هم الأقوام الساميون الذين سكنوا الشاطىء الفينيقي الممتد من مصب نهر العاصي شمالاً إلى دور (حالياً الطنطورة)* في شمال فلسطين. وسمى اليونان المنطقة “فينيقية” وسكانها “فينيقيين” منذ القرن الثاني عشر قبل الميلاد. وكان أهالي المنطقة من قبل يعرفون بالكنعانيين. وتشير الدلائل التاريخية والأثرية إلى أن الفينيقيين هم مزيج من الكنعانيين القدماء والعناصر الايجبية التي شنت عدة حملات على المدن الكنعانية على الساحل بعد أن طرد الدوريون الايجبيين من بلادهم في القرن الثاني عشر قبل الميلاد. فالنصوص المصرية تشير إلى تحرك الايجبيين وتسميتهم “أهل البحر”.
منذ أواسط القرن الثاني عشر قبل الميلاد قامت مدن فينيقية كثيرة أهمها أرواد وبيروت وجبيل وصيدا وصور وأخذت تتبادل التجارة مع اليونان وشمال افريقيا، وأسست مدنا جديدة مثل أوتكا وقرطاجة في شمال افريقيا. وكان الفينيقيون يمقتون الحرب ويفضلون التجارة في جو سلمي. ومثال ذلك المعاهدة التي أبرمها احيرام ملك صور مع سليمان ملك إسرائيل. كما أن “اتوبعل” ملك صيدا أقام علاقات تجارية وثقافية متينة مع آخاب ملك إسرائيل.
وبالرغم من أن صور وصيدا تفوقتا في تجارتهما على مدينة جبيل فقد ظلت هذه أهم المدن الفينيقية من الوجهة الدينية والثقافية. وأحرف الهجاء أخذها اليونان عن مدينة جبيل.
تعرف أغلب أسماء ملوك المدن الفينيقية إما من الأنصاب وإما من تاريخ هيرودوت وإما من تاريخ مناندر وإما من التوراة*. فقد وردت على الأنصاب أسماء “زكريحل” و”أبي بعل” و”إلى بعل” و”يهو” ملك ملوك جبيل. وأما مدينة صور فالمعلومات عنها أوسع ابتداء من احيرام الذي كان معاصراً للملك سليمان ملك إسرائيل إلى خلفائه “بعل صور” و”عبد عشتارت” و”اتوبعل” الذي زوج ابنته “جزيل” لآخاب ملك إسرائيل، كما أن “عتاليا” بنت جزيل وآخاب تزوجت من يهوزام ملك اليهودية.
أما أسطورة تأسيس مدينة قرطاجة ففيها شيء من الغموض ولم يعثر على أي شيء يؤيدها.
ومنذ معركة قرقر في سنة 853 ق.م. بسطت المملكة الأشورية سيطرتها على المدن الفينيقية وأرغمتها على دفع الجزية.
وقد أقام سنحاريب نصباً عند مصب نهر الكلب ذكرى لانتصاره على الملوك الفينيقيين ذكر فيه أسماء ملوك أرواد وجبيل.
وكانت مصر تحرض الفينيقيين دائماً على الثورة على الآشوريين. ولكن هذه الثورات أخفقت وظل الأمر على هذه الحال إلى أن قوض البابليون المملكة الآشورية فاستردت المدن الفينيقية استقلالها ورحبت بقدوم فرعون مصر نخو الثاني. ولكن بعد معركة كركميش في سنة 605 ق.م. التي قهر فيها نبوخذ نصر ملك بابل نحو الثاني، وقعت فينيقية تحت نير البابليين وبقيت ترزح تحت الحكم البابلي حتى جاء قورش ملك الفرس الذي احتل بابل سنة 538 ق.م. فأصبحت فينيقية تحت الحكم الفارسي. وقسم دارا الأول الامبراطورية الفارسية إلى عشرين مقاطعة يحكم كل واحدة منها مرزبان، وكونت فينيقية وسورية المقاطعة الخامسة. وفي بادىء الأمر تعاون الفينيقيون مع الفرس وساعدوهم في حروبهم مع اليونان وعين ملك صيدا أميراً على الأسطول الفارسي، ثم ثاروا عليهم في أواخر القرن الخامس وأوائل القرن الرابع عشر قبل الميلاد.
