توج الفرنجة* فتوحاتهم في بلاد الشام باحتلال القدس* يوم الجمعة 23 شعبان 492هـ/15 تموز 1099م. وبنجاحهم هذا نشأت مشكلة أساسية حول تحديد وضع البلدان التي احتلوها والطريقة المثلي في حكمها وتنظيمها وايجاد دولة ثابتة في بيت المقدس. ولا سيما أن العناصر التي تكونت منها الحملة الصليبية الأولى متباينة مختلفة الأهواء والآراء والميول. وكانون قد فقدوا الزعيم الروحي بوفاة “أدهمار” المندوب البابوي قبل وصولهم إلى القدس.
وكان من الممكن أن يتولى ” أدهمار” دولة دينية كنسية. ولكن فكرة إقامة حكومة دينية في القدس استبعدت وتم الاتفاق على اختيار رئيس “علماني” لها هو الأمير غودفري أولا ولكنهم أجبروه على القبول في 29 شعبان 492هـ/22 تموز 1099م. ولم يقبل غودفري حمل لقب ملك بيت المقدس بل لكتفى بلقب “حامي القبر المقدس، أو حامي بيت المقدس”. وهذا يعني أن الدولة الجديدة ليست لها صفة سياسية بحت، بل انها جعلت للكنيسة حتى الاشراف عليها. وبقيت هذه الحال حتى وفاة غودفري في 24 رمضان 493هـ/18 تموز 1100م. ولم يلبث أن غلفت شخصيته أسطورة تنسب إليه دوراً حاسماً في تأسيس المملكة اللاتينية في الشرق. ولا يزال مؤرخو الغرب يتساءلون عما إذا كان غودفري بطلا أو بارونا على شاكلة البارونات الصليبيين أو شخصا تافها خدمة الحظ. واعتبرت هذه الفترة فترة انتقالية حتى تستقر الأوضاع وتكون الظروف مهيأة لقيام مملكة قوية النفوذ والسلطان. وهي فترة توفيق بين النظامين المالكي والثيوقراطي (وهو حكم خاضع لرجال الدين).
توفي غودفري دون وريث فشخصت الأنظار إلى بيت دي بويون. وأرسل الأمراء إلى أخيه بغدوين أمير يدعونه للقدوم لاعتلاء عرش القدس فترك بغدوين امارة أثرها تحت اشراف أحد أقاربه بغدوين دي بورغ وسار إلى القدس ماراً بأنطاكية واللاذقية وطرابلس وبيروت وحيفا* ويافا*. ورغم الجهود التي بذلها دقاق صاحب دمشق في اعتراض طريقه فقد تمكن من الوصول إلى بيت المقدس حيث استقبله الفرنجة استقبالاً حافلاً ونادوا به ملكاً عليهم. وتوج رسمياً في يوم عيد الميلاد (صفر 494هـ/ كانون الأول 1100م) في كنيسة العذراء في بيت لحم*. وبعد اعتلاء بغدوين الأةل عرش المملكة انهزاماً للداعين إلى الحكومة الثيوقراطية في بيت المقدس، وعلى رأسهم دايمبرت بطريرك بيت المقدس.
كانت مقاومة الوجود الفرنجي في فلسطين شديدة وقد اتصفت سياسة الفرنج تجاه سكان فلسطين العرب بالإرهاب وبلغت المقاومة العربية أوجها عندما سيطرت على الطريق الواقع بين الرملة* وبيت المقدس. وقد عبر المؤرخ اللاتيني وليم الصوري عن هذه المقاومة الشعبية قائلاً: “كانت البلاد مليئة بالعصابات، ومن جراء ذلك أصبح الطريق بين الرملة والقدس محفوفاً بالمخاطر. وقد هاجم بغدوين الأول سكان المناطق المجاورة للقدس والرملة وعاقبهم دون رحمة”. وبقيت المقاومة الشعبية متأجحة في فلسطين. فسكان القرى الفلسطينية الذين أطلق عليهم وليم الصوري اسم “المستوطنين القرويين” كانوا يعبرون خير تعبير عن مقاومة المحتل المغتصب ورفض الوجود الفرنجي في بلادهم. فقد انضم هؤلاء إلى كتائب المسلمين في بلاد الشام وكانوا على صلات قوية بهم يساعدونهم ويعملون أدلاء لقواتهم عندما تدخل فلسطين. ويقول وليم الصوري عن تأثير المواطنين الفلسطينيين: “انهم علموا عدونا كيف يدمرنا، وكانوا قادرين على ذلك لأنهم يملكون معلومات كافية عن حالتنا إذ لا يوجد أكثر دماراً وتأثيراً من وجود عدو داخل أبوابنا. وقد حولوا كل البلاد الفرنجة الى مقاطعة من الرعب حتى انه لم يجرؤ أي شخص على الخروج من التحصينات”.
