أ- قبل 1948: كانت بريطانيا كما أثبتت الأحداث من الدول الأوروبية الأولى التي وقفت إلى جانب اليهودية العالمية، وأيدت اتجاهاتها وتطلعاتها، وتبنت الحركة الصهيونية وأسهمت في تحمل عبء تحقيق أهدافها وأمانيها.
ثمة عامل هام من جملة عوامل أخرى جعل الإنكليز يقفون إلى جانب الصهيونيين ومطامعهم في العصر الحديث هو العامل الروحي أو الديني. وفي هذا يقول حاييم وايزمن زعيم الحركة الصهيونية في مذكراته “التجربة” والخطأ” الصادرة عام 1949: “ولم يخطر على بال بعضهم أن رجالاً من أمثال بلفور وتشرشل ولويد جورج كانوا متدنيين في أعماق قلوبهم ومؤمنين بالتوراة*، وبأن عودة اليهود إلى فلسطين مسألة واقعية حقيقية، ولذلك فإنهم جعلوا ينظرون إلينا، نحن الصهيونيين، ممثلين لفكرة يحترمونها احترماً عظيماً”.
ومما هو جدير بالتسجيل للتدليل على استمرار التعاون وتطوره بين الفريقين أن احتلال بريطانيا لمصر عام 1882 م جاء في عام نشوء الحركة الصهيونية التي تكرس إعلان قيامها في مؤتمر بال عام 1897م، وأن قسماً من اليهود بحث عام 1903 مع الحكومة البريطانية في إنشاء وطن قومي لليهود في سيناء تمهيداً للوصول إلى فلسطين، وأن بريطانيا تبنت قرارات المؤتمر الصهيوني* العالمي في بال بسويسرا عام 1897، وأن السفير البريطاني في استانبول يومئذ عمل بنشاط على دعم هرتزل في زيارته للعاصمة العثمانية وضغطه على السلطان والحكومة العثمانية للقبول بمطلب هرتزل.
ويشيد وايزمن في مذكراته بمواقف بريطانيا من الحركة الصهيونية وتأييدها لأهدافها وأغراضها فيقول: “إن بريطانيا احتضنت الحركة الصهيونية، وأخذت على عاتقها تحقيق أهدافها”، ويضيف: “أن لندن هي الطريق الذي يوصل إلى فلسطين”.
ومن الثابت أن بريطانيا لعبت أعظم الأدوار في تحطيم الدولة العثمانية. وكان حافزها الأساسي إلى هذا العمل مزدوجاً:
1) الاستيلاء على الولايات المشرقية العربية التابعة للدولة العثمانية لأغراضها الاستعمارية.
2) السيطرة على فلسطين لتحويلها، عبر الأيام، إلى دولة يهودية تكون في الوقت نفسه أداة لإحباط فكرة الوحيدة العربية، وفاصلاً سياسياً وعسكرياً بين مشرق الوطن العربي ومغربه، وتكون حاجزاً وقائياً بريطانياً متقدماً في الوطن العربي يحمي قواعدها فيه.
ظهرت نيات بريطانيا وسياستها المبيتة وتواطؤها مع الصهيونيين بأجلى وضوح خلال الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) فبعد أن تعهدت بريطانيا للشريف الحسين بن علي بلسان مكماهون ممثلها في مصر بمساعدة العرب على تحرير بلادهم وتحقيق وحدتهم سعت في ما عقب ذلك من إجراء المباحثات وتبادل المراسلات مع الشريف الحسين ( رَ: الحسين – مكماهون، مراسلات) إلى إخراج فلسطين من نطاق البلاد العربية الموعودة بالاستقلال، وإسباغ صفة جغرافية وسياسية خاصة تمهد السبيل للسيطرة البريطانية عليها.
وكان الحلفاء – رغم الوعود المقطوعة للحسين – قد عقدوا فيما بينهم اتفاقات ومعاهدات سرية مثل اتفاقية “باليالوغ – سازانوف” واتفاقية “سايكس – بيكو*” لتقسيم الأراضي العربية بين فرنسا وبريطانيا وجعل فلسطين من نصيب بريطانيا. ولم تلبث الأيام أن كشفت النقاب عن هذه الاتفاقات والمعاهدات السرية. ولما اطلع العرب عليها هددوا بالاتصال بالدولة العثمانية لعقد صلح منفرد معها. ولكن الإنكليز بادروا إلى طمأنة العرب وتجديد وعودهم لهم.
ولما انتهت الحرب وتبين عزم الحلفاء على تقسيم الديار السورية (سورية ولبنان وفلسطين وشرق الأردن) احتج العرب على خطة الحلفاء، وتظاهروا في الأقاليم السورية استنكاراً لها، فأصدرت القيادة العامة للحلفاء بتاريخ 18/11/1918 بياناً أكدت فيه “أن السبب الذي من أجله حاربت فرنسا وبريطانيا في الشرق إنما هو تحرير الشعوب التي رزحت أجيالاً طويلة تحت حكم مظالم الأتراك تحريراً تاماً نهائياً”.
