أ- ظروف تشكيل الهيئة: تفاقم الاختلاف بين الأحزاب السياسة الفلسطينية في عام 1945. وكان محوره الأساسي تباين مواقف القادة والزعماء من المشروع الانشائي العربي* والمكاتب العربية لفلسطين*. وسعت جامعة الدول العربية لانهاء هذا الاحتراب الحربي الفلسطيني بانشاء “اللجنة العربية العليا لفلسطين”* في أيلول 1945. ولكن الاختلافات والاحتراتبات الحربية ما لبثت أن ذر قرنها فأصيبت اللجنة الجديدة بالشلل والتمزق.
وفي 14/11/1945 أعلنت الحكومة البريطانية عزمها على تشكيل لجنة بريطانية – أمريكية مشتركة للتحقيق في قضية فلسطين واقتراح حلول لها (رَ: الأنكلو – أمريكية، لجنة التحقيق) ورأى بعض القادة الفلسطينيين مقاطعة هذه اللجنة في حين رآى آخرون التعاون معها. ولما حضرت إلى فلسطين شهد أمامها عدد من القادة وزعماء الأحزاب وقاطعها آخرون. ولكن هؤلاء تجنبوا القيام بأي عمل سياسي خلال وجود اللجنة في البلاد ليفوتوا على الأعداء فرصة استغلال الوضع لصالحهم.
وما كانت لجنة التحقيق المشتركة تنجز أعمالها وتغادر البلاد لاعداد تقريرها حتى عادت الاختلافات الحربية والسياسية بصورة أشد مما كانت عليه وأدت إلى انقسام الفلسطينيين إلى كتلتين كبيرتين هما: اللجنة العربية العليا* والجبهة العربية العليا*.
وأصدرت لجنة التحقيق البريطانية – الأمريكية المشتركة تقريرها في 20/4/1946 فجاء بعيدا عن النزاهة والمنطق والعدل، معاديا للعرب، مسايرا رغبة الرئيس الأمريكي “هاري ترومان” ومطالب اليهود. وقوبل تقرير اللجنة باستنكار شديد في فلسطين وبلاد العربية فقامت مظاهرات واضرابات عامة للاحتجاج عليه. وقد أدى صدور تقرير اللجنة بالشكل الذي صدر به إلى اشتداد الاختلافات بين الفلسطينيين. فقد أخذ الذين كانوا ينادون بمقاطعة اللجنة يوجهون اللوم والانتقاد إلى الذين تعاونوا معها.
ودعي مجلس جامعة الدول العربية إلى دورة استثنائية تعقد في في بلودان سورية في 18/5/1946. ثم أرجىء الانعقاد إلى شهر حزيران 1946 ريثما يجتمع ملوك العرب ورؤساء دولهم لبحث الموقف (رَ: بلودان، مؤتمر – 1946).
وقد عقد رؤساء الدول العربية اجتماعهم في أنشاص (مصر) في 27 و28/5/1946 (رَ: أنشاص، مؤتمر) وبحثوا خلاله قضية فلسطين وحقوق العرب فيها وقرروا التمسك باستقلالها وصيتنة عروبتها، كما قرروا وجوب تأليف هيئة تمثل الفلسطينيين وتنطق باسمهم. وقد تركوا لمجلس جامعة الدول العربية مهمة تنفيذ هذا القرار.