ثم أخذ اللاتين في مملكة القدس يتوسعون في فلسطين نفسها. وقامت القوات الفاطمية التي كانت عسقلان ما زالت في أيديها بمهاجمة الفرنج أكثر من مرة (رَ: الفاطميون) . ورغم الجهود التي بذلها الأفضل شاهنشاه وزير مصر الفاطمية في إرسال الجيوش إلى فلسطين لمحاربة الفرنج بعدما سهل هو نفسه مهمتهم في احتلال المدينة المقدسة والتحالف معهم ضد السلاجقة في بلاد الشام (رَ: السلجوقيون)، رغم كل ذلك أخفق الفاطميون في ايقاف المد اللاتيني في فلسطين والشام.
كانت القوات الفرنجة قليلة العدد، ولكنها كانت تستفيد من الأساطيل الفرنجة القادمة إلى الشام. ففي سنة 497هـ/1104م قدم أسطول جنوي مكون من سبعين قطعة بحرية (رَ: الجنويون) فأرسل بغدوين الأول إليهم الرسل طالباً منهم مساعدته في احتلال عكا* مقابل منحهم بعض الامتيازات منها منحهم ثلث ما يتحصل من الميناء، واعطاؤهم كنيسة خاصة بهم، ومنحهم السلطة القانونية على أحد شوارع المدينة. وتم الاتفاق واحتل الفرنجة المدينة في السنة نفسها. وفعل الجنويون* الشي ذاته في مدن الساحل الشامي مثل حيلة وطرابلس وبيروت. وهكذا كان للأسطول الجنوي اليد الطولي في تثبيت أركان الدولة اللاتينية. ولولا هذه المساعدة الخارجية لما تمكن الصليبيون من بسط نفوذهم على فلسطين والساحل الشامي كله. ففي سنة 504هـ/1110م. استولى الفرنج على مدينة صيدا بمساعدة قوات جنوية وبندقية (رَ: البنادقة)، ولم يبق من مدن الساحل بيد المسلمين سوى صور وعسقلان.
وبعد استيلاء الفرنج على معظم المدن الساحلية في فلسطين بدأوا يفكرون في التوسع خارج الأراضي الفلسطينية، ولا سيما بعدما تأكدوا من أن المقاومة المصرية بقيادة الأفضل نور الدين شاهنشاه بدأت تخبو وتضعف، وأن لا خشية من جيوشها، وأنها كانت مجرد استعراضات عسكرية، بالإضافة إلى أن قوتهم بدأت تزداد في القدس وتتأكد. ثم ان الجبهة الشامية كانت غير ذات بال، فالسلاجقة كانوا في شغل شاغل عنهم بسبب صراعاتهم الداخلية وحروبهم من أجل السلطة. وأما أمراء الشام فقد حدث شرخ في صفوفهم بعد مقتل مودود في دمشق بتواطؤ طغتكين* صاحب دمشق مع الباطنية ثم قيام البرسفي صاحب الموصل بالتقدم إلى الشام للانتقام من طغتكين. وإزاء ذلك وجد اللاتين في القدس أن المصلحة تقضي باحكام سيطرتهم على الطرق الهامة والعمل على عزل مصر عن الشام، وهي استراتيجية وعاها الفرنج لأنهم أدركوا أن اجتماع مصر والشام خطر يهدد وجودهم. وكذلك وجدوا أن المصلحة تقضي بمراقبة طرق التجارة الدوليه عبر سيناء وجنوب شرقي الأردن والوصول إلى البحر الأحمر الشريان التجاري الهام لأخذ نصيبهم من هذه التجارة الدولية.