وسقطت فلسطين بأيدي القوات البريطانية (1917 – 1918) وظهرت سياسة بريطانيا على حقيقتها، فقد تبين بالأدلة القاطعة في خلال الحرب العالمية الأولى بوجود تفاهم وتعاون بين بريطانيا والصهيونية العالمية لتمهيد السبيل إلى تحقيق الأهداف الاستعمارية والصهيونية المرسومة. ففضلاً عن وعد بلفور* شكلت بريطانيا فرقة نقل يهودية خاصة عرفت بفرقة البغالة Mules Corps وألحقتها بالجيش البريطاني الذي بدأ الزحف على فلسطين من مصر في صيف 1916 بقيادة الجنرال أللنبي. وسلحت الكثيرين من الشبان اليهود وضمتهم إلى هذا الجيش، ووافقت على انضمام لجنة استشارية صهيونية برئاسة وايزمن إلى القيادة العامة ( قيادة أللنبي). وقد وافقت هذه اللجنة الصهيونية القيادة العامة البريطانية منذ بداية الزحف إلى فلسطين وحتى إتمام احتلالها.
وجرت خلال سنين الحرب مباحثات بين الحكومة البريطانية وزعماء الصهيونية للوصول إلى اتفاق بشأن إعطاء الصهيونيين فلسطين بعد نهاية الحرب. وحرص الصهيونيون على إظهار محاسن مثل هذا الاتفاق للاستعمار البريطاني. وقد مهد وايزمن لذلك برسالة نشرها بتاريخ 12/11/1915 في جريدة “المانشتر غارديان” جاء فيها ما يلي:
“إذا دخلت فلسطين ضمن منظمة النفوذ البريطاني ووافقت الحكومة البريطانية على تشجيع إسكان اليهود فيها فإنه يمكن أن يصير لنا فيها خلال عشرين أو ثلاثين عاماً نحو مليون يهودي، أو ربما أكثر من ذلك، فيشكلون حراسة عملية قوية لقناة السويس”.
واستمرت المباحثات والمفاوضات بين الفريقين مدة عامين، ووصلت في خريف عام 1917 إلى ذروتها عندما أخذت وزارة الحرب البريطانية تبحث رسمياً في مسألة تحقيق الأهداف الصهيونية في فلسطين، وإصدار وعد بهذا الشأن. وقد جاء في مذكرات وايزمن أنه بعث رسالة إلى وزارة الحرب البريطانية بتاريخ 14/10/1917 قال فيها:
“إننا نعلن لكم بصراحة واحترام أننا نترك بين أيديكم مصيرنا الوطني والصهيوني آملين أن تنظروا إلى قضيتنا في ضوء مصالح الإمبراطورية البريطانية”.
وفي غضون هذه المباحثات والمفاوضات صدر وعد بلفور. وكان يظن أنه عمل بريطاني محض، ولكن الوثائق الرسمية أثبتت فيما بعد أن نص تصريح بلفور هذا كان قد قدم إلى الرئيس الأمريكي وودرو ولسون وأنه وافق عليه قبل إعلانه. ففي 16/10/1917 أرسل الكولونيل هاوس الدبلوماسي الأمريكي برقية إلى وزارة الحرب البريطانية يعلمها فيها موافقة الرئيس الأمريكي والحكومة الأمريكية على نص التصريح، وعلى إصداره باسم بريطانيا. وفي 14/2/1918 أعلنت فرنسا تأييدها للتصريح. وفي 9/5/1918 أعلنت إيطاليا تأييدها له.
وقد جعل الإنكليز تصريح بلفور قاعدتهم الأساسية التي ينطلقون منها إلى تهويد فلسطين. فإنهم لما أتموا احتلال فلسطين في 1918، أنشأوا فيها إدارة عسكرية بريطانية لحكم البلاد (رَ: الإدارة)، وقد بادرت هذه الإدارة إلى فتح أبواب فلسطين للهجرة اليهودية، وتسهيل أمر استيلاء اليهود على أراضي البلاد (رَ: الهجرة اليهودية إلى فلسطين) في حين سمحت للجنود اليهود المسرحين الذين كانوا يعملون في جيش أللنبي بالمجيء إلى فلسطين ومعهم أسلحتهم الخفيفة، وسمحت هذه الإدارة لليهود بإنشاء نواد وجمعيات ومؤسسات ومنظمات سرية شبه عسكرية منها “المكابي” و”ترمبلدور” و”حماة إسرائيل” و”البيتار” وغيرها. كذلك وافقت الحكومة البريطانية على نقل مقر الجمعية الصهيونية إلى القدس.حدأحدمامهنأنمنأمننأنساس
أما العرب فكان نصيبهم، منذ البداية، اضطهاد الإنكليز لهم، وحرمانهم من العمل السياسي والتسلح، وإيجاد السبيل والوسائل التي تجعلهم ضعفاء أمام السياسة الاستعمارية الصهيونية، وفي وضع لا يستطيعون معه مقاومة الغزوة الصهيونية. وبالرغم من ذلك قاوم العرب في الأقاليم السورية وبخاصة في فلسطين هذه السياسة بجميع الوسائل التي أتيحت لهم، وبمختلف أشكال المقاومة المسلحة والسياسية والشعبية وغيرها، ولم يتركوا وسيلة إلا لجأوا إلى استخدامها من أجل تثبيت حقوقهم والحفاظ على وطنهم وعروبتهم.
وقبل أن تنتهي الحرب العالمية الأولى اتفقت بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا على إنشاء منظمة عصبة الأمم* ووضعت لها عهداً (ميثاقاً). فوجد دهاقنة الاستعمار في هذه الخطوة سبيلاً لبلوغ هدفهم فضمنوا عهد عصبة الأمم فكرة الانتداب كشكل قانوني مقنع من أشكال الاستعمار ( المادة 22 من عهد العصبة).
