بعد الانقلاب الدستوري في الإمبراطورية العثمانية سنة 1908 عين الشريف حسين أميراً على مكة فتأخذ يثبت موقعه في الإمارة وسيادته على القبائل الحجارية. ويسعى بحذر إلى إبراز المركز الممتاز للديار المقدسة واستقلال الحجاز والبلدان العربية، وبدأ يعترض على تشدد الاتحادين في نظام الحكم المركزي (رَ: الاتحاد والترقي، جمعية)، على التجنيد الإجباري، واعتزم الاتحاديون تأديب الحسين بتعين والٍ للحجاز معروف بالغلطة والنزق. ولكن الحسين قاومه بعناد حتى اضطرت السلطة للايعاز إلى الوالي بمصالحة الحسين في ربيع سنة 1914.
وحين نشبت الحرب العالمية الأولى كان أمام العرب طريقان: إما الوقوف إلى جانب الدولة العثمانية، وإما الثورة عليها وتحقيق استقلالهم عنها. وقد اتخذ الحسين قراراً يوفق بين الرأيين فأرسل مبعوثين إلى بلاد الشام وإلى كبار الزعماء العرب ليطلعوا على حقيقة الجو العام ومدى الاستعداد للثورة. كما قرر الإبقاء على سلته السامي البريطاني في القاهرة. وكان ابنه عبد الله قد فاتح المندوب البريطاني بشأن توفر العلاقات بين والده والأتراك. وقد رأت بريطانيا أن الثورة العربية على الدولة العثمانية عامل حاسم في دحر الأتراك ابان الحرب، ورأت في الشريف حسين الزعيم المأمول للثورة العربية نظراً لنسبه الهاشمي، ولمركزه كشريف مكة المكرمة ولنفوذه بين القبائل في الحجاز، ولموقع بلائه البعيد عن مراكز تجمع الجيوش وطرق المواصلات. وفيما كان الحسين يعمل على توطيد مركزه في الحجاز طلبت الدولة العثمانية منه تأييدها في دعوتها إلى الجهاد (تشرين الثاني 1914) وإرسال المتطوعين العرب للمشاركة في هذا الجهاد ضد دول الحلفاء. وتحرج موقف الحسين وساءت أحواله حين حاصرت أساطيل الحلفاء سواحل الحجاز، فانقطع بذلك تموين الديار المقدسة، وأوشكت المجاعة أن تحل فيها. وتحقق الحسين من أن بريطانيا تمسك بزمام الطريق البحرية، وأن ثورة عربية بزعامته يمكن أن تبطل أو تضعف دعوة الجهاد التي أعلنها السلطان العثماني بوصفه خليفة المسلمين. وباشر الحسين اتصالاته مع الإنكليز برسالة بعث بها إلى المستشار الشرقي في دار الاعتماد البريطانية بالقاهرة رونالد ستورز وقعها عنه ولده عبد الله، وفيها عبر الحسين عن الرغبة في التفاهم مع بريطانيا، وقصر إشاراته على الحجاز، وتجنب أن يربط البلدان العربية الأخرى بشيء. ولكنه لمح إلى أنه قد يستطيع قيادة أتباعه القريبين منه إلى الثورة إذا ما اضطره الأتراك إلى ذلك، بشرط أن تتعهد إنكلترا بمساعدته. وورد إلى عبدالله بن الحسين جواب كتشنر وزير الحربية البريطانية من لندن وفيه وعد بريطانيا القاطع للحسين بضمان بقائه شريفاً لمكة، وحمايته من كل اعتداء خارجي، ومساعدة العرب في مساعيهم لنيل حربتهم بشرط مؤازرة إنكلترا على تركيا. وتمهل الحسين في الجواب حتى يجمع قواته وينتهز الفرصة المواتية للثورة ويستشير الزعماء العرب الآخرين. وبعد ثمانية أشهر، أي في تموز 1915، وعلى أساس ميثاق دمشق الذي اتفق عليه أقطاب جمعتي العربية الفتاة* والعهد*، قامت المفاوضات بين الحسين والإنكليز بمراسلات متبادلة بينه وبين مكماهون المندوب السامي البريطاني في القاهرة عرفت بمراسلات الحسين – مكماهون.
شدد الحسين على وجوب تحديد منطقة الاستقلال العربي لأنها للشعب العربي كله لا لشخصه. جاء ذلك في مذكرة بتاريخ 14/7/1915 أرسلها عبد الله باسم أبيه الشريف حسين إلى مكماهون، وفيها مطالبة باسم الأمة العربية باعتراف بريطانيا باستقلال البلاد العربية المشتملة على سورية الكبرى (وفيها فلسطين ولبنان)، والعراق، جنوبه وشماله، وجميع الجزيرة العربية (ما عدا عدن التي كانت آنئذ مستعمرة بريطانية). وأكدت المذكرة أن العرب فضلوا بريطانيا على غيرها، كما وعدت أن تفضل بريطانيا على غيرها في المصالح الاقتصادية في جميع البلاد العربية. وطالبت بعقد حلف دفاعي – هجومي بين العرب والبريطانيين، وبموافقة بريطانيا على إعلان خلافة عربية (رَ: الحسين، مذكرة 1915).