فكان أول توسع للفرنج خارج فلسطين في منطقة جنوب شرقي الأردن باعتبارها همزة الوصل والربط بين أجزاء العالم العربي. الشام والعراق ومصر والجزيرة العربية بالإضافة إلى أهميتها الاقتصادية في تجارة البحر الأحمر وتحويل جزء من تجارته إلى مملكة اللاتين في القدس، ثم لوقوعها على التخوم الشمالية لبلاد الحجاز والمقدسات الإسلامية في مكة والمدينة. وقد احتل بغدوين الأول الشوبك سنة 509هـ/1115م، وجدد بناء قلعتها وسماها “مونتريال” وشحتها بالرجال والعتاد. وفي السنة الثانية (510هـ/1116م) وصل بقواته إلى أيلة (العقبة) على البحر الأحمر فاحتل المدينة وبنى في خليج العقبة* قلعة بحرية “جزيرة الغربة” أو قلعة فرعون، وأخرى برية وشحنهما بالرجال والعتاد ثم عاد إلى القدس. وبذا أصبح لمملكة اللاتين في القدس وجود في البحر الأحمر، وسيطرت على حركة المواصلات بين دمشق والقاهرة والجنوب العربي.
ولكي يحكم اللاتين في القدس سيطرتهم على كل حركة قادمة من دمشق بنوا القلاع في الجليل وعلى طول نهر الأردن* ونهر اليرموك. ومن هذه القلاع: الشقيف وتبنين وبانياس وصفد والطور وطبرية وكوكب الهواء. وأما في وادي اليرموك فبنوا حبيس جلدك وقلعة عال. وحول عسقلان آخر المعاقل الفاطمية في فلسطين بنو قلاع تل الصافي ويبنة وبيت جبرين. وفي منطقة جنوب شرقي الأردن بنوا في وادي موسى قلاع الوعرة وهرمز والسلع والطفيلة كي يمنعوا أي تسلل للقوات العربية الى منطقة جنوب البحر الميت*. وكانت لهم في هذه المنطقة قلاع أيلة والشوبك، وفيما بعد قلعة الكرك. وهكذا أحاطت مملكة بيت المقدس نفسها بسلسلة من القلاع والحصون أقيمت في مناطق استراتيجية هامة بالقرب من المسالك والمنفذ والدروب المؤدية إلى قلب فلسطين من الشمال والجنوب والشرق. وأما الساحل فكان بوابتها الطبيعية على الغرب الأوروبي تمدها بالرجال والعتاد والتأييد والدعم.
وبعد أن أحكم الفرنج السيطرة على فلسطين وجنوب شرقي الأردن بدأوا ينظمون أمورهم الداخلية. وكانت المشكلة السكانية (الديموغرافية) هي المعضلة الأولى. فالفرنج كانوا قلة لان عدداً منهم عاد إلى بلاده بعد احتلال بيت المقدس على حين فضل قسم منهم البقاء في فلسطين. وهؤلاء هم ملاك الأراضي والاقطاعيون والمحاربون. وأما أهالي فلسطين العرب فقد هجروا قراهم الساحلية واتجهوا إلى المناطق الداخلية الجبلية أو غادروا فلسطين إلى منطقة شرقي الأردن أو دمشق. وأدى ذلك إلى تعطيل الزراعة* في الساحل. وقد أفرغ الفرنجة المدن الساحلية من سكانها العرب كما حدث في صيدا وصور وعكا وحيفا ويافا وأرسوف* وقيسارية* وغيرها. وفي القدس قتلوا معظم السكان العرب، حتى ان وليم الصوري قال: “فالوثنيون (المسلمون) الذين كانوا يعيشون في المدينة في ذلك الوقت قتلوا حتى آخر رجل، وان هرب شخص ونجا لم يسمح له بالبقاء في المدينة، إذ أن السماح لشخص غير مسيحي بالسكنى في تلك المدينة يعني تدنيس المقدسات”. ثم يستطرد قائلاً: “إن المواطنين في القدس كانوا قليلي العدد حتى انهم، بصعوبة، يملأون شارعاً واحداً”.
