شعب سامي نزح من الصحراء إلى منطقة في شرق الأردن كانت تعرف قديما باسم “مآب” فنسب إليها بعد استقراره فيها.
وتقع هذه المنطقة بين الصحراء من ناحية الشرق والبحر الميت* ونهر الأردن* من الغرب، وتمتد جنوباً إلى آدوم. وأما حدودها الشمالية فلا يمكن تحديدها بوضوح.
اعتمد المؤرخون في تتبع تاريخ المآبيين على ما ورد عنهم من أخبار في التوراة*، وعلى آثارهم التي تم الكشف عنها في المناطق التي كانوا يستوطونها وأهمها مسلة الملك ميشع، وعلى ما جاء منهم في الوثائق الأشورية والبالية.
ورد اسم المآبيين في التوراة مع العموريين*، مما يوحي بوجود صلة بين الشعبين في حين تشير لغتهم إلى أنهم من الشعوب الكنعانية. وأما الأدلة الأثرية فتشير إلى استقرارهم في مآب في أواخر القرن الرابع عشر وأوائل القرن الثالث عشر قبل الميلاد. ويتفق هذا مع عدم الإشارة إليهم في النصوص المصرية التي تعود إلى ما قبل هذا التاريخ عندما كانت فلسطين تحت النفوذ المصري، كما لم يرد لهم ذكر في رسائل تل العمارنة*.
وتشير الدلائل إلى قيام ممتلكاتهم في الربع الأخير من القرن الثالث عشر قبل الميلاد في فترة فقدت مصر فيها سيطرتها على فلسطين، وكان الضعف قد بدأ يدب في كيان الامبراطورية الحثية (رَ: الحثيون)، ولم يكن للدولة الأشورية بعد أثر يذكر في الأحداث الجارية في سورية وفلسطين. وهكذا تهيأت الفرصة للمآبيين لتأسيس مملكتهم. وكان لموقع مآب الممتاز بين سورية والجزيرة العربية، وبين العراق وفلسطين ومصر، أثر كبير في تحديد طبيعة علاقاتها بالشعوب المجاورة لها فمكن ذلك المآبيين من المشاركة في الأحداث التي كانت تجري في فلسطين وسورية مشاركة فعالة. ووقعت بين مملكة مآب والدول الأخرى حروب كثيرة ذاق المآبيون فيها حلاوة النصر حيناً ومرارة الهزيمة حيناً آخر. وكانت بلاد مآب قلعة يصعب الدخول إليها من العرب والشمال والجنوب، إلا أن حدودها الشرقية المتصلة بالصحراء مباشرة جعلتها عرضة لغزوات القيائل البدوية المتكررة. وهذا يفسر العناية الكبيرة التي بذلها الملوك بإقامة الحصون المنيعة التي كشفت التنقيبات الأثرية عن كثير من معالمها. وقد دخلت مملكة مآب في بداية تاريخها في صراع عنيف مع العموريين من ناحية الشمال. ومما ورد عن هذا الصراع أن الملك العموري سيحون أوقع بلمآبيين هزيمة نكراء أثارت شماتة الإسرائيليين بهم حتى انهم ظلوا ينغنون بها طوال تاريخهم.
