يطلق اسم اليرموك على الأرض والوادي والنهر فيقال أرض اليرموك ووادي اليرموك ونهر اليرموك. ثم أطلق على المعركة التي جرت بين المسلمين والبيزنطيين في المنطقة ذاتها. وقد أضفت المعركة على اسم اليرموك شهرة لم يحظ اليرموك بها من قبل، ولا يزال يذكر بها إلى اليوم.
لا يعرف على وجه التحديد المكان الذي جرت فيه المعركة من أرض اليرموك. فهي واسعة نسبيا وتمتد حتى يلتقي اليرموك بنهر الأردن*. ولكن ابن عساكر وابن كثير يتحدثان عن دور أبي سفيان في اختيار المكان الذي نزل فيه المسلمون، ويذكران ان أبا سفيان أشار على المسلمين بمكان لا يحال فيه بينهم وبين المدد والخبر يأتيهم من مدينة الرسول وتكون البرية وراء ظهورهم، فنزلوا على رأيه وجعلوا أذرعات خلف ظهورهم، وجاءت الروم ونزلت بين دير أيوب وما يليه من نهر اليرموك.
وبالاستناد إلى ما يرويه ابن البطريق بالاضافة إلى ما قاله ابن عساكر وابن كثير يكاد الباحث يقترب من معرفة الموضع الذي جرت فيه المعركة. يقول ابن البطريق:
“ثم بلغ ماهان أو باهان، وهو قائد أرمني عرف فيه هرقل* الشجاعة والاقدام. أن العرب قد خرجوا من طبرية* يريدون دمشق فجمع عسكره وخرج من دمشق وسار يومين ثم نزل على واد كبير يقال له وادي الرماد. ويقول لموضع في الجولان* يعرف بالواقوصة”. وهو نجد من الأرض يطل على وادي اليرموك. ويقول ابن عساكر:
“وكان منزل المسلمين على نهر الرواد ومرج الجولان”. (هذا قبل ارتجال المسلمين إلى الموضع الجديد الذي أشار به عليهم أبو سفيان).
واذا علم أن هناك اليوم واديا يدعى وادي الرقاد يقع على بعد عشرين كيلومترا تقريبا غرب مدينة درعا في سورية. وأن الرماد والرواد والرقاد أسماء ثلاثة تسمى واحد لأن كلا الاسمين الأولين تصحيف لما يعرف اليوم بوادي الرقاد، اذا علم ذلك صار من الممكن القول. ان معركة اليرموك وقعت في السهل القائم بين درعا ووادي الرقاد.
ثم تختلف الروايات في زمن وقوع المعركة فيذكر سيف بن عمر الأسدي أن معركة اليرموك كانت ستة ثلاث عشرة للهجرة، بينما يذكر ابن اسحاق والواقدي وابن الكلبي وسعيد بن عبد العزيز التنوخي الدمشقي والبلاذري وابن أعثم والليث بن سعد ويزيد من عبيدة واليعقوبي أن المعركة كانت سنة خمس عشرة للهجرة الموافقة لسنة ست وثلاثين وستماية للميلاد.
في حين لا يوافق أحد سيفا على روايته يعزز مجرى أحداث القتال بين المسلمين والبيزنطيين الروايات القائلة بوقوع معركة اليرموك سنة خمس عشرة للهجرة.
وبعد عامين من القتال المتواصل بين المسلمين والحاميات البيزنطية في بلاد الشام ابتداء بمعارك الداثن قرب غزة*، وأجنادين قرب الرملة*، وفحل* وبيسان في فلسطين، وآبل الزيت بالقرب من اربد في الأردن، ومآب في شرقي الأردن (منطقة عجلون وبصرى الشام)، وامتداد الى دمشق وحمص شمالا – أدراك البيزنطيون خطورة حركة الفتح الاسلامية وعند هرقل إلى حشد الجموع الهائلة بقيادة ماهان لاجلاء المسلمين عن بلاد الشام. ويقول أبو عبيدة بن الجراح بخصوص هذه الحشود في رسالته إلى عمر بن الخطاب*: “نفرت الروم الينا برا وبحرا وسهلا وجبلا ولم يخلفوا وراءهم رجلا يطبق حمل السلاح الا جاشوا به”.
ويقدر المقل من المؤرخين حشود البيزنطيون بمائة ألف، ويجعلهم المكثر أربعمائة ألف، بين ذلك روايات أخر.
أما المسلمون فكانوا في قلة من العدد بالنسبة إلى عدد الروم. فقد قيل انهم كانوا أربعة وعشرين ألفا،وقيل كانوا ستة وأربعين ألفا. وكان بينهم ألف من الصحابة منهم مائة من حضر معركة بدر. واشترك في المعركة كثير من القبائل العربية بينها الأرد، وفيها حمير وهمدان ومذحج* وخولان ، وخثعم، وفيها كتابة وقضاعة* وجذام* وكندة* وحضرموت، بالاضافة إلى بعض القبائل العربية التي كانت تسكن بلاد الشام من قبل.
تقابل الجانبان وبدأ القتال بينهما على شكل مناوشات. وكان المسلمين يقاتلون أو الأمر مستقلين بامرة أمرائهم.فكل أمير يقاتل وحده. وكان البيزنطيون يقاتلون في نظام وتعبئة فتفوقوا على المسلمين. وجعل أمراء المسلمين وخالد بن الوليد يخشون ان استمرت الحال أن تحل الكارثة بالمسلمين فصاروا إلى الاجتماع تحت راية واحدة.