ثم عقد مجلس جامعة الدول العربية دورة استثنائية في بلودان في حزيران 1946. واشترك في هذه الدورة الاستثنائية وزراء خارجية أعضاء الجامعة وشخصيات بارزة من رجالاتها. ودرس مجلس الجامعة شؤون فلسطين السياسية والداخلية فقرر تعيين من أعضائه، احداهما وسميت اللجنة الخارجية، لوضع رد الجامعة على تقرير لجنة النحقيق المشتركة، والأخرى، وسميت اللجنة الداخلية، لدرس ما يجب أن تقوم به الدول العربية وجامعاتها من أعمال جدية لتعقيد الفلسطينيين وتقويتهم وتنشيطهم وتنفيذ قرار مؤتمر القمة في أنشاص لتأليف هيئة فلسطينية موحدة وممثلة للشعب الفلسطيني. وبعد دراسة دقيقة للشؤون والأوضاع الفلسطينية أوصت اللجنة الداخلية بالاجماع بتأليف “هيئة فلسطينية عربية عليا” تعتمدها الجامعة وتكون بمثابة حكومة فلسطين فتتولى أعمال الدعاية والمقاطعة وتنشيط الفلسطينيين (أي تنظيمهم وتدريبهم وتسليحهم واعدادهم للكفاح)، وتخصيص لها الدول العربية مليون جنيه سنويا. وأوصت اللجنة الداخلية كذلك بتشكيل “لجنة فلسطينية مركزية لانقاذ الأراضي” تكون تابعة للهيئة العربية العليا لفلسطين وتقدم لها الدول العربية مليون جنيه أخرى سنويا.
أثارت الحماسة التي سادت دورة مجلس الجامعة العربية الاستثنائية لنصرة فلسطين وتسابق وفود الدول الأعضاء وتنافسهم في تقديم اقتراحات لدعم الشعب الفلسطيني وتقويته مخاوف الاستعمار وأنصار اليهود وقلقهم. فينما انطلقت بريطانيا والولايات المتحدة تمارسان ضغوطا على عواصم الدول العربية لتثبيتها على أن تتخذ في دورة مجلس الجامعة في بلودان مقررات خطيرة ومواقف قوية هبط بلودان البريغادير جنرال كلايتون رئيس استخبارات الجيش البريطانب في الشرق الأوسط – وكان صديقا حميما لبعض العرب المسؤولين يومئذ – وبرايانس مساعد مدير الاستخبارات البريطانية في فلسطين والمسؤول عن الشؤون العربية فيها. وحضر إلى سورية كذلك مبعوثون أمريكيون. ونتيجة لمساعي رسل الاستعمار وضغوط دولهم تراجع بعض المندوبين العرب في دورة الجامعة على مواقفهم، وحيا التجسس العظيم الذي كان يسيطر على مجلس الجامعة، وتباينت الآراء بين بعض الدول الأعضاء، فجاءت القرارات النهائية على غير منا كان يتوقعه الناس، وغير متوافقة اطلاقا مع مظاهر القوة والتصميم التي سادت جو مجلس الجامعة في الأيام الأولى من دورته الاستثنائية.
وظهرت نتائج الضغوط والتدخلات الأجنبية وما أدت اليه من تباين في الآراء والمواقف العربية الرسمية جلية واضحة في موضوع تعضيد الفلسطينيين وتقويتهم. فعندما وقعت “اللجنة الداخلية” تقريرها بتنظيم الفلسطينيين وتعضيدهم إلى المجلس وافق عليه أولا بالأجماع. ولكنه لم يلبث أن أدخل عليه تغييرات أساسية أفقدته كثيرا من مزاياه وقوضت بعض التسويات الرئيسة التي اشتمل عليها. فقد ألغى المجلس عند اصداره قراراته بشكلها النهائي توصية اللجنة الداخلية بتخصيص مليون جنيه سنويا للهيئة العربية العليا. وقرر أن تقدم الدول العربية مساعدات مالية للهيئة المذكورة حسب ما تقرره كل دولة في ميزانيتها. وأهمل كذلك توصية اللجنة الداخلية القائلة باعتبار الهيئة بمثابة حكومة فلسطين. كما خلت قراراته من كل اشارة إلى توصية اللجنة الداخلية بتشكيل لجنة فلسطينية مركزية لانقاذ الأراضي، وتخصيص الدول العربي مبلغ مليون جنيه أخرى سنويا لهذا الغرض.