وكانت علاقة المآبيين بالإسرائيليين تتصف بالعداء الشديد. وقد بدأ الصراع بينهم مع بداية نزوح الإسرائيليين ومنع المآبيين إياهم من المرور بأراضيهم إلى فلسطين، مما سبب لهم متاعب كبيرة وفقاً لما أشارت إليه المصادر التوراتية. وكانت للمآبيين في بادىء الأمر اليد العليا في ذلك الصراع حتى إن الإسرائيليين كانوا يعملون على تجنب الدخول في حرب معهم، ولا سيما عندما كانوا يخوضون حرباً مع أعدائهم العموريين. بيد أن أنتصارهم على سيحون العموري الذي سبق له الانتصار على المآبيين أدخل في نفوسهم الغرور وجراهم على محاربة المآبيين وتحين الفرص لاحتلال أراضيهم. فوقعت بينهم حروب كثيرة استطاع في بدايتها الملك عجلون استعادة المناطق التي سيطر عليها الإسرائيليون وفرض الضرائب* على عدد من القبائل الإسرائيلية. ولكنه اغتيل غدراً على يد إيحود كما تقول الرواية التوراتية فأدى موته إلى ارتباك صفوف المآبيين وتراجعهم إلى شرق الأردن. ونجح المآبيون في استعادة بعض نفوذهم أثناء الصراع الذي رافق قيام الدولة اليهودية حتى ان داود لجأ إليهم هرباً من شاؤول. ولكنه شن الحرب عليهم بعد توليه الحكم ونجح في بسط نفوذه على منطقة مآب. واستمرت الحال كذلك إلى ما بعد وفاة الملك سليمان فاستغل المآبيون ما أصاب الدولة اليهودية من ضعف وانتظارها إلى دولتين صغيرتين فاستعدادوا استقلالهم ووسعوا حدود ممتلكاتهم. وأخفق ملوك إسرائيل في اخضاعهم إلى أن تولى العرش عمري الذي نجح في أيقاع الهزيمة بهم.
وفي حوالي سنة 870 ق.م. تولى ميشع عرش مآب. وتشير الدلائل إلى أنه كان أقوى ملوكها وأكثرهم نجاحاً. وأعلن ميشع الثورة على إسرائيل بعد وفاة الملك آخاب واستعاد استقلال بلاده وقوى حدودها الشمالية وأعاد بناء المدن التي هدمها الإسرائيليون. وازدهرت البلاد في عهده حضارياً واقتصادياً. ودوّن أخباره على مسلة تعد من أهم ما عثر عليه من آثار مآبية. فقد ألقت ضوءاً على لغة المآبيين وعلى قدرتهم في مجال النحت. وكانت وفاة ميشع في سنة 840 ق.م. سببا في انتشار الفوضى في مآب بسبب ما حدث من صراع بين الأطراف المتنافسة على الحكم وتهيأت الفرصة لملك يهودا باهو لإعادة فتح بعض المناطق التابعة للمآبيين. وهاجم حزائيل ملك آرام (التي هي دمشق) البلاد، مما أدى إلى تقلص حدودها وتحولها إلى مملكة صغيرة لا شأن لها.
وفي هذه الفترة بدأ اندفاع الدولة الأشورية إلى فلسطين، وسقطت إسرائيل في سنة 721 ق.م. على يد صارغون الثاني الأشوري فتغيرت الأحوال السياسية في فلسطين. وانتهزت مآب الظروف الجديدة فاستعادت استقلالها ومد ملكها سلمانو حكمه إلى مناطق في الشمال. واتبع المآبيون سياسة حكيمة في تجنبهم الدخول في حرب مع الأشوريين. وفي محاولة استرضائهم بتقديم الجزية والهدايا إليهم، مما جنبهم الدمار الذي حل بكل دولة اختارت الوقوف في وجه الجيش الأشوري. ويبدو أن المآبيين استفادوا من ولائهم للأشوريين الذين كانوا يقفون معهم في صد غزوات القبائل البدوية. وازدهرت الحياة مرة أخرى في مملكة مآب بسبب توفير الأمن والاستقرار. وباستثناء ثورة واحدة على الملك صارغون استمر ولاء المآبيين للأشوريين في عهد جميع ملوك الامبراطورية الأشورية الأخيرة لأنهم يئسوا على ما يبدو من جدوى الانصياع لمصر والمشاركة في مؤامرتها على الدولة الأشورية. ومما يذكر أنهم قدموا المعونة للملك سنحاريب في حربه منع يهودا، كما قدموا العون إلى أسرحدون في حملته على مصر. وأشاد أشور بانيال بانتصار المآبيين على القبائل العربية التي كانت تشير المشاكل في وجه الدولة الأشورية. وأصبحت مآب بعد سقوط أشور* في سنة 612 ق.م. تابعة للدولة الكلدانية التي قامت في بابل. ووقف المآبيون في بادىء الأمر إلى جانب نبوخذ نصر في حربه مع دولة يهودا واحصاره مدينة القدس، بيد أنهم وقعوا في سنة 589 ق.م. في خطأ جسيم عندما تحالفوا مع صدقيا على الدولة البابلية. ولكن ما كاد الجيش البابلي يظهر في فلسطين حتى تخلت مآب عن يهودا ودفعت الضرائب للملك البابلي. وكان سرور المآبيين كبيرا بسقوط دولة يهودا، مما جلب عليهم لعنات أنبياء اليهود فبلغ من كرهم لهم أن أصبحت كلمة “مآبي” مراعاة لكلمة مذنب أو يحرم. ويبدو أن نبوخذ نصر لم يغفر للمآبيين موقفهم الأول في النزاع وانحيازهم إلى يهودا ومصر فغزا مآب في سنة 583 ق.م. وأنزل بمدنها الدمار رحل عدداً من سكانها إلى بابل. وبذلك وضع نهاية لمملكة مآب التي استمر تاريخها عدة قرون. وبعد سقوط هذه الدولة وانهيار حصونها بدأت جموع من القبائل البدوية تستقر في مآب. وطغت هذه الشعوب الجديدة على المآبيين الذين فقدوا هويتهم القومية وذابوا في الأنباط* العرب الذين سيطروا على منطقة شرق الأردن.