وأدرك العرب في الأقاليم السورية كنه هذه الحيلة، ورغبة الدول الاستعمارية في إيجاد قناع له سمة دولية تخفي وراءه أهدافها وأغراضها الحقيقية، فاحتجوا على فكرة الانتداب، وأعلنوا تمسكهم بالوحدة والاستقلال ورفض وعد بلفور. وقام الفلسطينيون بمظاهرات صاخبة عنيفة ضد الوعود ومشروع الانتداب.
وعلى الرغم من هذا كله، ومن نص المادة الثانية والعشرين من عهد عصبة الأمم بأن يكون لرغائب أهل البلاد الاعتبار الأول في اختيار الدولة المنتدبة، فإن مجلس الحلفاء الأعلى قرر في 20/4/1920 وضع فلسطين تحت انتداب بريطانيا على أن تلتزم بتنفيذ وعد بلفور.
واجتمعت عصبة الأمم في 24/7/1922 وقررت “وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني تنفيذاً لقرار مجلس الحلفاء الأعلى الصادر في 20/4/1920”. وأقرت العصبة في الاجتماع ذاته صكاً للانتداب البريطاني على فلسطين (رَ:الانتداب على فلسطين، صك) وأذاعت مواده ونصوصه كأنها قرارات صادرة عنها. واتخذت الحكومة البريطانية صك الانتداب قاعدة ثابتة أخرى للاستمرار في سياستها الرامية إلى تهويد فلسطين.
والحقيقة أن الحكومة البريطانية هي التي وضعت هذا الصك بالاتفاق والتعاون المباشر مع زعماء الصهيونية، وانتهت من إعداده في 3/2/1919، أي قبل أن تقرر عصبة الأمم رسمياً وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني بمدة ثلاثة أعوام وخمسة أشهر.
وكانت الإدارة العسكرية البريطانية في فلسطين قد مهدت السبيل لتنفيذ سياستها وخططها. ولكن التنفيذ اتخذ شكلاً عملياً في صيف عام 1920 عندما استعاضت الحكومة البريطانية عن الإدارة العسكرية بإدارة مدنية جعلت على رأسها هربرت صموئيل، وهو يهودي بريطاني كان معروفاً بنشاطه في الحركة الصهيونية وأطلق عليه “المندوب السامي البريطاني لفلسطين”.
نظم هربرت صموئيل إدارة البلاد على أساس استعماري وصهيوني بحت، فأسند رئاسة الدوائر والوظائف العليا إلى أشخاص من الإنكليز والصهيونيين، فكان رؤساء دوائر المهاجرة والسفر والأراضي من اليهود (الإنكليز). وأنشأت الحكومة دائرة خاصة باسم دائرة النيابات العامة، وجعلت من اختصاصها سن القوانين ووضع الأنظمة، وعينت نورمان بنتويتش (وهو يهودي بريطاني) رئيساً لهذه الدائرة ومستشاراً قضائياً للحكومة، وعينت جميع حكام الألوية من البريطانيين. أما العرب فإن الحكومة عينت منهم عدداً من “القائمقامين” والضباط في دائرة الأمن العام، وجعلت من نصيبهم بوجه عام الوظائف الصغيرة والثانوية. إضافة إلى ذلك أمعنت حكومة الانتداب في التحيز ضد العرب.
1) فقد أهملت مثلاً مصالح العرب التجارية والاقتصادية والزراعية، وعملت باستمرار على الإضرار بها وتقويضها لصالح الصهيونيين في جميع المجالات.
2) وحرمت العرب من كل حق في المساهمة والمشاركة في الإدارة والحكم والتشريع. ولم تحافظ إطلاقاً على حقوق الفلاحين والمزارعين في الأراضي التي انتقلت إلى الصهيونيين. وفي حين رفضت الحكومة السماح للعرب بتولي إدارة المعارف (التعليم) ومدارسهم العربية سلمت الصهيونيين إدارة معارفهم ومدارسهم.
3) وجعلت جميع الأنظمة والقوانين التي أسرفت في سنها ووضعها في خدمة المصلحة الصهيونية والإضرار بمصلحة العرب وكيانهم.
4) ورفضت إنشاء حكومة وطنية كان من المفروض أن تشكل في فلسطين الموضوعة تحت الانتداب من الدرجة (أ) في حين قامت حكومات وطنية في الأقطار الأخرى الموضوعة تحت انتداب مماثل (سورية ولبنان وشرقي الأردن والعراق). ثم إن الحكومة البريطانية عملت بصورة خاصة على تشجيع الهجرة الصهيونية إلى فلسطين*، وتمكين الصهيونيين من الاستيلاء على أراضيها. وكان من نتائج سياسة الحكومة البريطانية وإجراءاتها وتدابيرها وأنظمتها وقوانينها أن ارتفع عدد اليهود في فلسطين من نحو خمسين ألفاً في عام 1918 إلى أكثر من ستمائة وخمسين ألف نسمة في أواخر عام 1947. وفي حين كان اليهود يملكون ويتصرفون بنحو 650 ألف دونم عام 1918 غدوا يملكون ويتصرفون بنحو 2.057.000 دونم من مساحة فلسطين البالغة 17.485.000 دونم معظمها من أجود الأراضي الزراعية.
