شعرت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أن قرار تقسيم فلسطين* الصادر عن الجمعية العامة في 29/11/1947 لم يتضمن حلاً مقبولاً للنزاع العربي – الصهيوني بل زاد من حدة الصدامات بين الجانبين المتنازعين، ومع اقتراب نهاية الانتداب البريطاني واعتزام الحركة الصهيونية إقامة دولتها في فلسطين ازداد توتر الأوضاع فيها، وخاصة بعدما تصاعدت الصدامات بين العصابات الصهيونية المسلحة والشعب الفلسطيني الذي هب للدفاع عن عروبة بلاده. كل ذلك دعا الجمعية العامة إلى أن تنعقد في ثاني دورة استثنائية لها، وأن تتخذ عدداً من القرارات منها القرار رقم 186 الصادر بتاريخ 14/5/1948 وهو يقضي، فيما يقضي، بالآتي:
“نفوض (الجمعية العامة) وسيطاً تابعاً للأمم المتحدة في فلسطين تختاره لجنة من الجمعية العامة مؤلفة من ممثلي الصين وفرنسا واتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، ويمارس المهام التالية: استعمال مساعيه الحميدة لدى السلطات المحلية والطائفية في فلسطين في سبيل إيجاد تسوية سلمية للوضع المستقبل في فلسطين”.
وطلبت الجمعية العامة من الوسيط المقترح أن يرفع تقارير شهرية عن تقدم مهمته، أو كلما رأى ذلك ضرورياً، إلى مجلس الأمن والأمين العام لرفعها إلى أعضاء الأمم المتحدة.
وبناء على توصية إجماعية من اللجنة التي عينتها الأمم المتحدة اختير الكونت فولك برنادوت من السويد في 20/5/1948 ليكون الوسيط الدولي المطلوب. وهو، أي برنادوت ( 1895 – 1948)، ضابط سويدي كان يترأس آنذاك لجنة الصليب الأحمر في بلاده. وقد استطاع أن يحقق الهدنة الأولى* في فلسطين في 11/6/1948. ثم بدأ ينفذ المهمة التي أوكلتها إليه الأمم المتحدة.
تمكن برنادوت بعد مساع لدى الجانبين العربي – والإسرائيلي من الدعوة إلى مفاوضات رودس التي جرت في نهاية عام 1948.
وبعد اتصالات مكثفة بالجانبين توصل إلى مجموعة من المقترحات حول مستقبل الوضع في فلسطين، وقد قدمها في 27/6/1948، وجاءت فيها النقاط التالية:
1) ينشأ في فلسطين بحدودها التي كانت قائمة أيام الانتداب البريطاني الأصلي عام 1922 ( وفيها شرق الأردن) اتخاذ من عضوين أحدهما عربي والآخر يهودي، وذلك بعد موافقة الطرفين اللتين بعضهما الآخر.
2) تجري مفاوضات يساهم فيها الوسيط لتخطيط الحدود بين العضوين على أساس ما يعرضه هذا الوسيط من مقترحات. وحين يتم الاتفاق على النقط الرئيسة تتولى لجنة خاصة تخطيط الحدود نهائياً.
3) يعمل الاتحاد على تدعيم المصالح الاقتصادية المشتركة وإدارة المنشآت المشتركة وصيانتها بما في ذلك الضرائب والجمارك، وكذا الإشراف على المشروعات الإنشائية، وتنسيق السياسة الخارجية والدفاعية.
4) يكون للاتحاد مجلس مركزي وغير ذلك من الهيئات اللازمة لتصريف شؤونه حسبما يتفق على ذلك عضوا الاتحاد.
5) لكل عضو في الاتحاد الإشراف على شؤونه الخاصة بما فيها السياسة الخارجية وفقاً لشروط الاتفاقية العامة للاتحاد.
6) تكون الهجرة إلى أراضي كل عضو محدودة بطاقة ذلك العضو على استيعاب المهاجرين. ولأي عضو بعد عامين من إنشاء الاتحاد الحق في أن يطلب إلى مجلس الاتحاد إعادة النظر في سياسة الهجرة التي يسير عليها العضو الآخر، ووضع نظام يتمشى والمصالح المشتركة للاتحاد، وفي إحالة المشكلة، إذا لزم الأمر، إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة. ويجب أن يكون قرار هذا المجلس مستنداً إلى مبدأ الطاقة الاستيعابية وملزما للعضو الذي تسبب في المشكلة.
