المذهب الحنفي أقدم المذاهب الأربعة المعمول بها عند المسلمين اليوم. أنشأ هذا المذهب الامام أبو حنيفة النعمان الكوفي المولود سنة 80هـ/699م والمتوفى في بغداد سنة 150هـ/767م. وكان منشأ هذا المذهب بالكوفة ثم انتشر في سائر بلاد العراق. ويقال لاصحابه أهل الرأي لان الحديث كان قليلاً في العراق فاستكثروا من القياس وبرعوا فيه.
انتشر المذهب الحنفي في كل بلد كان للدولة العباسية سلطان فيه. ويقال انه لما قام هارون الرشيد بالخلافة ولى القضاء أنها يوسف صاحب أبي حنيفة الذي أصبحت توليه القضاة بيده فلم يكن يولى بلاد العراق وخراسان والشام ومصر وافريقيا إلا من أشاربه من أصحابه والمنتسبين إلى مذهبه، حتى قال ابن جزم: “مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرئاسة والسلطان: الحنفي بالمشرق والمالكي بالأندلس”. وقد ساد المذهب الحنفي في الشام شعباً وحكومة وأصبح مذهباً رسمياً.
وصف المقدسي في “أحسن التقاسيم” مذهب الشام وفلسطين في القرن الرابع الهجري فقال: “تكاد لا تخلو قضية أو بلد من حنفي، وربما كانت القضاة منهم”. ولما جاء الفاطميون* أزالوا سلطان المذهب الحنفي، مذهب الدولة العباسية المناوئة لهم في المشرق، وأحلوا محله المذهب الشيعي (رَ: الشيعة). وفي عهد الدولة الأيوبية (وكان سلاطينها شافعية) قوي نفوذ المذهب الشافعي*. ولكن احتفظت بقية المذاهب. وفيها المذهب الحنفي، بمكانتها وكانت تعقد حلقات المناظرة بين الشافعيين والحنابلة.
رتب صلاح الدين في المسجد الأقصى* أربعة من الأئمة للمذاهب الأربعة، وكان امام الحنفية على الامامة في الصلاة بل عملوا في الافتاء والتدريس والمناظرة.
وقد حصل قاضي القضاة الامام خير الدين محمد بن محمد بن عمران الغزي المقدسي الحنفي على الاذن بالافتاء والتدريس وبرع في مذهب الامام أبي حنيفة وتميز وصار من الأعيان والمعتبرين. ثم ولي قضاء الحنفية بالقدس* وباشر القضاء* واستقر في الامامة بالصخرة حتى انتهت إليه رياسة مذهب أبي حنيفة بالقدس.
وقف السلاطين والأمراء وفاعلو الخير المدارس والزوايا على المذهب الحنفي،ومن هذه الزوايا الزاوية الحنفية بجوار المسجد الأقصى خلف المنبر وقفها صلاح الدين الأيوبي* سنة 587هـ/1191م على جلال الدين الشاشي الفقيه الحنفي (رَ: القدس، المباني الأثرية والتاريخية في -).
شاهد ابن العربي مدارس القدس، ولا سيما مدرسة أبي عقبة، وكان بداخلها كل يوم ويحضر التناظر فيها بين الطوائف. ولفت نظره حلقة الشيخ القاضي الريحاني شيخ المدرسة، وكان يقوى في هذه الحلقة الحوار بين الحنفية وغيرهم.
ومن أهم المدارس الحنفية في العصر المملوكي المدرسة المعظمية نسبة إلى الملك المعظم شرف الدين عيسى. فقد كان الملك المعظم حنفي المذهب فشجع على انتشار المدارس الحنفية. ولكنه لم يكن متعصباً لمذهبه فكان يباحث العلماء والفقهاء في دقائق العلوم. وقد قدم إلى بيت المقدس سنة 623هـ/1226م فاستدعى الفقهاء وباحثهم في مسائل لغوية وفقهية متنوعة. وكان يسأل شيوخ المدرسة الصلاحية الشافعية في أمور فقهية ويظهر استحسانه لرأيهم.
ومن شيوخ المدرسة المعظمية الحنفية بالقدس الشريف الشيخ الامام كمال الدين اسماعيل الشريحي الحنفي. وقد درس في المدرسة المعظمية كتاب الهداية في الفقه لسنين كثيرة، وسمع وأجاز للكثيرين من تلاميذه اقراء القرآن، وصحيح بعض ما حفظه من الكتب.
ومن شيوخها أيضاً شمس الدين أبو عبد الله محمد الديري. وقد اشتغل بالعلوم وبرع ودرس وأفتى وانتفع الناس بفتاويه.
ومنهم أيضاً قاضي القضاة خير الدين أبو المواهب خليل بن عيسى الباترتي الحنفي. وهو أول من ولي قضاء الحنفية بالقدس الشريف بعد الفتح الصلاحي، وقاضي القضاة في القدس من قبل الملك الظاهر برقوق سنة 784هـ/1383م.
ومنهم أيضاً قاضي القضاة الامام علاء الدين أبو الحسين علي بن شرف الدين عيسى بن الرصاص الحنفي الذي تولى قضاء صفد وأفنى ودرس بالمدرسة المعظمية الحنفية.
ومن المدارس الحنفية المشهورة في العصر المملوكي أيضاً المدرسة المنجكية. ومن أعيان علمائها المعتبرين قاضي القضاة شيخ الاسلام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن جمال الدين البديري الخالدي الحنفي نسبة إلى قرية الدير بالقرب من مردى من بلاد نابلس. وقد أفنى الشيخ الديري في المدرس ودرس وحدث فاشتهر اسمه وشاع ذكره ولم يكن له نظير في عصره. ومن شيوخ هذه المدرسة أيضاً الامام سعد الدين أبو السعادات ابن شمس الدين الديري الحنفي.