في 24/10/1915 رد مكماهون على مذكرة الحسين بمذكرة تضمنت وعدا له بأن تعترف بريطانيا باستقلال العرب ضمن البلاد التي اقترحها الشريف وتأييده. غير أن المذكرة استثنت من سورية القسم الواقع غربي ولاية الشام. وقد ورد في هذه المذكرة “إن ولايتي مرسين واسكندرونة وأجزاء من بلاد الشام الواقعة في الجهة الغربية لولايات دمشق الشام وحمص وحماة وحلب لا يمكن أن يقال إنها عربية محضة. وعليه يجب أن تستثنى من الحدود المطلوبة. ومع هذا التعديل وبدون تعرض للمعاهدات المتعددة بيننا وبين بعض رؤساء العرب نحن نقبل تلك الحدود”.
وفي 5/11/1915 رد الشريف حسين بقوله “تسهيلاً للوفاق، وخدمة للأمة الإسلامية، وقراراً بما يكلفها المشاق والإحن، ولما لحكومة بريطانيا العظمى من الصفات والمزايا الممتازة لدينا، نترك الإلحاح في إدخال ولايات مرسين وأضنة في أقسام المملكة العربية. وأما ولايتا حلب وبيروت وسواحلهما فهي ولايات عربية محضة لا فرق بين العربي المسيحي والمسلم فإنهما أبناء جد واحد”[1].
ورد مكماهون في 13/12/1915 بقوله “سرني ما رأيت من قبولكم إخراج ولايتي مرسين وأضنة من حدود البلاد العربية.
أما بشأن ولايتي حلب وبيروت فحكومة بريطانيا العظمى قد فهمت كل ما ذكرتم بشأنهما ودونت ذلك عندها بعناية تامة. ولكن لما كانت مصالح حليفتها فرنسا داخلة فيهما فالمسألة تحتاج إلى نظر دقيق، وسنخابركم بهذا الشأن مرة أخرى في الوقت المناسب”.
وفي 1/1/1916 كتب الشريف حسين إلى مكماهون يقول: “أما الجهات الشمالية وساحلها فيما كان في الإمكان من تعديل أتينا به في رقيمنا السابق. هذا، وما ذاك إلا للحرص على الأمنيات المرغوب حصولها بمشيئة الله تبارك وتعالى. وهذا الحس والرغبة هما التي الزمتنا بملاحظة اجتذاب ما ربما أنه يمس حلف بريطانيا العظمى لفرنسا واتفاقهما إبان هذه الحروب والنوازل. إلا أننا مع هذا نرى من الفرائض التي ينبغي لشهامة الوزير صاحب الرياسة أن يتيقنها بأنه عند أول فرصة تضع فيها أوزار هذه الحروب سنطالبكم بما نغض الطرف عنه اليوم لفرنسا في بيروت وسواحلها”.
وأجاب مكماهون في 10/3/1916، “وقد يسرني أن أخبركم بأن حكومة جلالة الملك صادقت على جميع مطالبكم، وأن كل شيء رغبتم الإسراع فيه وفي إرساله فهو مرسل مع رسولكم حامل هذا”. وكانت هذه الرسالة، وهي العاشرة، آخر المراسلات.
قام العرب بالثورة على الأتراك وأوفدوا بنصيبهم من الاتفاق. وحين طلبوا أن تفي بريطانيا بنصيبها فتعترف باستلالهم راحت بريطانيا تفسر الاتفاق بأنه يستثني فلسطين بحدودها الدولية عند نهاية الحرب العالمية الأولى. ودأبت الحكومة البريطانية بين الحربين العالميتين على القول إن التحفظ الوارد في رسالة مكماهون إلى الشريف حسين المؤرخة في 24/10/1915 يشمل ولاية بيروت وسنجق القدس المستقل، وبناء عليه “تكون فلسطين برمتها غربي الأردن مستثناء من تعهد السير هنري مكماهون”. ولكن هذه الدعوى البريطانية باطلة، إذ يتضح من تحليل رسالة مكماهون إلى الحسين أن فلسطين لم تكن موضع بحث أبداً. ولم تشملها التخفظات. فمن المعلوم أن السلطة العثمانية كانت مقسمة إدارياً إلى ولايات، وكل ولاية تشتمل على عدد من الساحق (الألوية) والأقضية. وكانت سورية منقسمة إلى ثلاث ولايات وسنجق مستقل عنها. وهي ولاية سورية وتدعى أيضاً ولاية دمشق، وولاية حلب، وولاية بيروت، وسنجق القدس الشريف. وكانت ولاية دمشق مثلاً تحتوي على أربعة سناجق منها حوران والكرك جنوباً وحماة شمالاً، وعلى عدة أقضية أخرى. كما كان سنجق القدس يضم عدة أقضية (رَ: الإدارة) .وقد جاء في رسالة مكماهون المؤرخة في 24/10/1915 “وأجزاء من بلاد الشام الواقعة في الجبهة الغربية لولايات دمشق الشام وحمص وحماه وحلب” والتي “لا يمكن أن يقال إنها عربية محضة”. إن ذكر المدن الأربع دون تمييز بينها رغم اختلاف وضعها الإداري يثبت أن الاستثناء كان لما يعرف اليوم بالأراضي اللبنانية مع جزء من ساحل سورية الشمالي، ولا يشمل الاستثناء فلسطين على الإطلاق.