إزاء هذه المعضلة السكانية في مملكة القدس، وعلى الأخص في بيت المقدس والساحل، عمل الفرنج على تشجيع الهجرة إلى فلسطين من المناطق المجاورة، ولا سيما إلى القدس. فهجروا سكان وادي موسى النصارى إلى القدس بالترهيب والترغيب، كما شجعوا هجرة النصارى من عمان والصلت (السلط) والبلقاء إلى القدس وأسكنوهم في حي خاص أطلق عليه حي المشارقة. ثم اضطروا فيما بعد إلى السماح للسكان المسلمين بالسكنى في المدينة المقدسة ومنحوهم بعض الامتيازات فاشتغلوا بالتجارة والصناعة، إذ لم يكن في القدس عدد واف من السكان.
ثم أخذ الفرنج في مملكة بيت المقدس يتوسعون على حساب المسلمين، ولكنهم في الشمال لم يتمكنوا من دمشق. فهادنوها وجعلوا نهر الأردن الخط الفاصل بينهم. ووجهوا اهتمامهم إلى مصر حيث الدولة الفاطمية، فسار بغدوين الأول إليها واستولى على الفرما (511هـ/1118م). وفي طريق العودة مرض وتوفي فنقل جثمانه الى القدس ودفن بجامب أخيه غودفري بعد أن حكم مملكة اللاتين مدة ثمانية عشر عاماً. وهو واضع أسس هذه المملكة في القدس.
تعاقب على عرش اللاتين كل من بغدوين الثاني (ت 524هـ/1131م)، وفولك الأنجوي (ت538هـ/1143م) الذي أكمل سوار التحصينات حول مملكة القدس وتوسع في منطقة مآب فأعاد بناء قلعة الكرك (537هـ/1143م) ونقل إليها مركز البارونة من الشوبك. وبعد وفاته تسلم عرش المملكة ابنه بغدوين الثالث. وفي عهده بدأت اليقظة العربية الإسلامية بظهور عماد الدين زنكي الذي تمكن من تحقسيق انتصارات على الفرنج في الشمال توجت بضربة حكيمة سددها إلى إمارة الرها (أول امارة صليبية أسست في الشرق العربي) التي كانت تقف حاجزاً بمنع أي اتصال بين حلب والموصل ويتهدد بغداد دار الخلافة. فاقتحمتها قواته في جمادى الأولى 539 هـ/ تشرين الثاني 1144م.
وكان لفتح الرها أصداء هامة في كل من المعسكرين الإسلامي والفرنجي. ويصف ابن الأثير أبعاد هذه المعركة ونتائجها فيقول: “وأشبهها ببدر صدقاً، من شهدها فقد تمسك من الجهاد بأوثق سبب”. وبفتح الرها تغيرت نظرة العرب والمسلمين إلى الفرنج فانحلت عقدة الخوف لديهم وانتهت أسطورة القوة التي طالما تشدق بها الفرنج بالإضافة إلى أن هذا الانتصار بت فيهم روح الجهاد والتضحية والنضال فتحول العرب والمسلمون من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم مدفوعين إلى ذلك بالدعوة إلى الجهاد. ومال ميزان القوى في بلاد الشام إلى صالحهم فانطلق عماد الدين زنكي يهاجم القلاع والحصون الفرنجة في الشام، ثم عمل على توحيد الجبهة العربية الإسلامية.
