التقليد الذي تقبله بطريركية القدس (الأرثوذكسية*) هو أن أول أسقف تولى مسيحيي القدس هو يعقوب أحد تلاميذ المسيح، وكان ذلك سنة 34 للميلاد. على أن الروايات التاريخية الأخرى تقول إن الكنائس المسيحية الأولى لما أخذت بتنظيم نفسها اتبعت مراكز الإدارة الكبرى في العالم الذي انتشرت فيه المسيحية على أساس التنظيم الروماني الامبراطوري. ومن ثم كان هناك إلى سنة 381م ثلاث بطريركيات هي رومة والاسكندرية وأنطاكية. وفي تلك السنة أضيفت بطريركية القسطنطينية وجعلت الثانية بعد روما. وفي هذا الوقت، أي أواخر القرن الرابع، كان في فلسطين أسفيتان هما الأسقفية الجنوبية ومركزها الرئيس قيسارية* وأسقفية الجليل ومركزها بيسان* وكانت في شرق الأردن أسقفية تسمى أسقفية بطرا. وفي مجمع خلقدونية المسكوني (451م) جعلت القدس بطريركية، وكان أول بطريرك تولى المنصب يوفنالوس (كان أسقفا من 421 إلى 451م وبطريركا من 451 – 458م).
كان بطريرك القدس ينتخب من أي من الجماعات التي تتكون المسيحية* منها في فلسطين: العرب والآراميون* واليونان. وظل الأمر على هذه الحال حتى سنة 638م ( أو بعد ذلك بقليل) فرسم الحكام العرب أن يكون القائم على شؤون البطريركية عربي اللغة لا أجنبي اللسان. واستمر هذا إلى أن جاء الصليبيون واحتلوا القدس (1099م) فعين بطريرك لاتيني للمدينة المقدسة. وظلت بطريركية القدس- في المدينة المقدسة . لاتينية إلى أن فتح صلاح الدين المدينة فأعيدت البطريركية تدريجياً إلى الأرثوذكس (وان ظل هناك بطريرك لاتيني المقدس). وعاد التقليد باختيار عربي لتولي السدة البطريركية. وقد أكد هذين الأمرين سلاطين المماليك*. وكان للقدس بطريرك أرثوذكسي يقيم في القسطنطينية منذ سنة 1099م فعاد في القرن الثالث عشر الى القدس. وظل البطاركة الذين تولوا المنصب عربا أرثوذكسيين الى سنة 1534م وتوفي فيها البطريرك عطا الله وكان اسمه البطريركي دوروثاوس.
ولما فتح محمد الثاني القسطنطينية عام 1453م واتخذها عاصمته جعل بطريركها مسؤولاً عن المسيحيين الأرثوذكس في دولته. ونظم شؤون الجماعات غير المسلمة في الامبراطورية على أساس نظام المللة فكان كل رئيس ديني مسؤولاً عن جماعته دينياً وإدارياً.
ولما فتح السلطان سليم بلاد الشام (1516م) ومصر (1517م) وسع نظام المللة بحيث أصبح بطريرك القسطنطينية مسؤولاً عن الأرثوذكس في آسيا الصغرى واليونان وبلاد الشام. ومن هنا تبدل الوضع فأصبح بطريرك القدس إلى اليوم يونانياً. وكان البطريرك اليوناني الأول هو جرمانوس (1538 – 1579م) الذي ظل بطريركا مدة طويلة واستطاع أن يضع الأسس الأول لجعل البطريركية المقدسة يونانية. وصار التقليد أن يعين البطريرك خليفته مسبقاً. ثم أصبح بطريرك القدس يقيم في القسطنطينية إقامة دائمة ولا يعرف شيئاً مباشراً عن بطريركيته. وكانت أخوية القبر المقدس التي ظهرت في وقت مبكر من تاريخ البطريركية (هو على التأكيد القرن العاشر) مفتوحة لجميع الرهبان. وقد بدأ جرمانوس بصبغتها بالصبغة اليونانية، وأقصي العرب عن المناصب الكنيسية الرفيعة إذ كانت الأخوية هي التي تزود البطريركية بالأساقفة والمطارنة ومساعديهم، وكان البطريرك كثيراً ما يحتار من أفرادها, وبعد أن كانت اللغة العربية سائدة رسمياً في البطريركية احتلت اللغة اليونانية سكانها.