ولو كان المراد من كلمة “دمشق” ولاية سورية على ما ذكره وزير المستعمرات البريطاني تشرشل في بيانه عام 1922 لما كان مكماهون بحاجة إلى ذكر حمص وحماة لأنهما تدخلان ضمن ولاية سورية دخول الأقسام الجنوبية. سنجق حوران وسنجق الكرك، ولكان يكفي أن يؤكد مكماهون أن الجهات الواقعة غربي دمشق وحلب تخرج من البلاد التي وعدت بريطانيا العرب باستقلالها. ولو كان المراد من إيراد لفظة “دمشق” سنجق دمشق لما كانت فلسطين لأن سنجق حوران وسنجق الكرك، ويقع غربيهما جزء من فلسطين، كانا مستقلين ومنفصلين عن سنجق دمشق. إن عدم ذكر سناجق الكرك وعجلون وعمان، كما ذكرت حمص وحماة، يدل بوضوح على أنه لم يكن المراد يومذاك إخراج القسم الواقع غربي شرق الأردن (أي فلسطين) من البلاد العربية التي تضمن بريطانيا استقلالها.
وتوكيداً لما تقدم من تحليل صريح مايكل مكدونيل رئيس المحكمة العليا بفلسطين أثناء قيام لجنة موم* (1939) بتحقيقاتها في المراسلات بين الحسين ومكماهون، صرح بأن “فلسطين كانت ضمن منطقة الاستقلال العربي. وإلا فلماذا تحدثوا عن مناطق دمشق وحمص وحماة وحلب وليست إحداها تقع إلى الشرق من فلسطين، وكلها تقع شمالها بعيداً عنها؟ إذا كان يجب وصف فلسطين فلماذا لا يتحدث عن بحيرة الحولة* ونهر الأردن* وبحيرة طبرية* والبحر الميت* كحدود شرقية؟”. وقد جاء في تقرير لجنة اللورد موم “إن حكومة صاحب الجلالة لم تكن حرة التصرف بفلسطين دون اعتبار وغائب ومصانع سكان فلسطين”.
وفي عام 1964 كشف النقاب عن وثيقتين سريتين تؤكدان التحليل السابق،الأولى مذكرة من عشرين صفحة عن الالتزام البريطاني للحسين “أعدتها دائرة الاستخبارات السياسية في وزارة الخارجية البريطانية للوفد البريطاني إلى مؤتمر الصلح في باريس (1919)”، والثانية ملحق من اثنتي عشرة صفحة عن “التزامات حكومة جلالته السابقة في الشرق الأوسط”. وكانت الوثيقتان تخصان ويليام لين وسترمان مستشار الشؤون التركية للوفد الأمريكي إلى مؤتمر الصلح، وحفظتا بجامعة ستانفورد مع التوصية بعدم كشف ما جاء فيهما إلا بعد وفاته. وقد ورد في القسم الرابع من المذكرة: “أما فيما يتعلق بفلسطين فإن حكومة جلالته التزمت في رسالة من السير هنري مكماهون إلى الشريف حسين بتاريخ 24 تشرين الأول 1915 بضمها إلى حدود المناطق العربية”.
ومهما يكن من أمر هذه المراسلات فإن تصرفات بريطانيا أثناءها (اتفاق سايكس – بيكو)* وبعدها (وعد بلفور)* أظهرت نياتها الاستعمارية في سلخ فلسطين عن جسم الأمة العربية والتمهيد لمنحها للحركة الصهيونية لتقيم عليها دولتها.
لقد أخذ زعماء الحركة القومية العربية على الحسين انفراده في التعامل مع بريطانيا، ووثوقه الكامل بوعودها، وعدم إبرامه معاهدة صريحة مصادقاً عليها تنظم العلاقات معها. فقد إطمأن الشريف حسين إلى وعود بريطانيا فخدعته، ومكثت بوعودها له، وطمنت العرب باتفاقية سايكس – بيكو، ووعد بلفور، وما أعقبهما.
المراجع:
– فايز صايغ: وثيقتان بريطانيتان سريتان، مجلة حوار، بيروت 1934، عدد 8.
– أحمد طربين: قضية فلسطين، دمشق 1968.
– جورج أنطونيوس: يقظة العرب، (الترجمة العربية)، بيروت 1966.
– الوثائق الرئيسة لفلسطين، المجموعة الأولى، القاهرة 1957.
– Tibawi, A.L.: Anglo Arab Relation and the Question of Palestine 1914 – 1921, London, 1977.
– Tibawi, A.L: A Modern History of Syria, Lebanon and Palestine, London, 1969.
حسين باشا ابن مكي: رَ: الغزاوي (أسر -)
[1] هذه المقتطفات من الرسائل مأخوذة بنصها الحرفي كما وردت في ارسائل الأصلية دون أي تعديل أو تصحيح فيها.