أما نتائجها على الصعيد اللاتيني فكانت صدمة قوية أصابت الفرنج بمقتل فاهتر كيانهم وتزتزع. ولكي تبقى لهم الصورة القديمة في المنطقة سارعت أوروبا، وقد بلغتها نذر الهزيمة، فأرسلت حملة صليبية جديدة هي الحملة الصليبية الثانية (542 – 544هـ/ 1147 – 1149م). وحاولت هذه الحملة، بتوجيه من بغدوين الثالث ملك القدس، احتلال دمشق. ولكنها أخفقت أوروبا في إعادة ميزان القوى لصالح الفرنج في بلاد الشام (رَ: الفرنجة). وكان من نتائج هذه الحملة كذلك أنها رمت إلى ساحة الصراع في بلاد الشام بأمير فرنسي مغامر هورينو دي شاتيون (547 – 555هـ/1153 – 1160م)، ويسميه العرب أرناط. وقد كان له شأن كبير في صراع العرب والفرنج.
وبعد فشل بغدوين الثالث في احتلال دمشق وجه قواته نحو الجنوب إلى عسقلان آخر المعاقل الفاطمية في فلسطين فاحتلها في 27 جمادى الثانية 548هـ/19 آب 1153م بعد أن صمدت ستاً وخمسين سنة. وكان سقوطها في عهد الخليفة الفاطمي الظافر ووزيره عباس بن أبي الفتوح. وبذا انفتحت أمام الفرنج الطريق لغزو مصر للحؤول على الأقل دون مساعدتها مسلمي الشام وعلى كل حال فقد تم للصليبيين بعد استيلائهم على عسقلان بسط نفوذهم على ساحل الشام وفلسطين من اسكندرونة في الشمال حتى غزة* في الجنوب.
وكان قد تسلم القيادة في الشام نور الدين محمود زنكي* بعد مقتل والده عماد الدين زنكي سنة 541هـ/1146م فكان رده على احتلال عسقلان ضم دمشق إلى سلطانه في صفر 549هـ/ نيسان 1154م فأصبحت ممتلكاته تمتد من الرها والجزيرة شمالاً إلى شرقي الأردن جنوباً. وبذلك أصبح جاراً عنيداً لمملكة بيت المقدس، وقوة عربية منظمة تجاورها، وهو أمر كانت تخشاه وتحسب حسابه. ويعبر ابن الأثير عن مخاوف الفرنج من وقوع دمشق في أيدي النوريين بقوله: “وكان أبغض الأشياء إلى الفرنج أن يملك نور الدين دمشق لأنه يأخذ حصونهم ومعاقلهم، وليست له، فكيف إذا أخذها وقوي بها؟”. وكان استيلاء نور الدين على دمشق يفوق في أهميته استيلاء بغدوين الثالث على عسقلان. ورجحت بذلك كفته وبدأ يضغط على مملكة بيت المقدس استمراراً لحركة الجهاد التي بدأها والده بعد استيلائه على الرها.
توفي بغدوين الثالث سنة 558هـ/1163م دون ذرية فورث المملكة أخوه أموري الأول كونت يافا وعسقلان. وكان سياسياً محنكاً،وهو الذي جعل احتلال مصر هدفاً استراتيجياً وعسكرياً، ولا سيما أن الدولة الفاطمية كانت في طور الاحتضار وظروفها الداخلية سيئة بسبب الصراع على السلطة بين شاور وضرغام.
وتسابق أموري ونور الدين للسيطرة على مصر فأرسل الأخير قواته إليها بقيادة أسد الدين شيركوه ومعه ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي*. وبعد وقائع وحروب تمكن أسد الدين شيركوه من بسط نفوذ النوريين على مصر، ولكنه ما لبث أن توفي فأسندت الوزارة في مصر إلى صلاح الدين الأيوبي الذي أنهى الخلافة الفاطمية في محرم 567هـ/أيلول 1171م. وكانت مصر دعماً قوياً لقوة نور الدين الناهضة في صراع المسلمين والفرنج.
وفي 11 شوال 569هـ/15 أيار 1174م توفي نور الدين زنكي فكانت وفاته خسارة عظيمة للعالم العربي وكاد الانقسام يفتك بحسم الدولة النورية. ولكن صلاح الدين عمل على توحيد الجبهة العربية الإسلامية وجمع الصفوف للوقوف في وجه الفرنج فضم دمشق إلى سلطانه وأصبح سيد الموقف في مصر والشام (رَ: العصر الأيوبي).
