يقوم بناء قبة الصخرة المشرفة في وسط ساحة الحرم الشريف القدسي، في القسم الجنوبي الشرقي من مدينة القدس*، وهي ساحة فسيحة مستطيلة الشكل تمتد من الشمال إلى الجنوب مقدار 480م، ومن الشرق إلى الغرب مقدار 300 م تقريباً. وتكون هذه الساحة على وجه التقريب خمس مساحة مدينة القدس القديمة التي كان يسكنها في عام 1981 ما يقرب من 70 ألف شخص. وهذه الساحة هي التي جاءت الإشارة إليها في القرآن الكريم في قبوله تعالى: “سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى* الذي باركنا حوله” ويقدس المسلمون البقعة منذ بزوغ الإسلام، بصفتها أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين الذين خصهما الله بالقداسة والتعليم. وفي هذه الساحة الشريفة التي بقيت مدار اهتمام المسلمين وعنايتهم مدة أربعة عشر قرناً من المباني الفخمة والزخارف الخشبية والجصبة والفسفسائية وغيرها ما يكون تراثاً فريداً في نوعه وأهميته، يشهد على الدورة العظمى التي بلغنتها الحضارة الإسلامية في مختلف الأزمنة والعصور.
إن بناء قبة الصخرة هو أهم هذه المباني، شرع في إنشائه عبد الملك بن مروان، الخليفة الأموي الخامس، سنة 68 هـ / 688م، حول الصخرة المشرفة الواقعة على صحن مرتفع في وسط ساحة الحرم الشريف، وانتهى البناء سنة 72هـ /691م. وقد أقام عبد الملك فوقها بناء مستديراً مكوناً من قبة خشبية مرتكزة على رقبة مستديرة الشكل، محاطة بست عشرة نافذة. وهذه الرقبة مستندة على رواق مستدير، محمولة على أربعة أركان من الرخام الأبيض المشجر، واثني عشر عموداً موزعة، بحيث يعقب كل ركن ثلاثة عمد. ويتكون باقي البناء الذي في ظاهر الرواق الداخلي المستدير من مطافين يحوطان به. وهما منفصلان أحدهما عن الآخر برواق وسطي مثمن الشكل. محمول على ثمانية أركان، مؤزرة بالرخام المشجر والملون البديع، وستة عشر عموداً موزعة، بحيث يعقب كل ركن عمودان. ويربط الأركان والعمد التي بينها بساطل، أي روابط خشبية ملبسة بالنحاس الأصفر المنقوش المذهب. ويعلو البساطل قناطر كلها مزينة بالقص المذهب البديع المزين بأنواع التشجير والتنميق. وقد نص على هذه القناطر سقف مائل من الخشب، دهن باطنه بأشكال هندسية ظريفة، وصفح في الظاهر بأنواع الرصاص. ويشغل باقي المساحة مطاف خارجي يقع بين الرواق الوسطي وجدران البناء الخارجية التي تكون شكلاً مثمناً، وفي كل ضلع من هذا المثمن المقابل للجهات الأربع باب. وعلى بعد بضعة أمتار خارج الباب الشرقي تقوم فيه السلسلة. وهي بناء جميل كثير الشبه بقبة الصخرة مما جعل بعض الدارسين يعتقد أنه بني نموذجاً لها.
وقبة القبة مبنية فوق الرواق الداخلي المستدير، وقطرها 20.5 م وعلوها من الأرض حتى ابتداء نهوض القبة عنها مثل هذه المسافة. وقد بنيت دعائم لتعضيد الرقبة. وهي مرتفعة على الأركان الأربعة السفلية. وتنفذ في السقف، وهي بارزة وظاهرة بجلاء من الخارج.
وتجعل الرقبة قبة خشبية وصفها المقدسي سنة 374هـ/ 985م بأنها كانت مغطاة بصحائف ذهبية. والقبة اليوم مؤلفة من قبتين خشبيتين الواحدة داخل الأخرى، وقد نصبتا على إطار خشبي متوج لرقبة القبة غرست فيه قضبان من الخشب المكون للقبتين. وقد زين داخل القبة الداخلية بالقصارة المذهبة البارزة على الطريقة العربية، وظهر في القسم السفلي من القبة كتابة تفيد تحديد زخرفة القبة من الداخل ثلاث مرات أيام السلطان صلاح الدين الأيوبي سنة 585 هـ/ 1189م، وفي أيام الناصر محمد سنة 718هـ/1319م، وفي أيام السلطان العثماني محمود سنة 1233هـ/1817م. وهناك نص آخر يشير إلى بعض تعميرات أخرى عملت أيام السلطان عبد العزيز سنة 1291هـ/1874م.
أما زخرفة البناء الفسفسائية فتغطي أكثر من 1.200 م2 من مساحة الجدران، وتنقسم بحسب تاريخ صنعها إلى ثلاثة أقسام واضحة في أسلوبها، منسجمة مع بعضها، ومؤلفة وحدة بديعة غاية في التناسق:
1) القسم الذي يزين توشيحات وبواطن قناطر المثمن الوسطي عن الداخل والخارج. وقد وصف فيه تاريخ البناء مع آيات قرآنية بالحروف الكوفية القديمة، تمتد على طول 240 م على رأس القناطر المحاذية للمطاف الداخلي. وجميع الفسيفساء التي تحيط بهذه الكتابة شبيهة جداً في حجمها وشكلها وأسلوبها بتلك التي وضعت عليها الكتابة المؤرخة سنة 72هـ/691م. ولا يوجد ما يدل على أنها كلها ترجع في صتعها لزمن واحد، وأنها كلها محاصرة لتاريخ البناء نفسه.