ولما جاء الاسكندر المقدوني في سنة 333 ق.م. فتحت له المدن الفينيقية أبوابها الا مدينة صور التي أعربت عن رغبتها في أن تبقى على الحياد في الصراع القائم بين اليونان والفرس. فرضي الاسكندر بهذا الطلب، ولكنه أصر على أن يدخل معبد ملقارت ويقدم القرابين. فلما رفض الصوريون هاجمهم الاسكندر وحاصر جزيرتهم ودخل المدينة وقتل كثيراً من سكانها وأسر الآخرين.
وفي زمن الاسكندر حافظت المدن الفينيقية على حكمها الذاتي، ولكنها تأثرت بالمدينة الهلنستية خصوصاً في الهندسة.
وفي عهد خلفاء الاسكندر شهدت فينيقية معارك كثيرة ومرت جحافل والجيوش بأراضيها.
ورث فينيقية بطليموس الأول واحتفظت مصر بالمدن الفينيقية حتى معركة بانيون في سنة 198 ق.م. عندما قهر أنطوخوس الثالث الملك السلوقي بطليموس الخامس وجرده من فينيقية، وأصبحت المدن الفينيقية فيما بعد تابعة للملوك السلوقيين*. ثم اكتسبت المدن الفينيقية استقلالها الذاتي الواحدة تلو الأخرى وأخذت تضرب مسكوكاتها مستقلة عن سلطة الملوك السلوقيين حتى سنة 64 ق.م. حينما جاء القائد الروماني بوميموس وحول فينيقية إلى مقاطعة رومانية.
في عهد الرومان ازدهرت التجارة والصناعة في فينيقية واخترع في صيدا الزجاج المنفوخ وأثرت البلاد من ملاحتها. وظهر أثر ذلك في ثقافة المدن الفينيقية.
كان الفينيقيون يعبدون عدداً كبيراً من الآلهة ورثوها عن الكنعانيين. ففي مدينة جبيل كانت الآلهة المفضلة “بعلة جبيل” و”بعل رشف أدونيسو”. وفي صيدا كان الاله المفضل “اشمون – أدونيس”، وفي صور “ملقارت”، وفي أرواد “بعل ايم”. وأما “عشتارت” فكانت تعبد في جميع المدن الفينيقية. وقد انتشرت النصرانية في فينيقية منذ نشأتها. وأصبحت لفينيقية أهمية خاصة بعد نقل العاصمة الرومانية إلى القسطنطينية لأنها غدت واقعة على الطريق بين العاصمة الرومانية والبلاد المقدسة.
اشتهر الفينيقيون بالتجارة وورثوا عن الايجبيين سيطرتهم على البحار. فأصبحوا التجار بين مصر والبابليين والأشوريين والآراميين* من جهة، واليونان وشمال افريقية وجزيرة صقلية وإسبانيا من جهة أخرى.
وسيطروا لمدة ثلاثة قرون بكاملها (من القرن الحادي عشر حتى القرن الثامن قبل الميلاد) على مياه البحر المتوسط بدون منازع. وكانت أغلب تجارتهم مع بلاد اليونان. ولكن منذ القرن السابع أخذ ايونان ينافسون الفينيقيين فاضطر الفينيقيون إلى اللجوء إلى القسم الغربي من البحر المتوسط وأصبحت قرطاجة محور تجارتهم.
كانت الصناعة الفينيقية قليلة لأن الفينيقيين كانوا يتاجرون بمصنوعات البلاد المجاورة لا بمصنوعاتهم. وكانوا ماهرين في صناعة السفن، ويستخرجون اللون القرمزي من صدف الموركس ويصبغون به الملابس. وأهم صناعاتهم صناعة الزجاج*. واشتهروا بحفر العاج وأتقنوا صناعة النحاس وعملوا كذلك في الزراعة.