كانت الحكومات البريطانية تعلم تماماً أن الشعب العربي الفلسطيني لسياستها ورفضه الاعتراف بالأمس التي بنيت عليها يعيقان تنفيذ هذه السياسة ويحرمانها من كل صفة شرعية وقانونية، ويفسحان المجال أمام أعداء بريطانيا في المجال الدولي لنفدها وتجربتها وإثبات افتقارها إلى الشرعية. لأجل هذا جعلت الحكومة البريطانية الحصول على اعتراف الشعب الفلسطيني بوجودها وبسياستها قاعدة أساسية من قواعد سياستها، وبذلت خلال عهد الانتداب أعظم الجهود لتنتزع من هذا الشعب الاعتراف الذي كانت تنشده. ولجأت من أجل ذلك إلى شتى الوسائل ومختلف الأساليب، واستعملت ما تحذقه من طرق المكر والمخادعة والعنف والاضطهاد للتحايل على الشعب الفلسطيني وإيقاعه في شرك الاعتراف المطلوب. ففي عامي 1922 و1923 عرضت الحكومة البريطانية على البلاد مشروعا لإنشاء “مجلس تشريعي” فرفضه العرب لأنه مبني على تصريح بلفور والانتداب. ثم عرضت مشروع إنشاء “مجلس استشاري” فرفضه العرب للسبب نفسه (رَ: المجلس الاستشاري لفلسطين). وبعد ذلك عرضت عليهم مشروع إنشاء “وكالة عربية” فرفضه العرب أيضاً. ولو أن الشعب الفلسطيني قبل هذه المشاريع يومئذ لقامت الدولة اليهودية في عام 1934 كما كان متفقاً عليه بين بريطانيا والحركة الصهيونية. يقول حاييم وايزمن في مذكراته: “إن مقاومة الفلسطينيين العنيفة ومواقف المفتي أمين الحسيني والثورات التي اشعلها هي التي أخرت تنفيذ البرنامج اليهودي في فلسطين إلى عام 1948 في حين كان مقرراً له أن يحقق في عام 1934 على الأكثر.
ووضعت بريطانيا فيما بعد سلسلة أخرى من المشاريع المبنية على أساس تصريح بلفور والانتداب، فرفضها العرب أيضاً، ومنها مشروع تقسيم فلسطين إلى مقاطعات (كانتونات) عام 1930، والكتاب الأبيض لعام 1930 (رَ: باسفيلد، كتاب – الأبيض)، ومشروع المجلس التشريعي لعام 1935، والكتاب الأبيض لعام 1939 (رَ: ماكدونالد، كتاب – الأبيض)، ومشروع موريسون* عام 1946، وغيرها.
وفي الحين الذي كان الشعب الفلسطيني يرفض فيه المشاريع المبنية على أساس تصريح بلفور والانتداب كان يطالب، باستمرار، بإنشاء حكومة وطنية للبلاد يشترك فيها العرب واليهود بحسب أعدادهم. وكانت الحكومة البريطانية ترفض هذا الطلب بإصرار. وقد جاء الرفض الأول في الكتاب الأبيض الذي أصدره وزير المستعمرات ونستون تشرشل عام 1922 وفيه: “إن الحكومة البريطانية لا تستطيع الموافقة على إنشاء حكومة وطنية لأن إنشاء مثل هذه الحكومة يعيق ويعرقل تنفيذ خطة إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين “(رَ: تشرشل، كتاب – الأبيض).
أيقن الإنكليز واليهود على ضوء اشتداد المقاومة الفلسطينية للحكم البريطاني والغزوة الصهيونية أن القوة المسلحة هي الوسيلة الأساسية للقضاء على الفلسطينيين وتحويل فلسطين إلى دولة يهودية، فانطلقوا بصورة علنية يعملون على تسليح اليهود وتدريبهم.
وأخذ اليهود ينقلون الأسلحة إلى فلسطين تحت بصر الحكومة البريطانية وعلى مسمع منها، ويتوزعها على منظماتهم العسكرية. واستغل الإنكليز ثورة فلسطين سنة 1929 لوضع نواة لجيش صهيوني زاعمين أن المستعمرات الصهيونية معرضة لأخطار هجمات عربية (رَ: ثورة 1929). فأنشأ الإنكليز قوة مسلحة من الشباب اليهود باسم “بوليس المستعمرات” وجعلوها تابعة لإدارة الأمن العام. وفي الوقت نفسه رخص الإنكليز للصهيونيين بتأليف فرق عسكرية تابعة للوكالة اليهودية* بحجة لزومها للدفاع عن الشعب اليهودي عامة، وانتدبوا بعض الضباط والخبراء الإنكليز لتدريب أفراد هذه الفرق. وزود الإنكليز المستعمرات الصهيونية بكميات كبيرة من الأسلحة والذخائر وضعوها في صناديق (مغلقة ومختومة) مصرحين – بغرض تضليل العرب – بأنها لا تفتح إلا بأمر من الحكومة.
وبلغ تسلح الصهيونيين ذروته في عامي 1933 و1934. وفي أول تشرين الأول 1934 وصلت إلى ميناء يافا شحنة مؤلفة من 534 برميلاً ذكرت أوراق شحنها أن ما فيها هو “إسمنت وزفت يابس”، مستوردان باسم شخص صهيوني في تل أبيب. وسقط أحد هذه البراميل مصادفة على الأرض وتحطم فتبين أنه يحتوي على أسلحة فتدخلت الشرطة وفتحت سائر البراميل فوجدتها كلها مملوءة بالأسلحة والذخائر. وعلى الرغم من ذلك سمحت السلطات البريطانية بنقل هذه الكمية الضخمة من الأسلحة إلى اليهود.