تشهد الآثار المآبية على مدى ما وصلت إليه حضارتهم من الأزدهار في مجالات متعددة. حتى انهم كانوا على مستوى حضاري واحد مع الشعوب المجاورة لهم. فقد برعوا في النحت والنقش كما يستدل من مسلة الملك ميشع ونصب بالعوعة. وعلى الرغم من تأثر صناعتهم الفخارية بالصناعات الفينيقية والآرامية فان فخارهم المصنوع محلياً لا يقل جودة عن فخار الشعوب المجاورة.
ومع أن المعلومات عن لغتهم قليلة لأنها تقتصر على النص المدون على مسلة ميشع، ونص قصير على جزء من نصب بالوعة فإن أغلب العلماء يرون أنها لجنة كنعانية وثيقة الصلة باللهجات الكنعانية الأخرى. ويبدو واضحاً أنها ذات صلة بالآرامية واللهجة العبرانية الشمالية. وقد ظهرت فيها بعض الصيغ العربية.
كان لموقع مآب بين الصحراء من جهة والمجتمعات المستقرة من جهة ثانية أثر واضح في معالم الحضارة المآبية. فقد حفظ المآبيون على الكثير من القيم البدوية حتى بعد استقرارهم وأخذهم بأسباب الحضارة المستقرة. واحتفظ المآبيون بديانتهم الوثيقة مع بعض المؤتمرات التي انتقلت إليهم من الشعوب المجاورة. وكانت الضحايا تقدم للاله الأعظم كيموش الذي يعتبر له الحرب. ويرجح أنه كان في الأصل من الالهة التي عبدت بين القبائل البدوية، وفيه بعض صفات الاله البابلي “نرجال” التي تتصل بالحرب وبالعالم السفلي. ويعتقد بعضم أنه الاله بعل نفسه. وكانت الضحايا مؤلفة من الكباش وغيرها من الحيوانات. وذكر في التوراة أن الملك ميشع ضحى بابنه لهذا الاله استرضاء له. ودخلت في ديانتهم آلهة كانت تعبد في سورية وفلسطين مثل الالاهاة عشتارة. وكانوا يمارسون الختان، ولا تعرف آراؤهم في الحياة بعد الموت.
اعتمد اقتصاد مآب على الزراعة* والرعي* والتجارة*. وكانت ثروتهم الحيوانية كبيرة. وكان ميشع يلقب “سيد الشياه”. وورد في التوراة أنه كان يدفع في بداية حكمه ضربة لإسرائيل تبلغ مئة ألف حمل ومائة ألف كبش كل عام. واستفاد المآبيون من سيطرتهم على الطرق التجارية التي تربط سورية والجزيرة العربية والعراق وفلسطين. ومارسوا التجارة فكسبوا منها أموالاً ساعدت على ازدهار حياتهم الاقتصادية.
المراجع:
– Von Zyl, A.H.: The Moabites, 1960.
-Glueck, N.: The Annual of the American School for Oriental Research (AASOR), New Haven 1933, 1934, 1939, 1951.
– Tristram, H.: The Land of Moab, New York 1937.