وتنسب الروايات إلى خالد بن الوليد أمر وضع خطة القتال وتنظيم جند المسلمين بازاء البيزنطيين، وأنه قسم الجيش ميمنة وميسرة وقلبا، باعتبار الكراديس أفضل تعبئة في رأي العين ازاء عدو له الكثرة الهائلة التي يتمتع بها البيزنطيون. وجعل خالد الجيش أربعة كراديس وعين لكل كردوس قائدا فجعل على الميمنة عمرو بن العاص*، وعلى الميسرة يزيد بن أبي سفيان*، وأبا عبيدة في القلب. ووضع أمراء الجيش وأهل النجدة والشجاعة واليأس على هذه الكراديس. وجعل القصاص والقراء يحرضون الجند على القتال ويستشيرون طاقاتهم الروحية. ووقفت النساء من خلف المقاتلين يحضضن على الجهاد. ومما يروى عن خالد بن الوليد في كلمة مشهورة رد فيها على من استنكر الروم واستقل المسلمين قوله.
“ما أقل الروم وأكثر المسلمين، انما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان”.
بدأت الجولات التالية عنيفة قاسية، ودخلت نساء المسلمين المعركة يسابقن الرجال إلى قتال البيزنطيين بالسيوف والعمد والحجارة، وتوسطن في بعض المرات الصفوف ومشين بين أرلاجل الخيول وكن يصددن من تحدثه نفسه بالتراجع. وأبلى المسلمون وعلى رأسهم أبو عبيدة وخالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وأبوه وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنه* ومعاذ بن جبل* والقعقاع بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم – بلاء حسنا وأظهروا بطولات رائعة. وتبادل الطرفان اضطراب الصفوف غير مرة، ثم حمل المسلمون آخر اليوم – وقيل أنه كان يوم ضباب – حملة صبروا تحتها حتى المساء. وانكشف البيزنطيون منهزمين في انتشار وفوضى، وضل سعيهم للنجدة بالليل فحطم بعضهم بعضا، وقيل مات منهم قوم كثير في وادي اليرموك. وتغلب المسلمون فلولهم وتراجع من نجا منهم إلى المدن.
ويعزو ابن البطريق تضعضع صفوف البيزنطيين وهزيمتهم أمام المسلمين إلى عامل دمشق الذي جاء من دمشق في خلق كثير فوصل إلى أرض المعركة بالليل وبين يديه المشاعل. فلما كان قريبا من المتحاربين أمر بالنفخ بالأبواق وضرب الطبول تواطؤا منه مع المسلمين. واذ كان ذلك توهم البيزنطيون أن المسلمين جاؤوهم من فلفهم وكسوهم فوقعت فيهم الهزيمة.
ومع أن الخبر يفيد في بعض معانيه ميل أهل بلاد الشام إلى جانب المسلمين وكرههم للحكم البيزنطي، وهو ما تؤكده بعض الروايات التاريخية، فان المصادر الاسلامية لا تذكر هذا التحالف ولا يعرف كيف وقع بين المسلمين وعامل دمشق ولا كيف وقع هذا التوقيت العجيب بين المتحالفين. ومن أين لعامل دمشق هذا الحق الكثير الا ان يكون مددا بعث به هرقل لنجدة البيزنطيين؟ ثم لماذا فهم الجند البيزنطي هذا المدد على أن عدد غربي وملثوا منه رعبا؟ ويبدو أن جند المسلمين قذفوا الرعب في قلوب جند البيزطيين ببلائهم وصبرهم على الجهاد فتوهم أولئك أن كل صيحة عليهم.
كانت معركة اليرموك من المعارك الحاسمة. وكان احساس الجانبين على السواء يصدق ذلك. فمن جهة المسلمين كتب أبو عبيدة الى الخليفة بالمدينة يقول:
“فان هذه الوقعة هي الفيصل فيما بيننا وبينهم، فان أظفرنا الله بهم وأظهرتا عليهم هذه المرة هلكت الروم هلاك عاد وثمود”. ولم تكن تعزيزات هرقل وأهبته للمعركة أقل دلالة من الكلام الذي نسب اليه قوله لدى وصول أبناء المعركة اليه. عليك في سورية السلام”واستسلام للضياع الشام من بين يديه.
عدت معركة اليرموك من أعظم فتوح المسلمين وبابا إلى ما جاء بعدها من فتوح. ويروى عن كعب الأحبار أن لله كنزين باليمن جاء بأحداهما يوم اليرموك. ففي الشام كسر البيزنطيون وضعفوا بواجباتهم هيبة المسلمين. وصار المسلمون بعد ذلك يعملون في ميدانين أحدهما شمالي يضم دمشق وحمص وما والاهما، وثانيهما جنوبي يضم الأردن وفلسطين. كما يسير فتح اليرموك فتح العراق ومد حركة الفتح إلى مصر، وصار المسلمون أكثر ثقة وأملا.
المراجع:
- أحمد بن أعثم: الفتوح، حيدر آباد 1970.
- سعيد بن البطريق: التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق، بيروت 1909.
- ابن الأثير: الكامل في التاريخ، بيروت 1965.
- ابن عساكر: تهذيب تاريخ دمشق، بيروت 1969.
- ابن كثير: البداية والنهاية، بيروت 1966.
- محمد بن عبد الله الأزردي: فتوح الشام، 1970.
- أحمد بن يحيى البلاذري: فتوح البلدان، القاهرة 1319هـ.
- خليفة بن خياط: تاريخ خليفة بن خياط، النجف 1967.
- محمد بن جرير الطبري: تاريخ الرسل والملوك، مصر 1939.
- ياقوت الحموي: معجم البلدان، بيروت 1957.
- اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي، بيروت 1960.