وقدم الإنكليز كميات كبيرة من الأسلحة لليهود خلال ثورة 1936 -1939*. ولما نشبت الحرب العالمية الثانية ضاعف الإنكليز جهودهم لتنظيم اليهود عسكرياً وتسليحهم على نطاق واسع. وشكلت الحكومة “الفيلق اليهودي”، فلما انتهت الحرب سمح لأفراده بالمجيء إلى فلسطين ومعهم أسلحتهم. وكانت الحكومة قد انتدبت في الثلاثينات عدداً من ضباطها لتدريب أفراد منظمة الهاغاناه* منهم “ونغيت” خبير حروب العصابات الذي نيطت به مهمة تدريب المسلحين اليهود وتعليم الهاغاناه حروب العصابات وكيفية مقاومة العرب.
وهرب اليهود إلى فلسطين خلال الحرب العالمية الثانية، بمعرفة الجيش البريطاني والأمريكيين، كميات ضخمة من الأسلحة كان منها شحنة مؤلفة من مئات البنادق والرشاشات ومائة ألف طلقة (عام 1941)، ومنها شحنة أحضرها جنود إنكليز بقيادة المدعو “سيركين” تألفت من ألف بندقية ورشاش ومئات الآلاف من الطلقات( عام 1934).
وكانت الحكومة البريطانية تعتقل – من قبيل الشكل – المهاجرين اليهود “غير الشرعيين” خلال الحرب وتنقلهم إلى جزيرة قبرص حيث كانت تتولى تدريب الشبان منهم وتسليحهم. وقد نقل هؤلاء إلى فلسطين عام 1948 خلال ثورة فلسطين على التقسيم.
وكانت بريطانيا تدعي، باستمرار، أنها تتبع في إدارة فلسطين سياسة “محايدة”، وتعمل على الحفاظ على مصالح العرب واقتصادهم وكيانهم، وتعلن أنه من خطتها أن تصبح فلسطين دولة يهودية. ولكن بريطانيا كانت تبطن وتنفذ غير ما تعلن، ولم تلبث أن كشفت النقاب عن حقيقة سياستها وأهدافها خلال الحرب العالمية الثانية فقد أهملت سياسة كتابها الأبيض لعام 1939، وسمحت باستمرار الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وانطلق الكثيرون من رجال الدين وزعماء الأحزاب وقادة الرأي العام ورؤساء المعاهد العلمية الإنكليز يؤيدون خطة جعل فلسطين دولة يهودية. وفي كانون الأول عام 1944 عقدت اللجنة المركزية لحزب العمال البريطاني اجتماعاً استثنائياً في لندن قررت فيه وجوب جعل فلسطين دولة يهودية وإخراج أهلها العرب منها إلى الأقطار المجاورة. وكان رئيس حزب العمال وبعض أقطابه الذين حضروا الاجتماع واتخذوا هذا القرار أعضاء في الوزارة البريطانية برئاسة ونستون تشرشل.
وأعلنت بريطانيا دائماً أنها تنظر إلى قضية فلسطين على أنها مسألة نزاع داخلي هي وحدها مسؤولة عنه وعن حله وإنهائه، وكانت دائماً ترفض نقل هذه القضية إلى المحيط الدولي، وتعارض كل تدخل “خارجي” بأمرها وكثيراً ما احتجت على تقارير وتوصيات بين الفينة والفينة “لجنة الانتدابات الدائمة في عصبة الأمم” بشأن فلسطين.
ولكن بريطانيا لم تلبث أن تخلت عن موقفها هذا، وقررت نقل القضية إلى المحيط الدولي. فقد أيقنت عام 1946 أن الظرف الدولي بات مؤاتياً لتحقيق إنشاء الدولة اليهودية، فرفعت القضية بالتواطؤ والتفاهم مع الصهيونية العالمية والولايات المتحدة إلى منظمة الأمم المتحدة للنظر في حل لها. وكان أن صدر قرار التقسيم في 29/11/1947 (رَ: تقسيم فلسطين).
وعندما جرى التصويت في الجمعية العمومية للأمم المتحدة على مشروع تقسيم فلسطين استنكفت بريطانيا عن التصويت علماً بأنها كانت واثقة ومطمئنة إلى حصول المشروع على أكثرية الأصوات. وقد اتخذت هذا الموقف لمخادعة العرب والمسلمين وإيهامهم بأنها ليست فريقاً في جريمة تقسيم فلسطين.
ولكن الحكومة البريطانية، رغم موقفها الأنف ذكره، كانت الفريق الأول والأساسي في التخطيط والإعداد للتقسيم، ثم لتحقيقه.
ولما نشبت الثورة الفلسطينية ضد التقسيم سارعت بريطانيا وقواتها المسلحة في فلسطين إلى مساندة اليهود واضطهاد العرب والبطش بهم ومحاولة تقويض ثورتهم. فكانت القوات البريطانية ترافق القوافل اليهودية لحمايتها، وتنقل المؤن والأسلحة والذخائر لليهود المحاصرين في القدس وغيرها، وتشترك مع قوات الهاغاناه والمنظمات اليهودية السرية الإرهابية في مقاتلة المجاهدين العرب.
وقدم الإنكليز لليهود كميات هائلة من الأسلحة والمعدات التي كانت موجودة في الثكنات العسكرية البريطانية في الرملة واللد ورأس العين وعاقر ووادي الصرار وبيت داراس والسميرية والبصة والزيب وغيرها من المراكز العسكرية القريبة من المناطق اليهودية.
