشروع الثالث إلى إنشاء دولة فلسطينية موحدة مستقلة.
وقد جاء في هذا التقرير ما يأتي:
“ينبغي النظر في مسألة فلسطين في ضوء كل من أحكام الانتداب على فلسطين التي تفسرها المبادىء العامة الواردة في عهد عصبة الأمم*، وأحكام ميثاق الأمم المتحدة … وبناء على ذلك فإن اقتراح الأكثرية في اللجنة الخاصة بضرورة تقسيم فلسطين، بصرف النظر عن الاعتراضات السياسية والأدبية الأخرى التي لها وزنها، يتعارض مع أحكام صك الانتداب المحددة، وبعد انتهاكاً مباشراً لمبادىء وأهداف عهد عصبة الأمم. ويتعارض الاقتراح أيضاً مع مبادىء ميثاق الأمم المتحدة، ولا تملك الأمم المتحدة أية وسيلة لتنفيذه. أن الأمم المتحدة ملزمة بموجب المادة الأولى من الميثاق أن تعمل وفقاً لمبادىء العدل والقانون الدولي، وأن تحترم المبدأ الذي يقضي بالمساواة في الحقوق بين الشعوب، وبأن يكون لكل منها حق تقرير مصيره…. ولا يمكن بأي حال اعتبار فرض التقسيم على فلسطين ضد الرغبات الصريحة لأغلبية سكانها احتراماً لأي مبدأ من مبادىء الميثاق المذكورة، أو عملاً بها”.
وقد قامت هذه اللجنة الفرعية التي درست توصية الأقلية بإقامة دولة اتحادية مستقلة بتخليص مبرراتها في تقرير ورد فيه:
1) إن أي حل لفلسطين لا يمكن أن يعتبر حلاً للمشكلة اليهودية بشكل عام.
2) وأن التقسيم اقتراح غير عملي وغير ممكن التنفيذ، ومن المستحيل أن يؤدي إلى قيام دولتين لهما القدرة على الاستمرار بشكل معقول.
3) وأن المجتمع الدولي يخطىء خطأ جسيماً إن لم يوجه كل جهوده نحو الحفاظ على وحدة فلسطين، وأن تأييد الأمم المتحدة لتلك الوحدة سيكون، في حد ذاته، عاملاً هاماً لتشجيع التعاون بين الشعبين.
4) “وأنه لا يمكن تصور أن تعتبر فلسطين بأي شكل من الأشكال وسيلة لحل المشكلة يهود العالم. فالمساحة، والموارد المحدودة، والمعارضة القوية والمستمرة من الشعب العربي الذي يشكل غالبية سكان البلاد، عوامل تتعارض تعارضا مباشراً وقوياً مع أي اقتراح كهذا”.
بعد أن استمعت اللجنة الخاصة للجمعية العامة إلى تقرير اللجنتين الفرعيتين ابتدأ التصويت على المقترحات التي كانت تمثل وجهة نظر العرب. ودعا الاقتراح الأول إلى دعوة محكمة العدل الدولية لكي تقرر صلاحية الأمم المتحدة لمعالجة موضوع فلسطين، لكن الاقتراح رفض بأكثرية 25 صوتاً مقابل 18 وامتناع 11 دولة عن التصويت. وبالعكس صوتت 21 دولة مقابل 20 دولة على أن للأمم المتحدة صلاحية التوصية بتطبيق التقسيم دون الحاجة إلى موافقة أكثرية شعب فلسطين. ومن الجدير بالملاحظة أن الأرجنتين واليونان وهايتي وليبيريا كانت من بين الدول التي دعمت وجهة نظر العرب حول كلا الاقتراحين، ثم غيرت معظمها مواقفها فيما بعد.