كانت الحكومة اللبنانية ثانية الحكومات العربية في التجاوب مع مساعي الدكتور بانش. وتمكن مندوبو لبنان (وإسرائيل) من توقيع اتفاقية الهدنة الدائمة اللبنانية – الإسرائيلية في 23/3/1949 في رأس الناقورة* جنوبي لبنان. وقد وقع الاتفاقية من الجانب اللبناني العقيد توفيق سالم والنقيب ج. حرب، وعن الجانب الإسرائيلي المقدم مردخاي ماكليف ونيوشوها بيلمان وشبتاي روزين.
أكد الطرفان في مقدمة هذه الاتفاقية التي تقع في ثماني مواد فقط أنهما بتوقيعهما عليها انما ينفذان قرار مجلس الأمن رقم 62 “الذي يدعوهما إلى التفاوض لاقرار هدنة تكون تدبيراً إضافياً مؤقتاً وفقاً للمادة 40 من ميثاق الأمم المتحدة في سبيل الانتقال من حال المهادنة في حال السلم النهائي في فلسطين”.
وكما في اتفاقية الهدنة المصرية – إسرائيلية لم يترك الفريقان المعنيان مجالاً للشك بأن ما قبلا به هو مجرد اتفاق هدنة لا تفاق صلح أو سلام، بكل ما بين الوضعين من فوارق في القانون الدولي.
فالمادة الثالثة (فقرة 1) من الاتفاقية واضحة في أن:
“هدنة عامة بين قوى الفريقين الحربية في البر والبحر والجو تقاوم بهذا الاتفاق وفقاً للمبادىء المنصوص عليها آنفاً تبعاً لقرار مجلس الأمن الصادر بتاريخ 16 تشرين الثاني سنة 1948”.
والمادة الثانية (ق2) من الاتفاقية تذهب إلى أكثر من ذلك في ايضاح طبيعة ما وقع فتنص على أنه:
“من المعترف به من جهة أخرى أن أي حكم من أحكام الاتفاق الحالي يجب ألا يمس في أي حال حقوق الفريقين المتعاقدين أو مطالبهما أو مواقفهما حتى التسوية السلمية والنهائية للمسألة الفلسطينية، لأن الاعتبارات العسكرية وحدها هي التي أملت هذه الأحكام”.
وعلى هذا كان الهدف الرئيس من الخط الفاصل للهدنة هو “وضع خط لا يجوز للقوى العسكرية لفريقين أن تتجاوزه في تنقلاتها” (مادة 4 فقرتا 2). وكذلك فإن “المبدأ القاضي بألا يكتسب أي امتياز عسكري أو سياسي خلال الهدنة التي أمر بها مجلس الأمن مبدأ معترف به” (مادة 2 فقرة1).
أما معنى الهدنة الدائمة التي تصورتها اتفاقية رأس الناقورة فقد حددتها الفقرتان 1 و2 من المادة الأولى على النحو التالي:
“1) يحترم الفريقان بعد الآن احتراماً دقيقاً أمر مجلس الأمن القاضي بعدم الالتجاء إلى القوة العسكرية في تسوية المسألة الفلسطينية.
“2) أن تقوم القوات المسلحة في البر أو البحر أو الجو لأي من الفريقين، ولن تضع خطة للقيام، بأي عمل فدائي ضد المدنيين أو القوات المسلحة لفريق الآخر، كما أنها لن تهدد بمثل هذا العمل”.
وتؤكد المادة الثالثة (فقرة 2) هذا المعنى بشيء من التفصيل حين تنص على أأنه:
“لا يجوز لقوى من القوى البرية والبحرية والجوية العسكرية أو شبه العسكرية لأحد الفريقين، بما في ذلك القوى غير النظامية، وأن تقترف أي عمل حربي أو عدائي ضد القوى العسكرية أو شبه العسكرية للفريق الآخر أو ضد مدنيين في أرض واقعة تحت سلطانه، أو أن تتعدى، أو أن تجتاز، لأي هدف من الأهداف، خط الهدنة الفاصل المعين في المادة الخامسة من هذه الاتفاقية، أو أن تدخل أو تتعدى المجال الجوي للفريق الآخر، أو مياهه الاقليمية على مسافة ثلاثة أميال من الخط الساحلي”.
ولم تكن خطوط وقف اطلاق النار اللبنانية – الإسرائيلية كثيرة التشابك وقت توقيع اتفاقية الهدنة هذه. ولذا كانت عملية رسم خطوط الهدنة الدائمة عملية سهلة، بل لعلها الأسهل في اتفاقيات الهدنة العربية – الإسرائيلية آنذاك. فالمادة الخامسة تنص على ما يلي:
“1) يتبع الخط الفاصل للهدنة الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين.