دأبت الحكومة البريطانية المنتدبة على فلسطين تسعى إلى ايجاد “زعامة فلسطينية” يمكن الاعتماد عليها للتعاون مع السلطات، والة صرف أذهان الشعب على المقاومة والنضال.ونشطت مساعيها في هذا السبيل بعد ثورة عام 1936 (رَ: ثورة 1936-1939) فحلت التنظيمات الوطنية الفلسطينية عام 1937 وشردت بعض أعضائها ونفت بعضهم الآخر إلى سيشل. ولكن جهود السلطات البريطانية لم تحرز أي نجاح في هذا المضمار. فقد ظل الشعب ملتفا بوجه عام حول زعامته التي وثق بها، وبقي ملتزما خطة الكفاح والنضال. فلما انعقدت دورة مجلس الجامعة العربية الاستثنائية في بلودان وانصرفت الدول الأعضاء لتنفيذ قرار مؤتمر أنشاص بتأليف هيئة فلسطينية موحدة تمثل الشعب الفلسطيني وتنطق باسمه بذل الانكليز وغيرهم جهودا حثيثة لدى بعض الدول العربية لاسناد عضوية الهيئة الجديدة إلى بعض العناصر والشخصيات الفلسطينية المرضي عنها من السلطات البريطانية. وبالفعل تم الاتفاق بهذه الصدد وجرت تسمية أشخاص لم يكن من اليسير على الشعب الفلسطيني أن يثم بهم أو يرضى عنهم. وفيما كان الانكليز وأصدقاؤهم يحاولون تأليف الهيئة الجديدة المقترحة على شكل يرضي الانكليز والأمريكيين أذاعت الأنباء أن الحاج محمد أمين الحسيني* فر من معتلقه في باريس ووصل إلى احدى الدول العربية. وكان لهذا النبأ أثر عميق في الاتجاهات القائمة لتشكيل الهيئة الفلسطينية الجديدة فخشي المسؤولون العرب المعنيون مغبة تشكيلها دون موافقة المفتي عليها وعادوا إلى السعي لتأليفها من عناصر وطنية معروفة يثق بها الشعب الفلسطيني.
جرت عدة مشاورات بين أقطاب الجامعة وجمال الحسيني* من كبار زعماء البلاد لتشكيل الهيئة الجديدة من غير أن يصلوا إلى نتيجة. فاستدعى إلى بلودان ممثلون عن الأحزاب الفلسطينية وعدد من زعماء كل من اللجنة العربية العليا والجبهة العربية العليا. وبعد مباحثات ومفاوضات بينهم وبين رجال الجامعة تقرر تشكيل هيئة فلسطينية بأسم “الهيئة العربية العليا لفلسطين” وتم الاتفاق على أعضائها.
وفي 11/6/1946 أعلن بتشكيل الهيئة العربية العليا لفلسطين من جمال الحسيني وأحمد حلمي عبد الباقي* وحسين فخري الخالدي* واميل الغوري. واحتفظ بمركز رئاسة الهيئة للحاج محمد أمين الحسيني وأسندت نيابة الرئاسة إلى جمال الحسيني.
واعترفت جميع الأحزاب والهيئات والفئات الفلسطينية بالهيئة العربية العليا لفلسطين واعتبرتها الممثلة الوحيدة للشعب الفلسطيني والناطقة باسمه. وحلت كل من اللجنة العربية العليا والجبهة العربية العليا نفسها، وأوقفت الأحزاب والهيئات السياسية نشاطها، والتف الشعب حول هيئته الجديدة، واعترفت الدول العربية وجامعاتها بالهيئة وأعلنت اعتمادها وتأييده لها.
وبتشكيل الهيئة العربية العليا لفلسطين خف الأحزاب الحزبي وضعفت الاختلافات السياسية وعادت وحدة الكلمة إلى الصف الفلسطيني.
ب- الهيئة العربية العليا ونشاطاتها: قدم الأمين العام لجامعة الدول العربية مبلغ 10,000 جنيه مصري من أموال الأمانة العامة إلى الهيئة لمساعدتها على مباشر أعمالها فأنشأت في القدس مكتبا* انقطع للعمل فيه كل من جمال الحسيني وحسين الخالدي واميل الغوري. وأما أحمد حلمي عبد الباقي فلم يستطع الانقطاع للعمل اليومي لانشغاله بادارة بنك الأمة العربية*، ولكنه كان يواظب على حضور جلسات الهيئة الأسبوعية واليومية.