انتهزت مملكة بيت المقدس وفاة نور الدين فحاول أصحابها التدخل في شؤون بلاد الشام واحتلال دمشق، ولكنهم لم يوقفوا. وأثناء عودة أموري من دمشق مرض وما لبث أن مات في 12 ذي الحجة 569هـ/11 تموز 1174م، أي بعد موت نور الدين بأشهر قليلة. وبوفاته نكبت مملكة اللاتين في القدس نكبة اعتبرت خسارة فادحة لها ونذيراً بزوالها، إذ كان أموري آخر ملك قوي اعتلى عرشها. وقد ترك فتى صغيراً لم يتجاوز الأثني عشر عاماً هو بغدوين الرابع.
وبعد موت أموري دب النزاع والصراع بين الأمراء والبارونات في القدس بسبب الوصاية على العرش. وحدث فيها انشقاق أدى إلى ظهور حزبين: الأول حزب المتساهلين، وقد تألف من البارونات الذين أقاموا في فلسطين ومن الفرسان الاسبتارية* بزعامة الكونت ريموند (الصنحيل) الثالث أمير طرابلس. ودعا هذا الحزب إلى التفاهم مع العرب تقديراً منه لحالة الضعف التي انتهت إليها الحركة الصليبية بالقياس إلى قوة العرب المتزايدة التي قادها أمثال نور الدين وصلاح الدين. وكان هذا الحزب يسعى إلى تحقيق السلام ويفر من القيام بالمغامرات المحفوقة بالمخاطر. وأما الحزب الثاني فهو حزب المتشددين، ويتألف من الوافدين حديثا إلى فلسطين ومن الفرسان الداوية* واشتهر هذا الحزب بالنزعة العدوانية والكره الشديد للعرب والمسلمين، وغلبت عليه الروح القتالية والتطرف الشديد. وتزعم هذا الحزب الأمير الفرنسي المغامر أرناط صاحب بارونية الكرك.
قام أرناط في سنة 578هـ/1182م بتحدي المشاعر العربية والإسلامية فجهز حملة بحرية وبرية وسار إلى أيلة (العقبة) وحاصر قلعة فرعون التي كانت بيد الأيوبيين، وكان صلاح الدين قد حررها في سنة 566هـ/1170م. ولما استعصت عليه حاصرها بقطعتين حربيتين ثم سار إلى عيذاب الميناء المصري على البحر الأحمر فأسر ونهب وقتل، واتجه إلى اليمن فوصل إلى تهامة عسير، ثم عاد إلى ساحل الحجاز حيث الحوراء مقابل المدينة فترك بعض السفن في البحر وركب وبعض أتباعه براً إلى المدينة. ولما علم صلاح الدين بحملة أرناط هذه أمر قائده حسام الدين لؤلؤ باللحاق به، فأبحر حسام الدين وتمكن من فك الحصار عن قلعة فرعون في خليج العقبة وفتك بالفرنج المحاصرين وأحرق سفنهم. ثم سار إلى الحوراء واستولى على السفن الأخرى وأسر من فيها. ولحق بأرناط برا، ولكن أرناط هرب عائداً إلى الكرك عندما علم أن حسام الدين لؤلؤا قد لحق به. وبذا أخفقت حملة أرناط على الجنوب العربي وبلاد الحجاز.
وجد تحدي أرناط هذا صفوف العرب المسلمين وألهب حماستهم فتغير شعور كل من صاحب الموصل وصاحب حلب المناوثين لصلاح الدين وسارعا للتفاهم معه وانضما إليه. ثم ان هذه الحملة الفاشلة صدعت صفوف الفرنج في القدس وعجلت بنهايتهم وأثبتت فشل سياستهم التوسعية في بلاد الشرق العربي ومهدت لصلاح الدين كي يسترد ما اغتصبوه من بلاد الشام. ثم انها كانت المنطلق إلى تحرير بيت المقدس. فتهديد الحرمين الشريفين في مكة والمدينة كان من شأنه اشعال الغضب وإثارة الحماسة لتحرير بيت المقدس.