ودعا اقتراح ثالث إلى امتصاص اليهود الذين لا مأوى لهم من قبل الدول أعضاء الأمم المتحدة. وقد صوتت 16 دولة إلى جانب هذا القرار و 16 مثلها ضده وامتنع عن التصويت 26. وترافع المندوبون العرب وأصدقاؤهم القلائل ضد التقسيم بكل ما أوتوا من حجج قانونية وسياسية وإنسانية، لكن دفوعهم كلها وقعت على آذان صماء. فقد كانت الولايات المتحدة بدفع من الحركة الصهيونية قد أبعدت أية فسحة لقوة الحجة. وهكذا، وفي 25/11/1947، وافقت اللجنة الخاصة على خطة التفسيم مع وحدة اقتصادية بين الدولتين: العربية واليهودية بأكثرية 25 صوتاً مقابل 13 صوتاً وامتناع 17. وقد اختلف مضمون هذا القرار عن خطة الأكثرية في اللجنة الخاصة بفلسطين بأنه انقض المنطقة المخصصة للدولة اليهودية بجعله يافا* وحوالي 500 ألف فدان من منطقة النقب من حصة الدولة العربية. ورفع الأمر إلى الجمعية العامة التي تحتاج في اتخاذ مثل هذه القرارات لأغلبية ثلثي أعضائها الحاضرين والمشتركين في التصويت. ولما كانت الأغلبية التي أقر بها مشروع التقسيم في اللجنة الخاصة غير كافية لاقراره في الجمعية العامة فقد صعدت الولايات المتحدة الأمريكية ومعها حليفتها الصهيونية العالمية حملاتها لكسب مزيد من الأصوات في الجمعية العامة مستخدمة في ذلك ما تهيأ لها من وسائل الترغيب والترهيب مع الدول الأعضاء أو ممثيلها.
هـ- الجمعية العامة وتقسيم فلسطين: شعرت الوفود العربية أن عامل الزمن لا يسير لصالح القضية الفلسطينية فركزت جهودها على سرعة التصويت على مشروع قرار التقسيم أملاً في إحباطه. وفي مساء 26 تشرين الثاني كاد يحدث التصويت في الجمعية العامة فعلاً، ولو جرى يومها لسقط مشروع التقسيم حتماً. لكن رئيس الجمعية العامة مندوب البرازيل أجل الجلسة بحجة ضيق الوقت وكثرة طالبي الكلام. وأبدى المندوبون العرب استعدادهم لسحب طلباتهم بالكلام من أجل التسريع في عملية التصويت، لكن رئيس الجمعية العامة أصر على رفع الجلسة ولما تتجاوز الساعة السادسة والنصف مساء في حين كان أمراً عادياً أن تستمر جلسات الجمعية إلى ساعات متأخرة من الليل. وكان رئيس الجمعية، كما سجل ممثل الفيليبين، ينفذ دوره في لعبة تأجيل التصويت لكسب الأغلبية اللازمة لإقرار التقسيم تماماً كما خطط له البيت الأبيض والحركة الصهيونية العالمية.
وفي وصف مساعي الحركة الصهيونية للضغط على الدول المعارضة للتقسيم لتغير مواقفها كتب الصهيوني دافيد هوروفيتس يقول “بقيت فينا روح الكفاح ثابتة. اجتمعنا في مكاتب الوكالة وتشاورنا في الطرق والوسائل الكفيلة لتغيير مجرى الأحداث. وبدأ الصراع من جديد. دقت أجراس الهواتف بشكل محموم. أرسلت البرقيات إلى كل أنحاء العالم. أيقظنا أناساً من نومهم في منتصف الليالي وأرسلناهم في مهام غريبة. والأغرب من كل ذلك أنه ما من يهودي ذي نفوذ سواء أكان صهيونياً أم غير صهيوني رفض أن يعطينا العون في أي وقت كان، فقد وضع الجميع إمكاناتهم، صغيرة كانت أم كبيرة، في خدمة المحاولات اليائسة لترجيح كفتنا”.