كذلك أعطى الإنكليز اليهود بعض المطارات العسكرية لاستعمالها، وقدموا لهم كميات كبيرة من مخلفات الجيش البريطاني في فلسطين والشرق الأوسط تقدر قيمتها بنحو خمسة ملايين من الجنيهات منها 24 طائرة تدريب وعشرات السيارات الكبيرة والصغيرة ومصفحات ومعدات حربية وأجهزة مختلفة. وباع الإنكليز اليهود – وكان البيع صورياً لإخفاء الحقيقة – معسكرات وثكنات ومطارات بريطانية كثيرة أخرى في فلسطين.
وفي شهري شباط وآذار 1948 انسحب الإنكليز من تل أبيب ومساحات واسعة من الأراضي التي تقع فيها مستعمرات يهودية وسلموها إلى الوكالة اليهودية لإدارتها، فجعل اليهود يستوردون عبر ميناء تل أبيب الأسلحة والذخائر والمعدات والمؤن في حين جعلوا يستقبلون في هذه المناطق الطائرات القادمة باستمرار من براغ عاصمة تشيكوسلوفاكيا حاملة الأسلحة والمتطوعين من الشرق والغرب على السواء.
كذلك قدمت بريطانيا موعد انسحابها المقرر من فلسطين إلى 14/5/1948 لتفسح المجال أمام الحركة الصهيونية كي تعلن قيام (دولة إسرائيل) عشية ذلك اليوم.
كان من أهداف سياسة بريطانيا في فلسطين تقويض كل مقاومة عربية لخطتها ، والقضاء على كل معارضة لحكمها، وتعفية آثار كل نضال ضد الغزوة الصهيونية. وبغية بلوغ هذا الهدف لم تتورع بريطانيا خلال الثلاثين عاما من حكمها لفلسطين، عن اتخاذ أقسى التدابير وأشد الإجراءات ضد العرب، وعن أن تعرضهم باستمرار لأبشع الضربات الوحشية والاضطهادات الهمجية وأعمال البطش والجبروت والعسف والتنكيل والتعذيب والتقتيل.
ب – بعد عام 1948: أثبتت الأحداث السالفة منذ الحرب العالمية الأولى أن السياسة البريطانية هي التي وفرت لليهود الوسائل والأسباب للسيطرة على فلسطين وتهجير سكانها الشرعيين. ولم يكن متوقعاً أن تتبدل السياسة البريطانية تجاه قضية فلسطين بعد عام 1948. فقد ظلت تساند (إسرائيل) وتعارض المطالب الفلسطينية وتناهض المصلحة العربية. لكنها، رغبة في إبقاء العرب أو بعضهم إلى جانبها، حاولت أن تقف منهم موقف المودة والصداقة، وتدعو إلى إنصاف الفلسطينيين، وتوهم العرب أنها تنكبت السير على خطتها السابقة. ومكنها من هذا الإيهام اختفاؤها خلف واجهة السياسة الأمريكية التي برز دورها الواضح في دعم (إسرائيل) والدفاع عنها.
ومن الأمثلة المبكرة لهذه السياسة البريطانية المزدوجة امتناع بريطانيا عن التصويت إلى جانب مشروع التقسيم في جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 29/11/1947 متظاهرة بالحياد، رافضة التورط في هذا الأمر المصيري، ومنها عدم اعترافها (بدولة إسرائيل) عندما أعلن اليهود قيامها. لكنها أجرت خلال عامي 1948 و1949 مفاوضات واسعة مع (إسرائيل) انتهت بإنشاء علاقات اقتصادية وتجارية بينهما، وبتصفية تركة عهد الانتداب لصالح اليهود، وباعتراف بريطانيا بسيادة (إسرائيل) على ما كانت تحتله قواتها من الأراضي التي كان قرار التقسيم قد خص بها الدولة العربية الفلسطينية.
ولما شعرت بريطانيا أن الوقت مناسب أعلنت اعترافها (بإسرائيل) على أساس الأمر القائم De Facto، ثم خطت في آذار 1949 خطوة ثانية فاعترفت بها اعترافا قانونياًDe Jure . لكنها نادت بوجوب تعديل الحدود بين العرب و(إسرائيل)، واحترام قرار الأمم المتحدة بشأن القدس. وقد تقرر تبادل التمثيل الدبلوماسي بين بريطانيا و(إسرائبل) على مستوى الوزراء المفوضين (13/3/1949)، ثم رفع مستوى هذا التمثيل إلى درجة السفراء في شهر آب 1952.
اتسمت سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية بخوف بريطانيا من سقوط المنطقة في أيدي السوفييت فبنت استراتيجيتها، على الرغم مما حل بفلسطين، على كسب العالم العربي إلى جانبها في هذا الصراع العالمي، وبذلت جهوداً كبيرة لإقناع العرب بالاعتراف بالأمر الواقع والتعايش مع (إسرائيل)، فتوالت تصريحات مسؤوليتها بوجوب إنهاء النزاع العربي – الصهيوني والاعتراف بالأمر الواقع، ودأبت على إرسال وفود مختلفة إلى أقطار المنطقة تحت ستار (تقصي الحقائق) و(دراسة) مشكلات اللاجئين الفلسطينيين. وكان أعضاء هذه الوفود يبدون العطف على العرب الفلسطينيين، ولكنهم كانوا (ينصحون) بوجوب إنهاء النزاع، بل إن بريطانيا أوفدت بعض كبار موظفيها السابقين في عهد الانتداب إلى مدن فلسطين الكبرى للاتصال بالأهلين ونصحهم بالاعتراف بالأمر الواقع، مع الوعد بأن تسعى بريطانيا لتعديل الحدود.