“2) لا يكون في منطقة خط الهدنة الفاصل من القوة العسكرية للفريقين سوى العناصر الدفاعية.
“3) يجري سحب الفريقين من الخط الفاصل وتحقيقها خلال عشرة أيام من تاريخ توقيع هذه الاتفاقية. ويجري في المهمة نفسها تبادل الخرائط حقول الألغام وتنظيف الطرقات والمناطق التي يخليها الفريقان من الألغام”.
وتحدد المادة السادسة من الاتفاقية، مبادىء تسليم أسرى الحرب بين الفريقين وفق الأسس التي حددتها اتفاقية الهدنة المصرية – الإسرائيلية*؛ وهي المبادىء التي تنسجم مع اتفاقيات جنيف لعام 1929 على الرغم من أن نص هذه المادة السادسة لا يتضمن اشارة إلى هذه الاتفاقيات.
ولم يكن هنالك من خلاف كذلك في الجوهر بين الاتفاقيتين المصرية –الإسرائيلية واللبنانية – الإسرائيلية حول أسس الرقابة على الهدنة. ويتضح ذلك من استقراء المادة السابعة من الاتفاقية الأخيرة. فبموجب هذه المادة:
“1) تشرف على تنفيذ أحكام هذا الاتفاق لجنة الهدنة المشتركة المؤلفة من خمسة أعضاء. وينتدب كل فريق في هذا الاتفاق ممثلين في اللجنة، ويتولى الرئاسة رئيس أركان حرب منظمة مراقبة الهدنة للأمم المتحدة أو ضابط عالي الرتبة يختار من بين مراقبي هذه المنظمة بعد استشارة الفريقين.
“2) تكون نقطتا الحدود اللبنانية في الناقورة وشمالي المطلة مركزا للجنة الهدنة المشتركة، وتجتمع هذه اللجنة في الأماكن والتواريخ التي تراها ضرورية للقيام بمهمتها على أن يغتنم اجتماعها الأول بعد توقيع هذه الاتفاقية.
“3) تتخذ قرارات لجنة الهدنة المشتركة على أساس مبدأ الاجماع بقدر المستطاع، ولا فأكثيرية أصوات أعضاء اللجنة الحاضرين والمقترعين. وللجنة الحق في وضع نظامها الداخلي.
“4) للجنة الحق في استخدام ما تراه ضروريا من مراقبين للقيام بمهمتها، ويمكن أن يؤخذ هؤلاء المراقبون من المنظمات العسكرية للفريقين، أو من الهيئة العسكرية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة لمراقبة الهدنة، أو من هذه وتلك. وفي حال استخدام مراقبين من منظمة الأمم المتحدة بقى هؤلاء بقيادة رئيس أركان حرب منظمة الأمم المتحدة لمراقبة الهدنة.
“5) تحول الاعتراضات والشكاوى المتعلقة بتطبيق هذه الاتفاقية والمقدمة من أحد الفريقين إلى لجنة الهدنة المشتركة بواسطة رئيسها. وتتخذ اللجنة بشأن هذه الاعتراضات والشكاوى كل الاجراءات التي تراها مناسبة لحل عادل ومرض لكلا الطرفين مستعملة لهذه الغاية وسائل الملاحقة والمراقبة التي لديها. ورأي اللجنة هو الفاصل في تفسير الاتفاقية عندما يشكل هذا التفسير تدبيرا خاصا، باسثتناء ما يتعلق منه بالمقدمة والمادتين الأولى والثانية.
“6) تقدم لجنة الهدنة المشتركة إلى الفريقين تقرير عن نشاطها كلما رأت حاجة إلى ذلك. وترسل نسخة من هذه التقارير إلى الأمين العام للأمم المتحدة”.
ولم تنص اتفاقية الهدنة اللبنانية – الإسرائيلية على اجندات لجنة استئناف يحكم ايها عند الخلاف على قرار صادر عن لجنة الرقابة على الهدنة كما نص في الاتفاقيتين اللاحقتين مع الأردن وسورية.