حاول بغدوين الرابع تقوية الجبهة الفرنجة التي كانت في انحدار لمواجهة قوة العرب التي كانت في ازدياد تحت قيادة صلاح الدين. وفي هذه الأثناء تزوجت أخته سبيلا من أمير فرنسي ضعيف الشأن هو غي لوزنيان رغم معارضة أخيها (576هـ/1180م). ونال بهذا الزواج كونتيتي يافا وعسقلان اقطاعا له. وبذا أصبحت السلطة في مملكة بيت المقدس في أيدي كورتيناي وبيت لوزنيان وأرناط والبطريرك هرقل. وأدى ذلك الى اضعاف دولة اللاتين وتفتيت قوتها، ولا سيما أن الملك أصيب بمرض شديد وأشرف على الهلاك. ولذا أصبح أرناط سيد الموقف فأدى بصفته وتحديه المشاعر العربية والإسلامية إلى التعجيل بنهاية دوله اللاتين في القدس.
دب النزاع بين الملك بغدوين الرابع وغي دي لوزنيان زوج أخته سبيلا فعزله عن الوصاية على العرش في سنة 578هـ/1183م. ولكن الأخير رفض ذلك واحتفظ بعسقلان اقطاعاً له وتحصن فيها ومنع الملك وأعوانه من دخولها. وفي هذه الأثناء بذل البطريرك هرقل ومقدم الداوية والاسبتارية المساعي لدى ملوك أوروبا للقيام بحملة صليبية وانجاد دولة اللاتين المتداعية، ولكن جهودهم لم تلق استجابة من ملوك أوروبا ولم تسفر بعثتهم عن نتيجة.
أوصى الملك بغدوين الرابع بالعرش لابن أخته الصغير وجعل الوصاية عليه للأمير ريموند كونت طرابلس. فتوج الطفل الصغير ملكاً باسم بغدوين الخامس في كنيسة القيامة* سنة 581هـ/1185م في حياة خاله الملك بغدوين الرابع الذي توفي بعد أسابيع من مراسم التتويج ولم يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره. وبعد من أتعس من حكم مملكة القدس بسبب المرض الذي حل به طوال حياته.
لكن الملك الصغير بغدوين الخامس ما لبث أن توفي في عكا سنة 582ه/1186م ولما يبلغ التاسعة من عمره فدب النزاع على السلطة بين زعماء الفرنج. فسارعت أمه سبيلا وأعلنت نفسها ملكة وأيدها في ذلك زوجها غي دي لوزنيان وأرناط صاحب الكرك والبطريرك هرقل وأما ريموند فقد توجه إلى نابلس* ودعا إلى عقد المحكمة العليا للبارونات. ولحق به أتباعه، واستنكروا تتويج سبيلا ملكة لأن في ذلك مخالفة لوصية بغدوين الرابع. وهكذا دب الصراع والنزاع في جسم دولة اللاتين على السلطة، يضاف إلى ذلك أن البلاد أصيبت بالقحط والجفاف لانحباس الأمطار. وبعد تتويج الملكة قامت بوضع التاج على رأس زوجها غي دي لوزنيان، وأقسم الجميع يمين الولاء للملك والملكة الجديدين وقدم البارونات الولاء للملك الجديد في حين توجه ريموند إلى أملاك زوجته في الجليل ورفض مبايعة الملك الجديد.
اشتدت مضايقة أرناط للقوافل التجارية العابرة جنوب شرقي الأردن، واستولى في نهاية سنة 582هـ/1187م على قافلة تجارية قادمة من القاهرة إلى دمشق رغم الهدنة المعقودة بين صلاح الدين والفرنج في بيت المقدس. ولما علم صلاح الدين أرسل للملك غي دي لوزنيان يخبره بالهدنة ويطالبه بإعادة الأسرى والأموال، فطلب الملك من أرناط ارجاع الأموال واطلاق سراح الأسرى. ولكن هذا لم يحفل بذلك وأعلمه أنه هو الذي ساعده في اعتلاء العرش. وفشل الملك في مسعاه فنذر صلاح الدين ان ظفر بأرناط أن يقتله بيده عقليل على ما اقترفه، ولمهاجمته الديار المقدسة قبل ذلك.