وقد تكشفت فيما بعد أسباب تغيير بعض الدول مواقفها وازدياد الأصوات الموالية للتقسيم خلال ثلاثة أيام فقط، فقد أشار هوروفيتس إلى أهمية المعسكر الأمريكي اللاتيني ووصف المحاولات التي جرت لدى هذه الدول بأنها كانت “ناجحة بشكل مدهش”. فقد استعمل الصهيوني الأرجنتيني موشي توكس الذي كان مسؤولاً عن الأعمال السياسية الصهيونية في دول أمريكا اللاتينية” كل الوسائل التي وضعت تحت تصرفه في سبيل الاقناع”، “وكان ناجحاً وضليعاً في استعمال وسائل عديدة، كشرح المواقف، والتقرب، والضغط، واستعمال السلطة. لقد التصق بالهاتف ليلاً ونهاراً يتكلم مع عواصم الجمهوريات في أمريكا اللاتينية، بينما أرسل وسطاءه إلى قسم من هذه القارة”. وكان من بين أنشط الدعاة للقضية الصهيونية الكاردينال سبيلمان رئيس أساقفة نيويورك للكاثوليك. كما تأكد أن جوسي فيجورويرس، وهو رئيس جمهورية سابق لكوستاريكا ومن أصل يهودي، أعطى دفتر شيكات” على بياض “لشراء الضمائر. وفي الوقت نفسه استلمت زوجات ممثلي دول أمريكا اللاتينية هدايا كثيرة معظمها من ألماس ومعاطف الفرو الثمينة. وقد أعاد الممثل الكوبي المعارض لفكرة التقسيم معطف فرو قدم هدية إلى زوجه. وفي الوقت نفسه رفض هذا الممثل الرسمي طلبات كثيرة بالتحدث لمصلحة الصهيونية. وقد أشار الممثل الكوبي نفسه فيما بعد إلى وجود هذه الضغوط، وإلى أن صوت دولة هاييتي جرى ضمانه عن طريق أدولف بيرل الذي وعد بإعطاء مساعدات اقتصادية أمريكية لهذه الدولة كي تصوب إلى صالح التقسيم. وفعلاً أعلن الممثل الهاييتي الذي كان قد صوت ضد التقسيم في اللجنة الخاصة أن حكومته أمرته بتغيير صوته لأسباب اقتصادية.
وهكذا تآزرت الولايات المتحدة الأمريكية كحكومة وكرسميين مع الحركة الصهيونية في شراء الضمائر والأصوات اللازمة لتمرير التقسيم. حدث ذلك مثلاً مع غواتيمالا عن طريق روبرت نائبان رجل الأعمال الامريكي الذي استخدم، بعلم الحكومة الأمريكية، نفوذه الاقتصادي لشراء صوت هذه الدولة. وحدث ذلك أيضا مع ليبيريا التي هددت بالضغط عليها من شركة فايرستون إن هي لم تتحول من موقف الامتناع عن التصويت في هذه اللجنة الخاصة إلى موقف التأييد للتقسيم في الجمعية العامة. وحدث ذلك مع الفيليبيين التي تعرض رئيس وفدها لضغوط حملته على ترك مقر الأمم المتحدة بعدما أعطى أوامره المشددة بالتصويت ضد التقسيم، لكن رئيس جمهوريته ذاته تدخل وأمر وفده بالتصويت إلى جانب التقسيم. وثمة حادثة أخرى كان لها أهمية خاصة نظراً للظروف التي أحاطت بها، وهي السحب المفاجىء لأوراق اعتماد ممثل سيام، فقد كان وضع هذا المندوب قلقاً بسبب انقلاب وقع ضد حكومته، غير أن الأمر ما كان يستدعي سحب أوراق اعتماده لولا أن كان قد أعلن أنه سيصوت ضد التقسيم. ولقد اعترف رئيس الولايات المتحدة الأمريكية هاري ترومان بدور بلاده في شراء أصوات مؤيدي التقسيم في مذكراته. وقد أكد وكيل وزارة الخارجية الأمريكية آنئذ روبرت لوفيت دور البيت الأبيض في الضغط على الدول لحملها على مجاراة التقسيم حين كتب “أنه لم يتعرض في حياته قط لمثل هذا الضغط الذي تعرض له خلال الأيام الثلاثة بدءا من صباح الخميس وحتى مساء السبت”. وكان هربرت بايرد سوب وروبرت نائبان من بين أولئك الذين تدخلوا لديه. وأكد “سمنر ويلز” أن البيت الأبيض كان يلعب دوراً مباشراً في الموضوع، فقد استخدم ممثلين ووسطاء للتأكد من ضمان الأكثرية اللازمة. ويؤكد دافيد هوروفيتس ذلك بصراحة مطلقة حين يقول: “إن الولايات المتحدة استعملت تأثيرها في اللحظة الأخيرة. ويجب أن يعزى التصويت النهائي إلى هذه الحقيقة”.