وأنشأت الهيئة في هذا المكتب عدة دوائر رئيسة اختارت لها عددا من الشبان الوطنيين المثقفين. على أن عمل الهيئة في القدس وفلسطين ظل محدود خلال شهري حزيران وتموز 1946 لعدم توافر المال اللازم ناحية، ولأن أعضاء الهيئة أنفسهم وسائر القادة والزعماء في فلسطين كانوا من ناحية أخرى ينتظرون تولي الحاج محمد أمين الحسيني رئاسة القيادة والعمل.
وتولى المفتي رسميا رئاسة الهيئة العربية العليا لفلسطين واعتزم العودة إلى القدس للعمل فيها. ولكن الحكومة البريطانية التي كانت قد أصدرت في تشرين الأول 1937 أمرا بمنعه من دخول فلسطين جددت هذا الأمر رسميا في آب 1946 فاضطر المفتي الى قيادة العمل من القاهرة نفسها. وعقدت الهيئة العربية سلسلة من الاجتماعات في القاهرة برئاسته لبحث الاجراءات والتدابير الواجب اتخاذها للقيام بالمهام المنوطة بها. وقد رأت وجوب الافادة من خبرة بعض الزعماء الفلسطينيين الذين أفرجت عنهم سلطات الانتداب أو سمحت لهم بالعودة من المنفى فقررت أن تضم إلى عضويتها اسحق درويش والشيخ حسن أبو السعود ورفيق التميمي* ومحمد عزة دروزة ومعين الماضي*. وهكذا أصبحت الهيئة مؤلفة من رئيسها وتسعة أعضاء.
أنشأت الهيئة مكتبها الرئيس في القاهرة بسبب استحالة عودة المفتي إلى القدس. وانقطع إلى العمل فيه الرئيس والأعضاء اسحق درويش ومحمد عزة دروزة ومعين الماضي والشيخ حسن أبو السعود. كما قررت أن توسع مكتبها الذي يترأسه في القدس جمال الحسيني وأن ينقطع للعمل فيه هو وحسين الخالدي وأحمد حلمي عبد الباقي ورفيق التميمي واميل الغوري.
وكان المفتي قد تلقى بصورة شخصية بعض المال من بعض المصادر العربية فوضعه تحت تصرف الهيئة. وبذلك استطاعت انشاء بعض الدوائر واللجان في كل من مكتبها في القاهرة والقدس، واختارت لادارتها ووظائفها عددا من خبيرة الشبان والاختصاصيين. وقد وزعت هذه الدوائر على كل من مكتبي الهيئة حسب الحاجة المحلية على أن يتم التنسيق بين أعمالها وواجباتها عن طريق المكتب الرئيس في القاهرة.
وكان من هذه الدوائر واللجان:
1) دائرة الأراضي
2) دائرة الشؤون السياسية.
3) دائرة الشؤون الاقتصادية.
4) دائرة الدعاية والنشر.
5) الدائرة المالية.
6) دائرة الاغاثة والاسكان.
وبالاضافة إلى هذه الدوائر واللجان في المكتبين شكلت فيب مكتب القدس:
1) دائرة تنظيم الشباب.
2) دائرة الشؤون الداخلية.
3) دائرة الاصلاح وتوحيد الصف الوطني.
أنشأت الهيئة، بالاضافة إلى مكتبي القاهرة والقدس، مكتب في كل من دمشق وبيروت وبغداد ولندن وباريس ونيويورك، وقررت أن تفتح فيما بعد مكاتب في عواصم عالمية أخرة حسب الامكانيات المالية المتوافرة.
