لفلسطين موقع متميز عن غيره من ناحية البنية والبناء الجيولوجي يندر أن يوجد له مثيل في العالم. وتشترك في ذلك مع بلاد الشام وشبه جزيرة سيناء. ففي هذا الجزء من العالم تلاقت تكوينات وبنيات جيولوجية كثيرة، كما كان مسرحاً لحركات بنائية متباينة سببت ظهور تضاريس وكتل أرضية مختلفة على مساحات صغيرة من الأرض أهمها وأبرزها على الإطلاق الانهدام السوري – الإفريقي المعروف باسم الأخدود الانهدامي أيضاً.
إن فلسطين، وإن كانت تنتمي جغرافياً إلى قارة آسيا، هي من الناحية البنيوية والبنائية جزء من الركيزة العربية التابعة لإفريقيا والمعروفة أيضاً بالركيزة العربية – النوبية. ولا تظهر صخور هذه الركيزة القديمة والمكونة من صخور بلورية ونارية باطنية ومتجولة مختلفة إلا في أجزاء صغيرة المساحة في فلسطين لأنها مغطاه بطبقات صخرية معظمها من أصل رسوبي، وبعضها من صخور اندفاعية – بركانية أحدث عمراً من صخور الركيزة (رَ: الصخور). وترجع صخور الركيزة إلى ما قبل الكامبري في حين تعود الصخور الأحدث إلى الأحقاب الجيولوجية الأولى والثانية والثالثة والرابعة. وعلى هذا الأساس فإن أرض فلسطين مكونة من ركيزة وغطاء. وتسهيلاً لفهم الأوضاع البنوية – البنائية المعقدة ستتم دراسة كل منهما على حدة.
أ- الركيزة العربية: تظهر في فلسطين صخور الركيزة العربية المكونة من صخور بلورية ومتحولة في أقصى جنوب البلاد، في منطقة العقبة – إيلات. لكنها تتكشفت على السطح في مرتفعات الأردن المطلة على وادي عربة* وجنوب شرقي البحر الميت* بشريط مساير للانهدام السوري – الإفريقي. وفيما عدا تختفي تحت غطاء الصخور الأحدث عمراً باتجاه الشمال. ويزداد انكشافها باتجاه الجنوب خارج فلسطين على جانبي خليج العقبة* وجنوب سيناء، وعلى جانبي البحر الأحمر في الحجاز ونجد وعسير في شبه الجزيرة العربية، وفي جبال مصر الشرقية والسودان والحبشة وأرتيريا حيث تسود مساحات واسعة من الأرض. ويرجع السبب في ذلك إلى تكوين الركيزة العربية وطبيعتها المعقدة جداً. وقد اثبتت الدراسات أنها مالت نحو الشمال والشمال الغربي وانحدر سطحها في الاتجاه نفسه نحو الأعماق في حين بقيت أقسامها الجنوبية في شبه الجزيرة العربية أعلى وأقرب إلى السطح. ورافق ذلك ميل وانحدار آخران للركيزة نحو الشرق والشمال الشرقي أيضاً. ونتيجة لهذه الأوضاع كانت أطراف ونهايات الركيزة في الاتجاهين المذكورين معرضة لطغيان البحار القديمة عليها، وترسيب الصخور العائدة لأحقاب جيولوجية تالية. فاختفت الركيزة تحتها، ولم تعد تظهر على السطح في بلاد الشام وبلاد الرافدين وفيها فلسطين أيضاً. ومع تعرض الركيزة للحركات البنائية المولدة للتضاريس والمكونة للقارات أصابتها التواءات واسعة وصدوع (انكسارات) شوهت انسجامها ورتابتها الأصلية، فنشأت علوات (أماكن نهوض) ومنخفضات (وهاد) كثيرة كونت قاع البحار التي غمرتها مياهها فيما بعد. وقد اختلفت مقادير سماكة الصخور الرسوبية الأحدث بين المنخفضات والعلوات. فكانت سميكة في الأولى رقيقة قليلاً في الثانية.