7) كل عضو مسؤول عن حماية الحقوق المدنية وحقوق الأقليات، على أن تضمن الأمم المتحدة هذه الحقوق.
8) تقع على عاتق كل عضو مسؤولية حماية الأماكن المقدسة والأبنية والمراكز الدينية، وضمان الحقوق القائمة في هذا الصدد.
9) لسكان فلسطين إذا غادورها بسبب الظروف المترتبة على النزاع القائم الحق في العودة إلى بلادهم دون قيد، واسترجاع ممتلكاتهم.
وقد أتبع برنادوت مقترحاته السابقة بملحق تضمن الآتي:
“بالإشارة إلى الفقرة الثانية من المقترحات يبدو أنه من الأوفق عرض مقترحات تكون أساساً لتخطيط الحدود بين العضوين:
“1) ضم منطقة النقب بأكملها أو جزء منها إلى الأراضي العربية.
“2) ضم منطقة الجليل الغربي بأكملها أو جزء منها إلى الأراضي اليهودية.
“3) إعادة النظر في وضع مدينة يافا.
“4) ضم مدينة القدس إلى الأراضي العربية، ومنح الطائفة اليهودية فيها استقلالاً ذاتياً لإدارة شؤونها، واتخاذ التدابير اللازمة لحماية الأماكن المقدسة.
“5) إنشاء ميناء حر في حيفا، على أن تشمل منطقة الميناء الحر مصانع تكرير البترول ونهاية خط الأنابيب.
“6) إنشاء ميناء جوي حر في مطار اللد”.
واقترح برنادوت اتحاد شرقي الأردن وفلسطين آخذاً بعين الاعتبار الوضع الجغرافي للقطرين.
رفض العرب ممثلين في الأمين العام لجامعة الدول العربية مقترحات برنادوت، وفندوها. وكان الملك عبد الله من أعنف معارضي هذه المقترحات، خاصة ما تعلق منها بوحدة أراضي شرقي الأردن وفلسطين في الاتحاد المقترح. كذلك رفضت الهيئة العربية العليا* مقترحات برنادوت، وقدمت بديلاً لها ما قدم من مقترحات عربية في مؤتمر لندن لعام 1946*.
بالمقابل رفض زعماء الحركة الصهيونية مقترحات الكونت برنادوت، وخاصة تلك التي تتعلق بمدينة القدس ومنطقة النقب.
وعلى الصعيد الدولي أيدت بريطانيا والولايات المتحدة مقترحات برنادوت في حين عارضها الاتحاد السوفييتي.
وفي ضوء ما تلقاه برنادوت من ملاحظات وردود على مقترحاته الأولى، وما لاحظه من مشاهداته عند زيارته لفلسطين، أعد صيغة معدلة لاقتراحاته عرفت باسم “مشروع برنادوت” بعث به قبل اغتياله إلى الأمين العام للأمم المتحدة. وقد نشر مشروع برنادوت هذا في 20/9/1948 كوثيقة من وثائق الأمم المتحدة. وتتلخص خطوطه العامة فيما يلي:
1) يجب أن يعود السلام العام الشامل إلى ربوع الأراضي المقدسة حتى يمكن إيجاد جو من الهدوء تعود فيه العلاقات الطيبة بين العرب واليهود إلى الوجود. وينبغي على الأمم المتحدة أن تتخذ كل ما من شأنه إيقاف الأعمال العدوانية في فلسطين.
2) يجب أن يعترف العالم العربي أنه قد أصبح في فلسطين دولة يهودية ذات سيادة تدعى (دولة إسرائيل) وهي تمارس سلطاتها كاملة في جميع الأراضي التي تحتلها.
3) يجب قيام هذه الدولة الإسرائيلية ضمن الحدود التي نص عليها قرار التقسيم مع التعديلات التالية:
(1) تضم منطقة النقب بما فيها مدينتا المجدل* والفالوجة* إلى الأراضي العربية.
(2) يمتد خط من الفالوجة الى الشمال ثم الى الشمال الشرقي من اللد* والرملة* التين ينبغي أن تخرجا من أراضي الدولة اليهودية.
(3) تضم منطقة الجليل برمتها إلى الدولة اليهودية.
4) ينبغي أن تعين الحدود على أساس الوحدة الجغرافية والجنسية، على أن تطبق على الطرفين بالتساوي دون تقيد بالحدود التي عينها قرار التقسيم.