كان يوم الخميس في 27/11/1947 يوم عيد الشكر، فلم تجتمع الجمعية العامة. وحين اجتمعت يوم الجمعة لم يتكلم أحد، فاقترح السفير الفرنسي تأجيل الاجتماع 24 ساعة لكي يعطي الوقت لمحاولات التوفيق. وجاء هذا التأجيل لمصلحة الصهيونية، فما إن أطل يوم 29/11/1947 حتى كانت الجهود المشبوهة قد أثمرت لصالح التقسيم. وشعر المندوبون العرب أن كفة الميزان رجحت ضدهم فحاولوا كسب الوقت لعل الأمور تتغير، واقترحوا مشروعاً وسطاً يدعو لإنشاء دولة موحدة في فلسطين تقوم على نظام لا مركزي ، وتضمن حقوق الأقلية اليهودية. وقد طرح هذا المشروع صباح السبت 29/11/1947، لكن مندوبي الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي معا عارضا حتى مناقشة المشروع، وأصرا على التصويت على مشروع التقسيم الذي فاز بأغلبية 33 صوتاً مقابل 13 صوتاً وامتناع 10 أعضاء. وهكذا صدر القرار رقم 181 (الدورة – 2) الذي سجل بداية مأساة الشعب العربي الفلسطيني مع الأمم المتحدة.
و- التصويت *: صوت إلى جانب قرار التقسيم كل من: أستراليا، بلجيكا، بولونيا، البرازيل، روسيا البيضاء، كندا، كوستاريكا، تشكوسلوفاكيا، الدانمارك، الدومينيكان، ايكوادور، فرنسا، غواتيمالا، هاييتي، ايسلندا، لييبريا، لوكسمبورغ، هولندا، نيوزيلاندا، نيكاراغوا، النروج، بنما، بارغواي، بيرو، الفيليبيين، بولندا، السويد، أوكرانيا، جنوبي افريقيا، الاتحاد السوفيتي، الولايات المتحدة الأمريكية، أورغواي، فنزويلا.
وعارض قرار التقسيم كل من: أفغانستان، كوبا*، مصر، اليونان، الهند، ايران، العراق، لبنان، الباكستان*، المملكة العربية السعودية، سورية، تركيا، اليمن.
وامتنعت عن التصويت كل من: الأرجنتين، تشيلي، الصين، كولومبيا، السلفادور، الحبشة، هندوراس، المكسيك، انكلترا، يوغسلافيا.
ز- مضمون قرار التقسيم: عنوان القرار رقم 181 (الدورة 2): “التوصية بخطة لتقسيم فلسطين”، وهو يقع في مقدمة وأربعة أجزاء على النحو التالي:
الجزء الأول ويضم دستور فلسطين وحكومتها المستقلة. وفيه نصوص حول انهاء الانتداب، والتقسيم، والاستقلال، والخطوات التمهيدية لهذا الاستقلال. وفي هذا الجزء فصل خاص بالأماكن المقدسة والأبنية والمواقع الدينية، وفصل ثان خاص بالحقوق الدينية وحقوق الأقليات، وفصل ثالث خاص بالمواطنة والاتفاقيات الدولية والالتزامات المالية، وفصل رابع يتضمن أحكام الاتحاد الاقتصادي الفلسطيني بين الدولتين العربية واليهودية. ومجموع أحكام هذه الفصول بشكل هيكل التصريح الذي يفترض أن ترفعه الحكومة المؤقتة لكل من الدولتين إلى الأمم المتحدة قبل الاستقلال.
أما الجزء الثاني فوصف حدود الدولة العربية والدولة اليهودية. وقد رسمت هذه الحدود على خارطة اعتبرت الملحق القرار.
أما الجزء الثالث من القرار 181 فهو مخصص للوضع الاستثنائي لمدينة القدس من حيث نظامها الخاص، وإدارتها، وموظفوها واستقلالها المحلي، والتنظيم التشريعي والقضائي فيها، وربطها بالاتحاد الاقتصادي الفلسطيني، وحرية العبور والزيارة، وعلاقاتها بالدولتين، واللغات الرسمية فيها، والمواطنة وامتيازاتها ووضع الأماكن المقدسة فيها.