أعلن صلاح الدين الجهاد وجمع القوات من جميع البلاد العربية والإسلامية وخرج بها في مستهل محرم 583هـ/ نيسان 1187م. وبعد أن هاجم الكرك وشدد عليها أمر ابنه الأفضل بفتح جبهة في الجليل فدخلت قواته إلى صفورية* وفتكوا بالفرنج وعادوا محملين بالغنائم والأسرى.
ثم رفع صلاح الدين الحصار عن الكرك وعاد إلى رأس الماء في حوران والتقى بقوات ابنه هناك وعرض قواته فكانت اثني عشر ألفاً. ثم سار إلى الأقحوانة (شمال الأردن) فترك الجيش أثقاله هناك وساروا إلى غور الأردن فاجتازوا نهر الأردن إلى طبرية* عند جسر السد جنوبي البحيرة تماماً واصطدموا بالفرنج في معركة حطين* وانتصروا عليهم في 25 ربيع الآخر 583هـ/4 تموز 1187م. وتمكن الأيوبيون من سحق قواتهم وإبادة أكبر جيش حشده الفرنج في الشام” فمن عاين القتلى قال ما ثم أسير، ومن عاين الأسرى قال ما ثم قتيل”. وأسر الملك غي دي لوزنيان وأخوه الكندسطيل (أموري) وأرناط، وهو صاحب جبيل، وهفري بن هفري سيد تبنين ومقدم الداوية، ومقدم الاسبتارية. وبعد المعركة أحضر صلاح الدين أرناط فعدد عليه إساءاته وأفعاله ثم ضربه بسيفه فهد كتفه وتركه لمماليكه فأجهزوا عليه.
واصل صلاح الدين فتوحاته فحرر طبرية وعكا والساحل حتى عسقلان ثم توجه إلى بيت المقدس فدخلتها قواته بالأمان في يوم الجمعة 27 رجب 583هـ/تشرين الأول 1187م. ولم ينتقم صلاح الدين من الفرنج في القدس بل سمح لهم بالخروج إلى صور، مما دعا مؤرخي الغرب إلى أن يلهجوا بالثناء على خلق صلاح الدين ومروءته. ومما قاله وليم الصوري المؤرخ اللاتيني المعاصر لهذه الاحداث: “كان رجلاً حكيم المشورة باسلاً في الحرب شهماً إلى أبعد حدود الشهامة”.
وهكذا سقطت مملكة بيت المقدس اللاتينة بعد حكم دام ثماني وثمانين سنة (492 – 583هـ/1099 – 1187م). وقد عمل صلاح الدين جاهداً في سبيل ذلك، ولم يتحقق له النصر إلا بعد أن وحد الجبهة العربية الإسلامية وجمع الجيوش من مصر والشام والعراق وفرض زمان المعركة ومكانها.
المراجع:
- ابن الاثير: الكامل في التاريخ، القاهرة 1357هـ.
- ابن شداد: النوادر السلطانية والمحاسن البوسفية، القاهرة 1964.
- ابن الفلانسي: قبل تاريخ دمشق، بيروت 1908.
- ابن واصل: مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، القاهرة 1953-1960.
- أبو شامة: كتاب أزهار الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، القاهرة 1956 – 1962.
- العماد الكاتب: الفتح القسي في الفتح القدسي، القاهرة 1965.
- المقزيزي: اتعاظ الحنفاء في أخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء، القاهرة 1971- 1973.
- سعيد عبد الفتاح عاشور: تاريخ الحركة الصليبية، القاهرة 1975.
- يوسف غوانمة: إمارة الكرك الأيوبية، عمان 1980.
- Fulcher of Chartre: A History of the Expedition to Jerusalem, New York
- Grousset, R.: Histoire des Croisades et du Royaume franc de Jerusalem, Paris 1936.
- Runciman, S.: A History of the Crusades, Cambridge
- K. M.: A History of the Crusades, Philadelphia 1958.
- Stevenson, W.D.: The Crusades in the East, Beirut
- William of Tyre: A History of Deeds done beyond the Sea, New York
القدس الشريف (صحيفة -): رَ: الحزب العربي