5) تعين الحدود بين الطرفين ( رغم أنه لم تبدر أية بادرة لإنشاء دولة عربية في الأراضي التي خصصها لها قرار التقسيم) باتفاق مشترك بين العرب واليهود، أو عن طريق الأمم المتحدة.
6) يترك للدول العربية أن تقرر مصير الأراضي العربية في فلسطين بالتشاور مع سكانها.
7) بالنظر إلى العلاقات الاقتصادية والتاريخية والجغرافية والسياسية بين المنطقة العربية في فلسطين وشرق الأردن فإن هناك من الأسباب القوية ما يشجع على ضم الأراضي إلى شرق الأردن، على أن تعدل الحدود المتاخمة للدول العربية الأخرى.
8) تعلن حيفا بما في ذلك منشآت البترول مرفأ حراً، على أن يعطي للدول العربية المعنية منفذ إلى البحر، وعلى أن تتعهد الدول العربية بضمان استمرار تدفق البترول العربي إليه.
9) يعلن مطار اللد مطاراً حراً، ويعطي للدول العربية المعنية منفذ إليه.
10) نظراً لما لمدينة القدس* من أهمية دينية ودولية ينبغي وضعها تحت إشراف الأمم المتحدة، على أن يعطي العرب واليهود فيها أكبر مدى من الإدارة المحلية، وعلى أن تضمن حرية العبادة وزيارة الأماكن المقدسة للراغبين في زيارتها.
11) يجب أن تؤكد الأمم المتحدة حق الناس الأبرياء الذين شردوا من بيوتهم بسبب الإرهاب الحالي في العودة إلى ديارهم.
12) يجب أن يضمن كل من الطرفين حقوق الأقلية الأخرى التي تسكن منطقته.
13) يجب أن تتعهد الأمم المتحدة بضمانات فعالة إزالة مخاوف العرب واليهود كل من الآخر، وخاصة فيما يتعلق بالحرية والحقوق الإنسانية.
14) يجب تعيين مجلس فني من قبل الأمم المتحدة لتعيين الحدود أولاً، ثم لتوثيق العلاقات بين الدولة اليهودية والعرب.
رفضت مقترحات برنادوت المعدلة الواردة في مشروعه هذا، كما رفضت مقترحاته الأولى من قبل جميع الأطراف الفلسطينية، والعربية، واليهودية. غير أن الرفض الصهيوني كان أعنف بدليل قيام عصابة شتيرن الصهيونية باغتيال برنادوت ومراقب الأمم المتحدة العقيد الفرنسي أندريه سيو جهاراً يوم 17/9/1948، حتى قبل أن قدم برنادوت مشروعه رسمياً. وقام مساعده رالف بانش الأمريكي يتابع مهمته كوسيط دولي، فأشرف على اتفاقيات الهدنة الدائمة* بين كل من (إسرائيل) من جهة، ومصر والأردن ولبنان وسورية من جهة أخرى.
لم يكن مشروع برنادوت لإعادة السلام إلى فلسطين حلاً للقضية. وقد تجسد باتفاقيات موقتة لم يكن لها أي طابع سياسي، وإنما هي اتفاقيات عسكرية أساسها وقف إطلاق النار، وهي بالتالي لا تمس حقوق الدول العربية والحقوق الثابتة للشعب العربي الفلسطيني.
أما بقية مقترحات برنادوت (أو مشروعه) فقد أخذت طريقها إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة ونوقشت هناك. ويمكن القول إن هذه المقترحات كانت أساساً في إنشاء لجنة التوفيق الدولية*، كما كانت أساساً في تضمين القرار 194 (الدورة 2) الصادر في 11/12/1948 فقرة خاصة بموجب السماح للفلسطينيين بممارسة حقهم في العودة (رَ: العودة، حق).
المراجع:
– مهدي عبد الهادي: المسألة الفلسطينية ومشاريع الحلول السياسية 1934 -1974، بيروت 1975.
– مؤسسة الدراسات الفلسطينية: قرارات الأمم المتحدة 1948 – 1974، بيروت 1975.
– عادل مالك: من رودس إلى جنيف، بيروت 1974.
– محمد عزة دروزة: حول الحركة العربية الحديثة، بيروت 1960.
– وثيقة الأمم المتحدة رقم 648/أ المتضمنة تقرير الوسيط الدولي.
برنامج: رَ: بازل رَ: بلتمور
برهان الدين (منير-):
رَ: القدس (المباني الأثرية والتاريخية في -)