والمدرسة العثمانية، ومن أشهر شيوخها الامام سراج الدين بن مسافر بن زكريا الحنفي عالم الحنفية بالقدس. ومن شيوخها بعده جمال الدين بن شرف الدين الرومي الحنفي. وكان يكتب على الفتوى عبارة حسنة رغم كونه رومياً.
والمدرسة القادرية، ومن أشهر شيوخها الامام العالم شرف الدين أبو الأسباط يعقوب بن شرف الدين الرومي الحنفي، وكان من أكابر علماء الحنفية حتى قيل في حقه: “ما تريدي زمانه” لأن الحنفية يتبعون في العقائد مذهب الامام أبي منصور محمد الماتريدي الحنفي. وقد درس عليه الطلبة وانتفعوا به وأفنى ودرس وتخرج على يديه الكثير من الأعيان.
والمدرسة التنكزية*، ومن أشهر مشايخها الشيخ زين الدين عبد الرحيم بن النقيب وولده شمس الدين محمد المشهور بالعجمي. وقد كانا من الفضلاء المشهورين بالفتوى والتدريس.
يضاف إلى ما تقدم المدارس الحنفية الأخرى بالقدس مثل الوفائية والغزية والصيبيبية والجوهرية.
ركز الأساتذة العلماء في هذه المدارس على الفقيه الحنفي. وكان من أمهات الكتب في هذا المجال كتاب الهداية في الفقه الحنفي، والكنى في الفقه لحافظ الدين النسفي، والمصابيح للامام البغبوي، وكتاب مشارف الأنوار للصاغاني، وكتاب الكنز في فقه مذهب الامام أبي حنيفة.
ولم يقتصر الأمر على تدريس هذه الكتب فشرحت شروحاً كثيرة في أثناء تدريسها وعلق عليها، كما حفظ بعضها وروي.
ومن الكتب التي شرحت مقدمة أبي الليث السمرقندي. ومن الكتب المؤلفة المشهورة في الفقه الحنفي: المسائل الشريفة في أدلة أبي حنيفة في أربع مجلدات لمحب الدين بن الشحنة.
وفي العهد المملوكي تحول كثير من فقهاء الشافعية إلى المذهب الحنفي وقاموا بالتدريس في المدارس الحنفية. وكان بعض هذا التحول نتيجة اقتناع بالمذهب، أو بقصد التدريس والامامة الحنفية، تماماً كما تحول بعض فقهاء الحنابلة إلى المذهب الشافعي للتدريس بالمدرسة الصلاحية، أو من أجل استلام مركز القضاء والامامة.
ومن هؤلاء شيخ المدرسة الغزية شهاب الدين أبو العباس أحمد الذي كان أولا على المذهب الشافعي فانتقل إلى مذهب أبي حنيفة. والشيخ سعد الدين بن حسين الفارسي وكان على مذهب الامام الشافعي فانتقل إلى مذهب أبي حنيفة وفضل فيه وتصدر بالصخرة الشريفة لتدريس الطلبة والفتوى فانتفع به جماعة من فقهاء الحنفية.
ومنهم الشيخ زين الدين عبد السلام بن أبي بكر الكركي الحنفي وكان أيضاً على مذهب الشافعي فقدم إلى بيت المقدس وانتقل إلى مذهب أبي حنيفة وأذن له بالافتاء والتدريس فدرس عليه الطلبة ودرس بالمعظمية.
وبالمقابل تحول بعض فقهاء الحنفية إلى المذهب الشافعي ليتولوا القضاء أو ينالوا مرتبة التدريس بالمدرسة الصلاحية. ومن هؤلاء الشيخ شمس الدين الهروي الحنفي وكان حنفياً فرأى وظيفة المدرسة الصلاحية ومعلومها، ولم ير للحنفية شيئاً فسعى فيها وأخذها من ابن الهائم. ثم سعى ابن الهائم جهده حتى أشركوا بينهما سنة 814هـ/1412م فقال: “لما دخلت القدس رأيت الرياسة بهذه البلاد للشافعية فصرت شافعياً”.
ولما استولى العثمانيون على مصر حصروا القضاء في الحنفية وأصبح المذهب الحنفي مذهب أمراء الدولة وخاصتها ورغب أهل العلم فيه لتولي القضاء. وحينما جاء محمد علي ألغى العمل بالمذاهب الأخرى غير المذهب الحنفي في مصر، بينما كان أهل الشام على مذهب الأوزاعي في القضاء. وكان للمذهب الشافعي مكانة بين الشعب الشامي.
ويلاحظ أن المذهب الحنفي لا يزال سائداً حتى اليوم في البلاد التي كان سائداً فيها من قبل.
المراجع:
- مجير الدين الحنبلي: الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، النجف 1968.
- أحمد سامح الخالدي: أهل العلم بين مصر وفلسطين، القدس 1940.
- أحمد سامح الخالدي: المعاهد المصرية في بيت المقدس، القدس 1946.
- أبو شامة: ذيل الروضتين، القاهرة 1366هـ.
- عبد اللطيف حمزة: الحركة الفكرية في مصر في العصرين الأيوبي والمملوكي الأول، مصر 1968.
- محمد كرد علي: خطط الشام، بيروت 1969.
- عبد القادر محمد النعيمي: الدارس في تاريخ المدارس، 1948.
- محمد بن عبد الرحمن السخاوي: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، القاهرة 1353-1355هـ.