تأثرت فينيقية بفنون البلاد المجاورة لوقوعها بين بلاد الحضارات العظيمة مثل مصر والعراق والأناضول. ففي النحت قلد الفينيقيون الأساليب المصرية. ولكن الأشخاص المنحوتة تبدو أكثر حركة. وقد عثر على نصب للاله بعل في عمريت (مرثوس قديماً) يبدو فيه تأثير الفن البابلي والمصري والحثي والحوري. وعثر في جبيل على نصب للملك “يهو ملك” وهو يقدم القرابين إلى “بعلت جبيل”. ويرقى هذا النصب إلى العصر الفارسي. وكذلك وجدت مقاعد حجرية في موقع أم العمد في جنوب لبنان تعود إلى العصر الهلنستي*.
كان الفينيقيون منذ العهد الفارسي يضربون المسكركات الفضية في صور وصيدا وجبيل وأرواد. وفي العصور التالية اكتسبت أغلب المدن الفينيقية الحكم الذاتي وحق ضرب المسكوكات النحاسية. وفي أغلب الأحيان استعملوا رموزاً على مسكوكاتهم تمثل الآلهة والشعارات الدينية.
وهنالك أدلة تشير إلى أن الفينيقيين كانوا يعتقدون بحياة بعد الموت. فقد كانوا يتنون بموتاهم غاية الاعتناء فيدفنوهم في مغاور اصطناعية ويضعون في القبر المأكولات والمشروبات بأوان خزفية من أنواع وأحجام مختلفة. كما كانوا يدفنون مع الميت أغلب ممتلكاته من حلي وأدوات وأسلحة. وفي العصر الفارسي أخذوا يضعون في القبور بعض المسكوكات. وفي موقع قرب صيدا وجدت مقبرة ملوك المدينة في العهد الفارسي. وتدل بعض التوابيت الحجرية مثل تابوت الملك تبنيت وتابوت الملك أشمون عزار، على تأثير مصري، ويدل بعضها الآخر مثل تابوت الاسكندر وتابوت النائحات على تأثير يوناني. وهذا عدا التوابيت المصنوعة من المرمر التي وجدت في عين الحلوة. وفي العصر الهلنستي أخذ الفينيقيون يستعملون القبور المعروفة بالموسوليا نسبة إلى موسولس ملك كاريا أول من استعمل هذا النوع من القبور. وهو قبر منحوت بالصخر تحت الأرض وفوقه بناء كبير بأشكال مختلفة منها ما هو هرمي ومنها ما هو أسطواني مثل القبور المعروفة بالمغازل في قرية عمريت. وفي العهد الروماني درج استعمال التوابيت الحجرية المصنوعة من الرمز، وكانوا ينحتون في جوانبها وأطرافها مشاهد من الأساطير (الميتولوجيا) اليونانية.
وكان الفينيقيون يستعملون الحجارة المنحوتة والطوب في بنائهم. وابتكروا الطراز المعروف ببيت هيلاني في بناء قصورهم ومعابدهم.
والمعابد الرومانية في فينيقية منقولة من المعابد الرومانية في أوروبا بفارق واحد هو إقامتها ضمن باحة واسعة مسورة. وكثيراً ما تظهر صور هذه المعابد على المسكوكات الفينيقية. وفي العهد البيزنطي أقيمت كنائس في أغلب المدن الفينيقية منقولة عن الكنائس في القسطنطينية ورافنا في ايطاليا.
وعند الفتح العربي اصطبغت فينيقية بصيغة عربية وزالت شخصيتها الفينيقية وأصبحت جزءاً من الوطن العربي.
المراجع:
– Garrod, D.: The Stone Age of Mt. Carmel, London 1937.
– Guy, P.L.O.: Megiddo Tombs, Chicago 1938.
– Lamon, R.S. and Shipton, G.M. Megiddo I, Chicago 1934.
– Loud.G.: Megido II, Chicago 1948.
– Mcalister, R.A.S.: The Excavation of Gezer, Vol.III. London 1912.
– Reisner.G.A., Fisher C.S. and Lyon D.C.: Harvard Excavations of Samaria, Cambridge (Mass.) 1924.
– Wampler. J.C.: Tell en Nasbeh II, Berkely and New Haven.