وأعلنت بريطانيا موافقتها على المقترحات التي قدمها وسيط الأمم المتحدة فولك برنادوت إلى الهيئة العامة للأمم المتحدة في شهر أيلول 1948 في شكل مشروع للتسوية تضمن، في جملة ما تضمن، إعطاء الدولة اليهودية منطقة الجليل، وإعطاء الدولة العربية النقب، أو جزءاً منه، وتدويل منطقة القدس، وإعادة اللاجئين إلى ديارهم، وتعويض من يختار منهم عدم العودة (رَ: برنادوت، مشروع).
عد بعض العرب تأييد بريطانيا مقترحات برنادوت، في حين عارضتها الولايات المتحدة الأمريكية و(إسرائيل)، دليلاً على تبادل سياستها تجاه العرب. لكن هذه المقترحات ماتت بمقتل برنادوت بأيدي اليهود في 17/9/1948، وتناستها بريطانيا وسكتت عن اغتياله. وظلت تعمل بشتى الوسائل على تسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين من العراق واليمن ومن غيرهما من الأقطار العربية، وتواصل تقديم المساعدات الاقتصادية والعسكرية لليهود، وكانت من الدول التي وقفت بجانب مشروع انضمام (إسرائيل) إلى الهيئة العامة للأمم المتحدة (رَ: إسرائيل في الأمم المتحدة، عضوية).
ولما ألقت الجمعية العامة للأمم المتحدة لجنة التوفيق الدولية* لحل القضية الفلسطينية وتسوية مشكلة اللاجئين آثرت بريطانيا ألا تنضم إلى عضويتها عملاً بسياسة التوازن الظاهري التي كانت تسلكها للحفاظ على مركزها في العالم العربي. وقد دعت في تعقيبها على اقتراحات المندوب الأمريكي في هذه اللجنة (تموز 1949) إلى قبول مشروع التقسيم، وإلى دمج القسم العربي من فلسطين والأردن.
وكانت بريطانيا شريكة كل من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا في إصدار البيان الثلاثي* ( 25/3/1950) الذي رمى في جوهره إلى الحفاظ على سلامة (إسرائيل) وإلى ردع العرب عن القيام بأعمال عسكرية ضدها.
لكن بريطانيا سعت لإبقاء نفوذها في المنطقة ولاستبعاد التغلغل السوفييتي فيها، واقترحت على بعض الدول العربية الدخول معها في معاهدات ثنائية أو أحلاف جماعية تخدم هذين الغرضين، واستطاعت أن تنشىء في شباط 1955 حلف بغداد* مع العراق وتركيا، وبذلت كل ما في وسعها لإقناع الأردن بالاشتراك فيه، لكنها أخفقت في هذا المسعى ولم ينضم الأردن إلى هذا الحلف.
ويدخل في هذا الباب من السياسة البريطانية تجاه قضية فلسطين المبنية على حمل العرب على الاعتراف بالأمر الواقع المشروع الذي طرحه رئيس وزراء بريطانيا آنذاك أنتوني إيدن (خريف 1955) بعد مشاورات أجراها بشأنه مع الولايات المتحدة الأمريكية (رَ: إيدن، مشروع). وكان القصد المعلن للمشروع إنهاء النزاع العربي- الصهيوني، وتبادل الاعتراف بين العرب و(إسرائيل) على أساس إدخال تعديلات على الحدود، وإيجاد ممر يصل الضفة الغربية بقطاع غزة، وتسوية مشكلة اللاجئين بحسب القرارات التي اتخذتها هيئة الأمم المتحدة. لكن (إسرائيل) رفضت هذا المشروع فور إعلانه.
لم تفلح جميع المحاولات التي قامت بها بريطانيا لإقناع العرب بالأمر الواقع، وأخفق أسلوب تقديم المساعدات العسكرية والمدنية لاجتذاب العرب إلى جانبها. وعلى نقيض ذلك تطورت الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط عامي 1954 و1955 تطوراً كبيراً أثار خوف بريطانيا على مصالحها ومركزها وخشيتها على مصير (إسرائيل). فقد اشتد ساعد الحركة القومية العربية، وكسر العرب طوق الحصار الدولي المضروب على السلاح واشتروه من المعسكر الشرقي، وأخذت أنظارهم تتجه إلى الكيان الصهيوني الدخيل وتطلعوا إلى تحرير فلسطين من احتلاله، ونشأت في قطاع غزة حركة فدائية أخذت تقوم بعملياتها في جنوب فلسطين.
قادت بريطانيا، تساندها فرنسا، حركة معادية للعرب، ولا سيما مصر وعبد الناصر، في حين انطلق اليهود يستصرخون (العالم الحر) لحماية دولتهم من الخطط العربية الرامية إلى إزالة كيانهم من الوجود. وأخذت بريطانيا ترسم الخطط لمجابهة العرب، وتفتش عن ذريعة تسوغ لها التدخل ضد مصر والعرب. وكانت الذريعة تأميم مصر شركة قناة السويس واستعادتها حقها في تسيير الملاحة فيها. وفي الوقت الذي كانت تجري فيه محاولة الاتفاق على نظام جديد للملاحة في القناة كانت بريطانيا وفرنسا و(إسرائيل) تتفاوض سراً فيما بينها لشن حرب على مصر. وقد بدأ العدوان الثلاثي على مصر 29/10/1956، وأنزلت بريطانيا وفرنسا قواتهما في منطقة قناة السويس بعد غزو (إسرائيل) قطاع غزة وسيناء ووصول قواتها إلى قناة السويس (رَ: حرب 1956).