ووضعت الهيئة ميثاقا للعمل الوطني تضمن مبادئها والأهداف التي تسعى إلى بلوغها. وقد انبثق هذا الميثاق جملة وتفصيلا عن الميثاق الوطني الفلسطيني الموضوع عام 1919 و1926 (رَ: المؤتمر العربي الفلسطيني). وكان أهم عمل يقع على عاتق الهيئة اعداد الشعب للكفاح والنضال، ومن ثم خوض غمرات الجهاد لانقاذ البلاد. ونظرا للأوضاع السائدة في فلسطين والبلاد العربية حينذاك وللضرورة توافر أسباب السرية والكتمان في مثل هذا العمل، قررت الهيئئة أن يترك أمر التنظيم والاعداد والحشد إلى الرئيس نفسه فيتولاه وينفذه بالصورة التي يراها بالتعاون مع من يختار من رجال الهيئة ومن أخرى من خارجها.
وتولى المفتي هذا العمل فأولاه معظم جهده ونشاطه. وقد شكل لجانا سرية للتهيئة والاعداد، وأخرى لجمع السلاح ونقله إلى الداخل، وحشد المتطوعين من الخارج، وأنشأ عدة مراكز لصيانة الأسلحة والمعدات. والما تم له وللعاملين معه الوصول إلى درجة مرضية من الاعداد أعلن انشاء جيش الجهاد المقدس* وأسند قيادته إلى عبد القادر الحسيني*. وتشكلت إلى جانبه فرقة التدمير* بقيادة فوزي القطب. وقد سجلت هذه الفرقة أعمالا عظيمة الشأن . كما خاض جيش الجهاد المقدس عددا من المعارك المشهورة من أبرزها معركة القسطل* التي استشهد فيها القائد عبد القادر الحسيني.
شكلت الهيئة العربية بالاضافة إلى ذلك كله لجانا قومية في جميع مدن فلسطين، ولجانا محلية في مراكز القرى للاشراف على العمل الوطني وجمع الصف ومساندة المجاهدين وأعمال الكفاح. وكانت هذه اللجان القومية والفرعية مرتبطة مباشرة برئاسته الهيثة.
وكان في البلاد عدد من منظمات الشباب أهمها فرقة الفتوة وفرقة النجادة وفرق الجوالة والكشافة والأندية الرياضية، فوحدت الهيئة جميع هذه المنظمات والفرق في منظمة واحدة هي “منظمة الشباب” التي كان لها دور ملموس في المقاومة والجهاد.
وأوفدت الهيئة كذلك عدة وفود إلى البلاد العربية والأمم المتحدة والدول الأوروبية والآسيوية والافريقية والأمريكية، بعضها للدفاع عن قضية فلسطين والدعاية لها، وبعضها لتنظيم المهاجرين العرب، ولا سيما في الأمريكتين، وتشكيل لجان منهم للدعاية للقضية وجمع التبرعات للحركة الوطنية وبالثورة.
ومن ناحية أخرى شكل في مكتب الهيئة بالقاهرة جهاز برئاسته المفتي للأعمال بزعماء العالم الاسلامي وقادته وعلماء الدين فيه حشدا لقوى المسلمين لنصرة فلسطين وتأليف لجان في البلاد الاسلامية تجمع التبرعات للحركة الوطنية.
جـ- تمويل الهيئة العربية العليا: كانت حاجة الهيئة العربية العليا لفلسطين إلى المال شديدة للقيام بأعمالها والاضطلاع بواجباتها، ولا سيما في ميدان لاعداد والجهاد. فبعثت الى الدول العربية تطلب منها العون المادي مشيرة في طلبها إلى ما سبق المجلس جامعة الدول العربية أن اتخذه من قرارات بهذا الشأن خلال دورته الاستثنائية المنعقدة في بلودان بسورية في حزيران 1946. ولكن استجابة الدول العربية كانت ضعيفة لهم تقدم سوى مبالغ زهيدة جدا.
