من الشعوب التي ظهرت في الشرق الأدنى في النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد واضطلعت بدور واضح في حياة هذه المنطقة السياسية والحضارية في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد تقريباً.
لم يكن تاريخ الحوريين واضحاً قبل بداية القرن العشرين. إذ لم تكن المعلومات المتيسرة عنهم عندئذ تتعدى ما ذكر عنهم في التوراة* من أنهم كانوا بين الشعوب التي أقامت في فلسطين قبل الغزو الإسرائيلي. وأول ما أثار انتباه الباحثين رسالة مدونة باللغة الحورية ارسلتها ملكهم توشراتا إلى الملك المصري أمنحتب الثالث (حوالي 1413- 1377ق.م)، وقد اكتشفت بين رسائل تل العمارنة* في سنة 1877. وفي أوائل القرن العشرين بدأت المصادر المتصلة بالتاريخ الحوري تتزايد كماً ونوعاً، فاكتشف المنقب الألماني وينكلرWinckler في سنة 1906 طبقة من الآثار الحورية في بوغازكوي، الموقع الذي يمثل عاصمة الدولة الحثية في وسط بلاد الأناضول، كما عثر على عدد من النصوص التي ورد فيها اسم “خاري”. وقد أعاد هذا الاسم إلى الأذهان اسم “خوري” الذي ورد في التوراة، واسم “خارو” الذي ظهر في المصادر المصرية.
وفي سنة 1925 أجريت تنقيبات مهمة في مدينة نوزي الواقعة على بعد 16 كم من مدينة كركوك من الناحية الجنوبية الغربية وكشفت عن آثار مادية ومدونة عرف منها أن نوزي كانت من المراكز الحضارية الحورية الرئيسة، كما أظهرت هذه الآثار أهمية شأن الحوريين في تاريخ الشرق الأدنى القديم الحضاري.
وعلى الرغم من الغموض الذي ما زال يكشف جوانب من التاريخ الحوري فإن الوثائق التي اكتشفت حتى الآن مكنت المؤرخين من تتبع تاريخ الحوريين من بداية ظهورهم على مسرح الأحداث حتى اختفائهم وانصهارهم في الشعوب الأخرى.
بدأت أعداد كبيرة من الحوريين، على ما يبدو، بالهجرة من جنوب القوقاز وأرمينيا إلى منطقة الشرق الأدنى في النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد، واستقر عدد منهم في العراق، كما يستدل من نصين، أحدهما باللغة الأكدية والثاني باللغة الحورية، يرجع تاريخهما إلى العهد الأكدي (2370 – 3200م). ويستدل من النص الحوري أنه كانت هناك في هذا العهد المبكر مملكة حورية صغيرة في مدينة أوركيش الواقعة في منطقة الخابور. وكان ملكها، صاحب هذا النص، يعرف باسم تيشاتال. وكان الحوريون على ما يبدو يمارسون بعض المهن في جنوب العراق كما يستدل من وجود أسماء الحورية في بعض الوثائق. وازداد عدد الحوريين في العراق في عهد سلالة أور الثالثة (2113 – 2006 ق.م.) كما يتضح من تردد أسمائهم في الوثائق التي يعود تاريخها إلى هذا العهد. وفي بداية الألف الثاني قبل الميلاد بدأ الحوريون ينشرون فوق رقعة واسعة من الشرق الأدنى، إذ اكتشفت آثارهم وأسماؤهم في مناطق تمتد من سلسلة جبال زاغروس شرقا إلى سواحل البحر المتوسط غرباً، ومن بلاد الأناضول شمالاً إلى فلسطين جنوباً. وقد أشارت التوراة إليهم، وذكرتهم الوثائق المصرية. ومما تجدر الإشارة إليه أن الظروف الدولية التي سادت بين القرنين الثامن عشر والسابع عشر قبل الميلاد كانت ملائمة لتغلغل الحوريين وانتشارهم وازدياد نفوذهم، لأن هذه الفترة شهدت انحسار النفوذ الحثي عن سورية بسبب المشاكل داخلية في بلاد الأناضول (رَ: الحثيون)، وكانت الدولة الأشورية تعاني من حالة ضعف شديد، وسقطت دولة بابل العظيمة لتحل محلها الدولة الكاشية التي لم يكن لها تأثير يذكر في أحداث الشرق الأدنى. وعرف الحوريون كيف يستغلون تلك الأحوال في توسيع هجرتهم واحتلال مناطق مهمة في العراق وسورية، ووصلوا إلى فلسطين وانضم عدد منهم إلى الهكسوس* الذين دخلوا مصر.
وكان الحوريون في بداية تاريخهم أسياد أنفسهم، بدليل عدم اكتشاف أسماء أجنبية بين أسمائهم في نصوص القرن الثامن عشر قبل الميلاد وما قبله. ولكن جماعة من الهنود – الأوروبيين استطاعت بعد الاستيطان في العراق وسورية وفلسطين فرض سيطرتها على الشعب الحوري، وأقامت دولة عرفت باسم الدولة الميتانية، كان لها شأن كبير في تاريخ الشرق الأدنى القديم في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد. وكانت هذه الطبقة الحاكمة على ما يبدو ذات قدرات حربية كبيرة نتجت عن مهارتهم الفائقة في أسلحة الحرب الفتاكة في ذلك العهد، وهي الخيول والعربات. وكانت أسماء هؤلاء الحكام تختلف عن الأسماء الحورية التي لم تكن هندية – أوروبية، وكان يشار إليهم بلقب ماريانا، وهو تعبير في اللغة الهندية – الأوروبية عن شاب أو محارب. وتعاظمت قوة الحوريين تحت زعامة الهنود – الأوروبيين بعد سقوط دولة بابل العظيمة حوالي سنة 1600 ق.م. وأصبح لدولتهم وزن كبير بين الدول الكبرى في ذلك العهد، إلى أن قضى عليها الحثيون* والأشوريون.