2) قسم الفسيفساء: التي تزين الوجه الخارجي فقط لقناطر الرواق الداخلي المستدير الحامل للقبة، وليس عليها تاريخ.
3) الفسيفساء التي تزين المنطقة: عليها تاريخ يشير إلى تحديد عمارتها سنة 418هـ/1027م. وهناك الفسيفساء التي كانت تزين ظاهر بناء القبة. وسقطت عنها في القرن السادس عشر، إذ أبدل منها القاشاني الموجود عليها في اليوم الحاضر، والذي يرجع عهده إلى السلطان سليمان القانوني (960هـ/1552م).
إن البناء في هندسته وشكله يشهد بما للصناع السوريين من الخبرة والمقدرة في فن العمارة*، حتى إن الداخل من أي جهة إلى المسجد تظهر أمامه جميع أطراف المكان دون أن يقاطع بصره شيء من الأبنية فيرى القسم الغريب والبعيد. وهذا أكسب البناء روعة وجمالاً وجلالاً، وأظهره باتساع أكثر مما هو عليه في الحقيقة. ولا شك أن راصفي الفسيفساء لم يكونوا أقل مهارة وخبرة من البنائين. وهناك مهارة فائقة ظاهرة في الزخرفة. إذ أن كل عنصر منها موضوع في المحل المناسب له، وليس هناك لحن في الايقاع، ولا خطأ في الذوق، ويحتوي الناظر إلى الفسيفساء لأول وهلة ذهول، ويؤخذ بسحر ألوانها وخطوطها التي يتخللها نور ضئيل يزيدها رونقاً وروعة وسحراً. وبعد التآمل الطويل وتقليب النظر تبدأ العين تستيقظ وتنتبه متجذبة بأمعان الفسيفساء الذهبية البراقة، فتكشف أمامها الأشكال والنقوش المختلفة. فهنا أشكال لأشجار النخيل، متفرعة منها أغصان مثقلة بقطوف البلح المتدلية، وتبدو أكاليل الأزهار ملتفة عليها الأوراق. وفي جهة أخرى تظهر دالية العنب ممتدة على بعض أعالي الأركان، أو منتشرة على توشيحات القناطر. وفي ناحية ثالثة يشاهد نبات الاقنشوس متفرعة منه أوراقه المجزعة وأثمار متهدلة على الأغصان. وبين هذه الزخرفة المتكونة من أجزاء قد ألفتها الأبصار في الأشكال التقليدية، تنبشق مشاهد تبدو بأشكال أخرى، هي وليدة المخيلة الشرقية الأنيقة، والتي تختلف عن الأولى أسلوبها وشكلاً. فهناك قلائد الأزهار ملبسة باللالىء ملتفة بسلاسل ذهبية وصدفية منتشرة على الجدران. وفي جهة أخرى أغصان النبات وأوارقه ملتفاً عليها قلائد مرصعة بالجواهر، مما أكسب الزخرفة لون الترف والخشونة وهذا أكسبها خصائص فاتنة، وميزها من أي أسلوب زخرفي آخر. ويخيل للرائي بأنه في إحدى الجنائن الخيالية المذكورة في قصص ألف ليلة وليلة.
وقد جاء الاستغناء عن الصور الممثلة للإنسان والحيوان وفقاً لأحكام الديانة الإسلامية. واستعيض عنها بالأشكال الطبيعية والرسوم المركبة والتقليدية، مما أعطى المكان رونقاً يمتاز من غيره بما يبحث في النفس من الشعور بالهدوء والطمأنينة والتأمل العميق. والزخرفة بمجموعها مكونة من أشكال متباينة مرنة التكييف، ولا شك أن الفنان الضائع لها كان أميناً في صنعته على المبادىء الأساسية لأساليب الزخرفة التي كثيراً ما أهملت؛ وهي أن تأتي الزينة والزخرفة متنافسين مع المكان الذي تجملانه. وهندسة البناء الداخلية هي التي تطلبت أن تكون الزخرفة على ما جاءت عليه.
وصفوة القول إن قبة الصخرة في هندستها وشكلها وزخرفتها كانت ولا تزال من أجمل وأروع المباني التي أتحف بها العالم. وقلما يوجد في مباني العالم ما يفوقها، أو يضارعها بهاء وروعته وجمالاً. فزيادة على زخرفة سقوفها المذهبة وجدرانها الرخامية ونوافذها الزجاجية تفتن العين بالفسيفساء. وجمال تأليفها، وألوانها التي جاءت كلها على أحسن تناسق وانسجام، وبالأشكال المختلفة التي استعملت، والأساليب، والألوان، ودقة الصنع التي بلغت الحد الأعلى من الكمال. كل هذا جعل من قبة الصخرة أثراً فريداً في تاريخ الفن.
وجدير بالذكر، أن جميع الدراسات والاختبارات الأثرية الكثيرة التي أجراها علماء مختصون على البناء خلال عمليات الصيانة والترميم، على مدى الأزمان، أثبتت بما لا يدع مجالاً لأي شك، أن قبة الصخرة، بكامل أساساتها وجدرانها الخارجية، هي من إنشاء عبد الملك بن مروان، وأنها بناء متجانس الأجزاء، لا يضم بقايا أي بناء قديم كما توهم بعضهم.
المراجع:
– المقدسي: أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، ليدن 1877.
– ابن فضل الله العمري: مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، القاهرة 1924.
– ابن كثير: البداية والنهاية، ج8، بيروت 1966.
– خير الدين الحنبلي: الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، القاهرة 1283 هـ.
– ريتشموند: قبة الصخرة المشرفة، أكسفورد 1924.
– كرسول: فن العمارة الإسلامية الباكرة، أكسفورد 1969.
– Marguerite Gautier Van Berchem et Solange Ory: La Jerusalem Musulmane, Lauzanne 1978.