وفي ضوء هذا التردد من الدول العربية في التمويل ركزت الهيئة العربية العليا جهودها على الجباية الداخلية من أبناء الشعب الفلسطيني. وقد نظمت ذلك بعيدا عن الاعتبارات الحزبية أو المحلية أو الشخصية فشكلت مؤسسة مالية مستقلة باسم بيت المال العربي* لجميع المساعدات والتبرعات من أبناء الشعب. وتتألف مجلس بيت المال من رجال بارزين وموثوقين في الميدان التجاري والاقتصادي والاجتماعي وأسندت ادارته إلى الدكتور عزة طنوس.
ووضع بيت المال أنظمة مالية عصرية للجباية الوطنية بحيث يساهم كل فلسطيني حسب مركزه المالي ومقدرته في أعمال الجباية، بالاضافة إلى وضع رسوم رمزية على تذاكر السينما والملاهي ووسائل المواصلات البرية العامة، وما شابه ذلك.وقد استطاع بيت المال أن يجمع من الشعب العربي الفلسطيني خلال خمسة عشر شهرا مبلغ 156,700 جنيه قدمها إلى صندوق الهيئة العربية العليا.
وكانت اللجان القومية والمحلية تتولى في الوقت نفسه جمع تبرعات ومساعدات محلية وتنفقها على أعمال اللجان والحرس الوطني ومساعدة المجاهديبن. وكان مجموع هذه الأموال كبيرا.
ولكن يتعذر بيان مبالغها لأنها لم تدخل صندوق بيت المال ولا صندوق الهيئة العربية العليا بسبب ما كان يجري من أحداث دامية فاجعة كانت اللجان تتفق فيها من تلك الأموال على المصابين.
وأوفدت الهيئة العربية العليا بعثات وفودا إلى أمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية وافريقيا للاتصال بالمغتربين الفلسطينيين والعرب لحثهم على التبرع للحركة الوطنية وأعمال الجهاد.وقد شكلت الجاليات العربية لجانا محلية جمعت التبرعات من المغتربين وتولت ارسالها الى الهيئة العربية العليا. وقد بلغ مجموع ما ورد من تبرعات المهاجرين حتى نهاية نيسان 1948 قرابة198 ألف جنيه.
كما بعثت الهيئة العربية العليا وفودا الى معظم الأقطار العربية والاسلامية للدعاية لقضية فلسطينوحث العرب والمسلمين على مؤازرة الحركة الوطنية الفلسطينية وأعمال الجهاد. وتشكلت في عدد من هذه الأقطار لجان خاصة لجباية أموال التبرعات وارسالها إلى الهيئة العربية العليا. وقد بلغ مجموع هذه التبرعات حتى نيسان 1948 :205 آلاف جنيه.ثم توقف ورود التبرعات إلى الهيئة العربية بعد هذا التاريخ، كما توقف ورودها من المهاجرين العرب بعد أن تدخلت الجامعة العربية ودول عربية أخرى وتولت تحويل التبرعات إلى صندوق الجامعة العربية (لجنة فلسطين).
دخل صندوق الهيئة العربية العليا حتى آخر نيسان 1948، بحسب بياناتها المالية وميزانياتها.
د- الاعداد والتسلح: كان أبرز ما عملته الهيئة وأكثره سرية وتكتما وصعوبة ومشقة عملية لاعداد والتسلح بسبب وجود الحكومة البريطانية في فلسطين وسيطرة القوى الاستعمارية على المنطقة ومواقف بعض الدول العربية.
وقد استطاعت الهيئة العربية (عن طريق اللجان الخاصة والسرية) شراء أكبر كمية كانت ممكنة يومئذ من الأسلحة والمعدات ونقلها الى الداخل بعد أعمال الصيانة والاصلاح. وقد كان كثير من السلاح المشترى غير صالح للاستعمال الا بعد اصلاحه. وبلغ ما تم نقله إلى الداخل خلال المدة الواقعة بين تشرين الثاني 1946 وأيار 1948:
5,369 بندقية.