تشير الأسماء الحورية التي وردت في نصوص اكتشفت في شمال سورية إلى وجودهم في هذه المنطقة في القرن السادس عشر قبل الميلاد. وهناك دلائل كثيرة تشير إلى أنهم كانوا على رأس عدد من الإمارات الصغيرة، كدولة “علالاخ” التي كان لحكامها أسماء تدل على أنهم كانوا من طبقة الماريانا الهندية – الأوروبية. وجاء في المصادر المصرية من القرن الخامس عشر قبل الميلاد أن الحوريين كانوا يقاومون الغزو المصري في سورية، وأنهم دخلوا مع المصريين في حرب طاحنة في قادش. بيد أن أهم ما يلفت النظر هو وجود الحوريين الواضح في فلسطين، وتأثيرهم في الحياة العامة هناك. فقد أشارت رسائل العمارنة إلى عدد من الحوريين الذين كانوا في فلسطين، وكان حاكم مدينة القدس* في القرن الرابع عشر قبل الميلاد يجعل اسم “عبدي – خيبا” وخيبا او خيبات، إلاهة حورية مشهورة. وبلغ من تعاظم وجود الحوريين في فلسطين أن المصريين أطقوا عليهم أحيانا اسم “خور ” أو “خوري”.
وورد في التوراة اسم الحوريين مع أسماء الشعوب الأخرى التي كانت تقيم في أرض كنعان* (فلسطين)على الغزو الإسرائيلي وورد اسمهم بصيغة “حواريت” و”حوريم”. ويبدو واضحاً أن الإسرائيليين تأثروا بهم وتزاوجوا معهم، حتى إن يعقوب* نزوح إمرأتين حوريتين على ما يبدو (سفر التكوين 31 : 14 – 16) هما راحيل وليئة. وظهرت آثار الحوريين في بعض القوانين اليهودية، وخاصة في القواعد المتبعة في تأجير الأراضي الزراعية (عدد 36 :9، الملوك الأول 21). وبلغ تشابه بعض جوانب الحياة الحورية والحياة العبرانية درجة دفعت بعض المؤرخين إلى الاعتقاد بأن الحوريين والعبرانيين* كانوا يقيمون معاً في العراق قبل هجرتهم إلى فلسطين، وخاصة في ضوء ما اكتشف في مدينة نوزي من الوثائق القانونية الحورية التي تذكر عدداً من المؤسسات المتشابهة لما عند العبرانيين. وهناك عدد من القوانين اليهودية التي لا يمكن فهمها فهماً صحيحاً إلا بعد دراسة الممارسات القانونية عند الحوريين.
وكان الحوريون يتكلمون لغة لم يستطع العلماء بعد ربطها بأي زمرة من الزمر اللغوية المعروفة. وأقرب لغة إليها هي اللغة الأورارتية التي ظهرت في أرمينيا في الألف الأول قبل الميلاد. واستخدم الحوريون الخط المسماري العراقي في كتابة وثائقهم، مما سهل على علماء اللغة قراءتها. وأما ديانتهم فكانت تدور حول عبادة آلهة متعددة منها آلهة حورية وآلهة هندية – أوروبية وأخرى عراقية. وكان إلههم الأعظم “كوماري” على رأس المجمع الإلهي. وظهر أثر هذا الإله في عبارة الحثيين، بل في الأساطير الإغريقية. وكان الإله (تيشوب)، إله العاصفة، أكثر الآلهه شعبية وانتشاراً، حتى إنه أصبح الإله الرئيس في عدد من دويلات سورية وبلاد الأناضول. وكانت زوجته الإلاهة خيبا. وعبدت الآلهة مثرا وقارونا وأندرا، وهي آلهة هندية – أوربية. وانتشرت بين الحوريين عبادة الإلاهة عشتار، وهي إلاهة عراقية عبدها الساميون والسومريون.
وقام الحوريون بدور بارز في نقل التأثيرات الحضارية إلى شعوب الشرق الأدنى، فنقلوا عناصر سومرية – سامية إلى بلاد الأناضول، كما نقلوا الكثير من عناصر الحضارة الحثية إلى شمال سورية والعراق. وأما خصائص الفنون الحورية فما زالت في الجوانب الغامضة التي يحتاج فهمها إلى المزيد في دراسة آثارهم الفنية. وهناك أمل كبير في أن يؤدي اكتشاف عاصمة الدولة الميتانية “واشوكاني” التي ما زال موقعها غير معروف إلى الكشف عن المزيد من التاريخ الحوري الحضاري.
اختفى الحوريون حوالي اللقرن السادس قبل الميلاد بعد مجيء أقوام جدد طغوا عليهم، فذابوا في بقية شعوب الشرق الأدنى.
المراجع:
– جورج بوست: قاموس الكتاب المقدس، بيروت 1971.
– Cambridge Ancient History, VOL. II, 1965.
– Gelb, I. J. Hurrians and Subarians, Chicago 1944.
– Speiser, E.A.: Mespotamian Origins, 1930.