وجاء الجزء الرابع من القرار خاصاً بإنهاء الامتيازات التي يمكن أن تكون الدول الأجنبية قد تمتعت بها في فلسطين أثناء الحكم العثماني.
ح- قرار التقسيم والقانون الدولي: إن قرار الجمعية العامة 181 بتقسيم فلسطين يتعارض مع أحكام القانون الدولي التي جاء بها ميثاق الأمم المتحدة للأسباب التالية:
1) فهو قد صدر بالمخالفة لواحد من أهم أهداف المنظمة الدولية، أي حق الشعوب في تقرير مصيرها (المادة 1 ف2) ولأن إعمال هذا الهدف كان يتطلب احترام رغبة أغلبية سكان فلسطين في تقرير مستقبل بلدهم.
2) والقرار يفتقر من جهة أخرى إلى أي سند قانوني. فالجمعية العامة لا تملك سلطة التصرف بدون ضابط في شؤون الأقاليم الموضوعة تحت الانتداب، وفلسطين منها. لأن ميثاق الأمم المتحدة أنشأ نظام الوصاية لكي يحل محل نظام الانتداب بموجب اتفاقات للوصاية تبرمها الأمم المتحدة مع الدول صاحبة الشأن. وقرر الميثاق أنه إلى حين وضع اتفاقات الوصاية يجب استمرار العمل بالاتفاقات الدولية القائمة. ومعنى هذا أن الجمعية العامة عند نظرها للمشكلة الفلسطينية كان عليها أن تدخل في مفاوضات لوضع فلسطين تحت الوصاية، وأن تقرر إنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين إذا كان قد حقق أغراضه في تهيئة الإقليم للاستقلال.
3) ليس في ميثاق الأمم المتحدة ما يحول الجمعية العامة أو أية هيئة رئيسة أخرى في المنظمة الدولية تقسيم إقليم محدد دولياً خلافاً لرغبة السكان.
4) إن قرار التقسيم، استطراداً وجدلاً، يجافي العدالة من حيث توزيع الأراضي بين الدولتين وإمكانية حياة كل منهما. فقد منح الدولة اليهودية أجود الأراضي الفلسطينية، وأعطاها السلطة السياسية على مساحة أكبر من المساحة التي خصصت للدولة العربية (12.200 كم2 في مقابل 14.400كم2 للدولة اليهودية) فضلاً عن أن نصف سكان الدولة اليهودية تقريباً كانوا من العرب الذين يمتلكون ما يزيد على ثلثي ما في تلك الدولة من عقارات وأراض.
وإضافة إلى هذا كله يعد قرار التقسيم في الفقه الدولي – وخاصة السائد حين صدوره – توصية غير ملزمة صدرت وفقاً للمادة العاشرة من الميثاق. وهذه التوصية لا يمكنها، بأي حال من الأحوال، أن تمس الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني*، ومن عجب أن (إسرائيل) وحلفاءها إذ يتمسكون بهذا القرار –التوصية، ويضفون عليه صفة الالزام القانوني المطلق، لا يقيمون وزناً لأي من قرارات الجمعية العامة اللاحقة الخاصة بفلسطين وشعبها وحقوقه الثابتة مدعين أنها مجرد توصيات لا إلزام قانونياً لها.
المراجع:
– ريتشارد ب. ستيفنز: الصهيونية الأمريكية وسياسة أمريكا الخارجية 1942 -1947، بيروت.
– محمد طلعة الغنيمي ومحمد سامي عبد الحميد: قضية فلسطين أمام القانون الدولي، الاسكندرية 1967.
– محمد حافظ غانم: العلاقات الدولية العربية، القاهرة 1965.
– مصطفى عبد العزيز: التصويت والقوى السياسية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بيروت، 1968.
– مؤسسة الدراسات الفلسطينية: قرارات الأمم المتحدة بشأن فلسطين والصراع العربي – الإسرائيلي 1947 – 1974، بيروت 1975.
– محاضر الدورة الاستثنائية الأولى للجمعية العامة للأمم المتحدة، ومحاضر اللجنة الخاصة للأمم المتحدة بشأن فلسطين.
– محاضر الدورة الثانية للجمعية العامة للأمم المتحدة.