- رشاشات مختلفة
- مسدسات
- مدفعا من نوع الهاون والمضاد للدروع
6,000,000 طلقة بندقية
1,000,000 طلقة رشاش
150,000 قنبلة يدوية وقنابل للمدافع
هذا بالاضافة إلى كميات كبيرة من الألغام وأكياس البارود والألبسة العسكرية وأواني الطعام وأجهزة الاتصال العسكرية السلكية واللاسلكية والبطاريات والمناظير والبطانيات والمشمعات والعباءات والخيام وغيرها. واشترت الهيئة كذلك ونقلت إلى الميدان 6 سيارات مصفحة و56 سيارة من سيارات الشحن الكبيرة والجيب وغيرها من أدوات الحرب ومستلزماتها.
وأقامت الهيئة في القاهرة مركزين لصيانة الأعتدة على اختلاف أنواعها ومركزا ثالثا للأسلحة. كما أقامت ورشة فنية في مرسي مطروح، ومصنعا لتعبئة الذخيرة في دمشق، وستة مراكز للصيانة في كل من صيدا وبيروت ودمشق والسلوم والحمام والعريش، ومركز بين وورشة فنية داخل فلسطين.
وأوجدت الهيئة العربية عدة مستودعات رئيسة للأسلحة في القاهرة والعريش وبيروت ودمشق فضلا عن المخابىء السرية داخل فلسطين. وحرصت على احاطة هذه المصانع والورش والمستودعات بالسرية والكتمان.
هـ- دور الهيئة العربية العليا في الأمم المتحدة ومآلها: لما قررت الحكومة البريطانية رفع قضية فلسطين الى الأمم المتحدة في نيسان 1948 رأت الهيئة العربية العليا وجوب متابعة القضية والدفاع عنها أمام المنظمة الدولية. وشكلت لذلك وفدا على مستوى عال من التخصص والدراية (رَ: الوفود الفلسطينية إلى الأمم المتحدة).
وبعد محاولات أمريكية غير ناجحة لاستفزاز أعضاء الوفود والحيلولة دون سفرهم إلى مقر الأمم المتحدة في نيويورك وصل الوفد إلى “ليك ساكس” وتقدم بطلب رسمي إلى رئيس الجمعية العامة للمثول أمامها وأمام اللجنة السياسية التي كانت تنظر في القضية الفلسطينية.وكانت الجمعية العامة قد رفضت في 5/5/1947 على مثول وفد الوكالة اليهودية* أمام اللجنة السياسية لعرض وجهة نظرها ومطالبها. وقد بذلت وفود الولايات المتحدة وحلفائها جهودا مضنية لرفض طلب الهيئة العربية العليا ففشلت. ثم ركزت جهودها على أن يكون مثول الهيئة أمام اللجنة السياسية بقرار من اللجنة ذاتها لا من الجمعية العامة. وقد اعتذر وفد الهيئة عن قبول هذا القرار وتمسك بموقفه مطالبا بأن يصدر القرار عن الجمعية العامة هذا القرار وتمسك بموقفه مطالبا بأن يصدر القرار عن الجمعية العامة نفسها أسوة بما تم لوفد الوكالة اليهودية. وبعد مناقشة عنيفة في اللجنة السياسية تقرر أن تدعى الجمعية العامة إلى جلسة طارئة للنظر في الأمر. وعقدت هذه الجلسة في 7 أيار وصدر قرار الجمعية بدعوة الهيئة إلى المنزل أمام اللجنة السياسية باسم عرب فلسطين. وفي 9/5/1947 ألقى مندوب الهيئة هنري كتن أمام اللجنة السياسية بيانا سياسيا وحقوقيا هاما رد فيه على الحجج الصهيونية التي كان مندوب الوكالة اليهودية دافيد بن غوريون قد ردها أمام اللجنة في اليوم السابق.
وفي الجلسة التي عقدتها اللجنة السياسية يوم 12/5/1947 لمناقشة بيان الهيئة العربية العليا والوكالة اليهودية اشتبك اميل الغوري مع ممثل الصهيونيين موسى شرنوك في مناقشة حادة حول الاستفسارات التي أثارها أعضاء اللجنة.وقد بدا تحيز رئيس اللجنة واضحا إلى جانب الصهيونيين، الأمر الذي حمل المندوب الفلسطيني على توجيه النقد الشديد اليه وفضح تحيزه.