ظل بطريرك القدس يقيم في استنابول (القسطنطينية) إلى سنة 1847م حين عاد البطريرك كيرلس ( 1845 -1873م) إلى الإقامة في القدس.
لما تولى عرش السلطة العثمانية سليمان القانوني (1520- 1566م) أقر العهود التي كان والده سليم قد منحها للارثوذكس وزاد عليها أن للبطريرك الأرثوذكسي الحق بإجراء حفلة النور وترميم كنيسة القيامة* وفق نواقيسها. وكانت مفاتيح كنيسة القيامة من عهد عمر بن الخطاب* إلى ذلك الوقت في أيدي البطاركة الأرثوذكس فأخذها السلطان من البطريرك وسلمها إلى عائلة نسيبة التي أقامها على حراسة باب كنيسة القيامة (بقي هذا الأمر إلى سنة 1967م) وفرض على الزوار المسيحيين الدا خلين الى الكنيسة ضربة يدفعونها للحراس. وقد أبطل هذه الضريبة إبراهيم باشا (ابن محمد علي باشا) أثناء الحكم المصري* (1834م).
كانت بطريركية القدس بحسب تطورها الأول تشرف على فلسطين والأردن والبصرة وسيناء. وكان فيها ما يزيد على مئة أسقفية من درجات مختلفة. ولكنها تقلصت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بسبب تغيب بطاركتها اليونان عن القدس فلم يعد لها إلا فلسطين ومدينتان في الأردن. وانحسر عدد أسقفياتها إلى 13 منها القدس والناصرة واللد وعكا وغزة وبيت لحم. وكان ثمة أسقفيات اسمية لها مطارنة من أخوية القبر المقدس يقيمون في الدير ويعيشون على واردات البطريركية. وقد قدر عدد اأرثوذكس التابعين للبطريركية عام 1840م بنحو عشرين ألفا فقط إذ انتقل بعضهم إلى الطائفة اللاتينية وانضم آخرون إلى طائفة الروم الكاثوليك (الجديدة) وأصبح آخرون من أتباع الكنيسة الانجيلية. وأما في سنة 1904 قدر عدد أبناء الطائفة الأرثوذكسية بنحو خمسين ألفا. وبلغ العدد خمسة وستين ألفاً في العشرينات من القرن الحالي.
في أيام البطريرك كيرلس (1845 -1873م) كانت الأملاك الواسعة التابعة للقبر المقدس تحت إشراف البطريركية. وكانت تدر نحو ثلاثين مليون غرش (300.000 ليرة عثمانية) حتى إن البطريرك كني بأبي الذهب. وقد قام بفتح بعض المدارس الابتدائية وأنشأ مطبعة عربية (1854م) وفتح مدرسة المصلبة اللاهونية (خارج مدينة القدس) سنة 1855م لتهذيب رجال الدين الأرثوذكسيين، وكان فيها سبعون تلميذاً عدد العرب منهم ضئيل جداً. وتعرضت هذه المدرسة للاقفال والفتح حتى أقفلها نهائياً سنة 1909 البطريرك ذاميانوس الذي تولى البطريركية سنة 1897.
أدت سيطرة الاكليروس اليوناني على شؤون البطريركية إلى قيام فصل تام بين الراعي والرعية. وأصبحت أخوية القبر هي الكنيسة. واعتبرت أن الشعب يستحق منها المنة والبر سواء في فتح المدارس أو تعمير الكنائس أو مساعدة المحتاجين. ومن هنا كانت مناوأة الشعب الأرثوذكسي للبطريرك وأعوانه، الأمر الذي استمر خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأيام الانتداب البريطاني على فلسطين. وعلى الرغم من سن قانون للبطريركية عام 1875م فيه مواد لمصلحة الشعب فان البطريرك، بوصفه رئيسا للمجمع المقدس ولاخوية القبر المقدس، لم ينفذ من هذه المواد القليلة شيئاً. وقد اشتدت الحملة الشعبية على الاكليروس اليوناني أيام البطريرك ذاميا نوس (1897 – 1931) فعقدت مؤتمرات أرثوذكسية كبيرة أولها المؤتمر الذي عقد في حيفا في 15/7/1923 وحضره أربعة وخمسون مندوباً.
كان موقف الأرثوذكس العرب في فلسطين والأردن من البطريركية اليونانية جزءاً من الموقف الوطني العربي تجاه الأجانب.