تقرر المادة الثامنة من الاتفاقية أن توضع موضع التنفيذ منذ توقيعها دولة حاجة إلى ابرام. وتحدد هذه المادة مدة الاتفاقية “إلى حين التوصل إلى حل سلمي”، وتنص على أية اجراءات التعديل تتم بالاتفاق المتبادل للفريقين. وفي هذه الأمور تتطابق نصوص هذه المادة مع المادة 11 من الاتفاقية المصرية –الإسرائيلية، الأمر الذي يؤكد أن الاتفاقية المصرية – الإسرائيلية شكلت نموذجا احتذي في كل اتفاقيات الهدنة العربية – الإسرائيلية اللاحقة.
ولكن (إسرائيل) لم تحترم – كعادتها على كل الجبهات – اتفاقية الهدنة مع لبنان. وقد دانت لجنة الرقابة على الهدنة اللبنانية – الإسرائيلية (إسرائيل) عشرات المرات لخرقها لها مرارا. كما نظر مجلس الأمن غير مرة في خرق (إسرائيل) هذه الاتفاقية، ودانه في قرارات كثيرة منها مثلا قراره 262 بتاريخ 31/12/1968 بادانة الهجوم على مطار بيروت، وقراره رقم 270 بتاريخ 26/8/1969 بادانة العدوات المعتمد على جنوب لبنان، وقراره رقم 280 تاريخ 19/5/1970 بادانة الهجوم المتعمد الواسع النطاق على لبنان. وفي هذه المناسبة لم تنسحب (إسرائيل) من الأراضي اللبنانية الا بعدما كرر مجلس الأمن مطالبتها بذلك بقراره رقم 285 بتاريخ 5/9/1970. ومنذ نهاية سنة 1970 اكثر خرق (إسرائيل) لاتفاقية الهدنة مع لبنان واعتداؤها عليه، ولا سيما على قسمه الجنوبي، بحجة انطلاق العمل الفدائي منه. وقد نظر مجلس الأمن في معظم حوادث الخرق والاعتداء ودان (إسرائيل) في قراراته، ومنها قراره رقم 313 بتاريخ 28/2/1972 الذي طلب فيه من (إسرائيل) أن تكف فوراً عن أعمالها العدائية ضد لبنان، وقراره رقم 316 بتاريخ 26/6/1973 وفيه دان هجمات (إسرائيل) على لبنان وطالبها باطلاق سراح رجال الأمن والجيش السوريين واللبنانيين المخطوفين، وقراراته رقم 332 بتاريخ 21/3/1973 و337 بتاريخ 15/8/1973 و347 بتاريخ 21/1/1974 بادانة (إسرائيل) لخرقها سيادة لبنان وسلامة أراضيه. ومن استقراره هذه القرارات وما تلاها، وهي كثيرة، يتضح أن مجلس الأمن رفض من حيث المبدأ ادعاء (إسرائيل) أن سبب هجماتها على لبنان هو تمركز العمل الفدائي الفلسطيني في جنوبه. كما دان بشدة تحميل لبنان مسؤولية أعمال فدائية انطلقت من داخل الأرض المحتلة نفسها.
وقد أعارت (إسرائيل) أذنا صماء لمواقف الأمم المتحدة والعالم المتمدن من عدوانها المتكرر المستمر على لبنان وما سببه من خراب ودمار وتشريدا لسكان الجنوب خاصة. وشنت في آذار سنة 1978 هجوما واسع النطاق على جنوبي لبنان، وتلكأت في الانسحاب منه، الأمر الذي اضطر مجلس الأمن إلى اصدار قراره رقم 425 بادانة هذا الهجوم، وطلب من (إسرائيل) سحب قواتها فورا، وحلت محلها في بعض المناطق قوات طوارىء دولية (رَ: العدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان 1978). ولكن الانسحاب الإسرائيلي كان في الواقع ظاهريا لأن حكومة العدو تتعاون تعاونا وثيقا يصل إلى حد التحالف المكشوف مع فئة متخالفة معها تسيطر على الحدود مع فلسطين المحتلة بقيادة الرائد سعد حداد، الأمر الذي يحول دون ممارسة لبنان سيادته الشرعية على كل أراضيه.
وفي ضوء ما تقدم يمكن القول ان اتفاقية الهدنة الموقعة في رأس الناقورة في 23/3/1949 بين لبنان (وإسرائيل) تبقى قائمة من الناحية القانونية النظرية فحسب ما لم تتمكن السلطة الشرعية اللبنانية من الوصول إلى الحدود الدولية للبنان وفلسطين.
المراجع:
- جورج طعمة (مراجعة وتحقيق): قرارات الأمم المتحدة بشأن فلسطين والصراع العربي – الإسرائيلي (1947-1974)، بيروت 1973 -1978.
- Moore, J.N.(ed).: The Arab Israeli Conflict, Princeton 1977.