ورغم قوة حجة الوفد الفلسطيني وظهورها على حجج الصهيونيين فان الجو السائدة في الأمم المتحدة كان لصالح الصهيونيين، وقد شكلت الجمعية العامة في 15/5/1947 لجنة التحقيق الخاصة بفلسطين (رَ: اللجنة الخاصة للأمم المتحدة بشأن فلسطين)، وهي اللجنة التي قررت أغلبية أعضائها فيما بعد اقتراح مشروع التقسيم. وقاطعت الهيئة العربية العليا أعمال هذه اللجنة لشعورها بأن الهدف منها كان واضحا ومبيتا. ولما عرض تقريرها على اللجنة السياسية التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة تصدى له، فيمن تصدى، مندوب الهيئة العربية العليا ممثلا عرب فلسطين. غير أن حججه وأسانيده لم تتمكن من التغلب على المؤامرة فكان أن أقرت الجمعية العامة التقسيم في 29/11/1947 (رَ: تقسيم فلسطين). وظل الوفد الفلسطيني برئاسة جمال الحسيني في نيويولارك يدافع عن فلسطين ويبسط ظلامه شعبها أمام لجان الأمم المتحدة ومجلس الأمن إلى أن وقعت الكارثة في 15/5/1948.
وبعد هذا التاريخ ظل الهيئة العربية العليا مكاتب في عدد من العواصم وكذلك في مقر الأمم المتحدة وقد شاركت وفود الهيئة في مناقشة تقرير المفوض العام لوكالة الغوث (رَ: وكالة الأمم المتحدة لاغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى) عبر السنين. ولا يزال للهيئة العربية العليا إلى الآن مكتب في نيويورك رغم وجود وفد منظمة التحرير الفلسطينية* بصفة مراقب في الأمم المتحدة. كما لا يزال لها مكتب في عمان (تأسس عام 1966).
هذا في المجال الدولي، وأما في المجال العربي فقد عقد في مدينة غزة* في أواخر تشرين الأول 1948 مؤتمر وطني فلسطيني كبير أطلق عليه اسم المجلس الوطني الفلسطيني واعتبر برلمان فلسطين. وقد قرر المجلس اعلان استقلال فلسطين بكاملها ضمن حدودها المعروفة ورفض الاعتراف باتلكيان اليهودي الجديد (رَ: غزة، مؤتمر). وأعلن المجلس ثقته بالحكومة الفلسطينية التي كانت قد تشكلت قبل انعقاده وسميت “حكومة عموم فلسطين”*، وهي الحكومة التي اعتبرتها الهيئة العربية العليا واجهتها الدستورية، كما اعتبرتها جامعة الدول العربية ممثلة للفطر الفلسطيني فيها وفق الملحق الخاص بفلسطين في ميثاق الجامعة.
وهكذا استمر نشاط الهيئة العربية العليا حتى توفي رئيسها الحاج محمد أمين الحسيني في 4/7/1974. ولم يكن قد بقي من أعضائها القدامى الا نفر قليل لا يزيد على أربعة. وبعد مرور أربعين يوما على وفاة الحسيني تداعى من بقي من رفاقه إلى اجتماع قرروا فيه مواصلة العمل، واختاروا للعمل معهم أعضاء جددا، وأسندوا رئلااسة الهيئة إلى سلاح الدين الحسيني. غير أن الخلاف دب بين الأعضاء القدامى والجدد فأدى إلى تجميد نشاط الهيئة. وأثناء أحداث لبنان الدامية أحرقت دار الحاج محمد أمين الحسيني ومكاتب الهيئة في المنصورة وأتلفت جميع أوراقها واضباراتها. وقد قام مكتب عمان بتشكيل هيئة عمومية للهيئة العربية العليا مقرها الأردن.