أثار العدوان الثلاثي سخطاً عربياً وعالمياً، بل أثار معارضة داخل بريطانيا نفسها، واضطرت القوات المعتدية إلى الانسحاب، وسقطت بنتيجة ذلك حكومة حزب المحافظين البريطانية برئاسة أنتوني إيدن. وقد تلا العدوان الثلاثي شيء من الفتور في العلاقات البريطانية – الإسرائيلية، واتهمت (إسرائيل) حليفتيها بالتخلي عنها، وبمسؤوليتها عن إخفاق العملية العسكرية التي اشتركت فيها معهما. لكن هذا الخلاف لم يتجاوز السطح وظلت بريطانيا تساند (إسرائيل) وتساعدها.
ولما تولت الحكم في بريطانيا حكومة حزب العمال المشهور بصداقته لليهود انتهى أي أثر للخلاف بين الجانبين البريطاني والإسرائيلي. وأجرى أشكول رئيس وزراء (إسرائيل) آنذاك ورئيس الوزراء البريطاني هارولد ولسن محادثات (آذار 1965) لدراسة الأوضاع العامة في منطقة الشرق الأدنى، والبحث في (أمن إسرائيل)، خاصة بعد انطلاقة العمل الفدائي وتشكيل منظمة التحرير الفلسطينية*. وأوضحت بريطانيا في بيان المحادثات الرسمي سياستها تجاه النزاع العربي -الإسرائيلي، وأعلنت معارضتها تدخل أي دولة في شؤون الدول الأخرى واستعمال القوة في تسوية النزاع، ومعارضتها سباق التسلح في المنطقة أو الإخلال يتوازن القوى القائم.
ولما نشبت أزمة عام 1967 وتفاقمت بإغلاق مصر مضائق خليج العقبة في وجه الملاحة الإسرائيلية ومطالبتها بخروج قوة الطوارىء الدولية كان لبريطانيا دور واضح في تلك الأحداث، فدعت إلى توسط دولي لمنع تدهور الأوضاع واندلاع نار الحرب، واتفقت مع الولايات المتحدة الأمريكية للعمل على فتح المضائق، ولو بالقوة، ونادت بإنشاء مؤسسة تضم المستفيدين من الملاحة في خليج العقبة على غرار ما اقترحه إيدن أيام أزمة قناة السويس عام 1956، وبتأليف قافلة بحرية دولية لاختراق الحصار المصري وسعت – بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية – لاستصدار قرار من مجلس الأمن يثبت حق (إسرائيل) في الملاحة في خليج العقبة. وعندما قامت حرب 1967* زعمت بريطانيا أنها تحاول وقف القتال ومنع امتداده واستمراره على حين رددت المصادر العربية تأكيدات قاطعة بوجود تنسيق وتعاون بين (إسرائيل) وكل من بريطانيا والولايات المتحدة، وبأن بريطانيا سهلت وصول المتطوعيين والمال منها إلى (إسرائيل) قبيل الحرب وأثناءها.
انصرفت الجهود بعد الحرب لتسوية الأزمة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتركزت في مجلس الأمن، وصاغ مندوب بريطانيا فيه، وهو اللورد كاردون (حاكم لواء نابلس في عهد الانتداب البريطاني على فلسطين)، والقرار 242 المعروف الذي دعا (إسرائيل) إلى الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967 مقابل اعتراف العرب بحقها في العيش بسلام، وتسوية مشكلة اللاجئين تسوية عادلة (رَ: حرب 1967 في منظمة الأمم المتحدة). ونص القرار في صيغته الإنكليزية على انسحاب من (أراض) محتلة لا من (الأراضي) المحتلة.
تأسست في بريطانيا في الفترة التالية لحرب 1967 جمعيات ومنظمات لدعم الكفاح العربي ومقاومة الدعاية الصهيونية ومساعدة اللاجئين، لكن ذلك كله لم يغير كثيراً من خط السياسة الرسمية البريطانية، فلم تتخذ الحكومة أي عمل رسمي تجاه العدوان الإسرائيلي واحتلال اليهود أراضي فلسطين كلها وقسماً من الأرض العربية. وبالمقابل شعر العرب أن دور بريطانيا المؤثر قد انتهى زمنه في بلادهم ولم تعد له القوة التي كانت من قبل.
وجاءت حرب 1973* وأزمة النفط الدولية التي حدثت بسببها لتدفع الحكومة البريطانية إلى بدء حوار جديد مع الدول العربية، وساهم هذا الحوار في تطوير الحوار العربي – الأوروبي. وكانت بريطانيا أول دولة في المجموعة الأوروبية الاقتصادية تسمح لمنظمة التحرير الفلسطينية بافتتاح مكتب لها في العاصمة لندن. لكن بريطانيا وقفت موقفاً سلبياً من موضوع الحوار السياسي مع منظمة التحرير، وأصرت على عدم الاعتراف بالمنظمة، بل صوتت ضد دعوة المنظمة للاشتراك في مناقشات الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974. (رَ: منظمة التحرير الفلسطينية في الأمم المتحدة) و(رَ: فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة، قضية).
كذلك أيدت الحكومة البريطانية النتائج التي أسفر عنها مؤتمر كامب ديفيد*(1978)، ومعاهدة الصلح المصرية – الإسرائيلية* (1979). وساهمت الحكومة البريطانية عام 1980 في إيجاد ما سمي “المبادرة الأوروبية” لحل أزمة الشرق الأوسط، لكن الأوساط الرسمية ظلت تؤمن بأن منظمة التحرير الفلسطينية عقبة في طريق تحقيق السلام.