ب- الغطاء الرسوبي: تعرض سطح الركيزة العربية القديمة لطغيان وانحسار مياه البحار مرات كثيرة عبر الأحقاب الجيولوجية وعلى مدى ملايين السنين. ولم يكن الطغيان والانحسار في جميع الحالات واحداً، فقد تطغى مياه بحر على كامل منطقة ما، لكنها لا تنحسر عنها كلها. وقد تطغى على بقاع هامشية دون الداخل مثلاً. كذلك كانت أعماق البحار مختلفة بين بحر وآخر، وبين داخل وأطراف، وبين عصر وآخر. فكانت النتيجة اختلاف امتداد ترسبات صخور حقبة أو عصر ما عن امتدادها وانتشارها في فترة أخرى، كما أن سماكاتها تباينت بين مكان وآخر حسب الأعماق والموارد التي رسبتها البحار والمياه القادمة من اليابسة. وعلى العموم كانت أهم البحار التي خلفت وراءها رسوبات سميكة واسعة الانتشار في بلاد الشام (وفلسطين منها) هي البحار العائدة للحقبتين الثانية والثالثة، مع وجود ظاهرة انقطاع الترسيب لصخور بعض الفترات والعصور نتيجة بقاء أقسام من اليابسة بمنجى نن طغيان بحر في فترة أو عصر ما، ثم انغمارها ببحر عصر متأخر بعده، مما كان يؤدي إلى وجود ثغرات في تسلسل الطبقات الجيولوجية والسلم الطبقي الطبيعي لها. يضاف إلى ذلك أن الصخور الرسوبة ليست جميعها من أصل بحري، فقسم من أصل قاري أو بحيري داخلي. مما زاد في تعقيد الأوضاع البنيوية في فلسطين والمناطق المحيطة بها. ومن عوامل التعقيد أيضاً عدم بقاء الأوضاع ثابتة مستقرة في هذا الجزء من الكرة الأرضية، إذ تعرضت المنطقة لحركات بنائية أدت إلى نشوء التواءات ومحدبات وخفوس ومقعرات التوائية إلى جانب تعرض الغطاء الرسوبي لحركات صدعية (انكسارية ) شوهت الوضعية الأفقية أو القريبة منها فخلعت الطبقات الصخرية وخلقت النجود والأغوار وغيرها من المظاهر المرافقة لحركات الطي والالتواء والتصدع. وفي كل هذا يجب ألا يغفل دور العوامل الخارجية كأعمال الحت والتعربة والنقل التي كانت تساهم في تطوير سطح الأرض المكشوف في أحد العصور أو إحدى الفترات الجيولوجية. وقد كان حظ فلسطين من هذه التطورات والحركات البنائية الداخلية المصدر أو الخارجية الأصل كبيراً.
ج_ الحركات البنائية والوحدات البنيوية في فلسطين:
1) الحركات: تعرض كل من الغطاء الرسوبي والركيزة في فلسطين لحركات بنائية (تكتونية) منذ مئات الملايين من السنين. وكانت كل حركة تؤثر في صخور وطبقات المنطقة تأثيراً يختلف عن تأثير الأخرى حسب مرونة وصلابة الصخور المتأثرة. فالمرنة أنتجت الطيات والالتواءات، والصلبة قدمت الانهدامات والنجود والأغوار. واختلف التأثير أيضاً حسب شدة واستمرار الحركة واتجاهها الأفقي أو الرأسي، وحسب موقع المنطقة المعرضة للحركة، إلى غير ذلك من شروط تؤثر في تكوين القارات والتضاريس بالحركات البنائية، ولما كانت فلسطين جزءاً من كلٍّ جيولوجي أكبر فإن الحركات البنائية المكونة لوحداتها البنيوية والتضريسية يجب أن تدرس مع هذا الكل الذي لا يمكن فصلها عنه.
لم يعد لنتائج الحركات البنائية القديمة جداً أي أثر ظاهر في تضاريس فلسطين الحالية لأنها اندثرت وزالت آثارها أو اختفت تحت تكوينات أحدث، ولا يشاهد اليوم إلا آثار باهتة لها في سطح أرض فلسطين. علماً بأن أرض فلسطين لم تكن مستقرة بل في طور بناء متصل عبر الأحقاب الجيولوجية الماضية وحتى اليوم. وأكبر دليل على عدم الاستقرار استمرار الزلازل* والهزات الأرضية، وكذلك حركة شبه الجزيرة العربية نحو الشمال بمعدل 2 سم سنوياً، والهبوط المستمر لقاع البحر الميت. وبالرغم من استمرار الحركات البنائية في عمر الأرض الفلسطينية فإنها تنشط في فترة وتهدأ لأمد في فترة أخرى. وكانت أواخر الحقبة الجيولوجية الثانية ومعظم الحقبة الجيولوجية الثالثة أهم فترة كونت تضاريس فلسطين، ورسمت الخطوط الأساسية لأرض فلسطين وبنيتها الحاضرة التي جاءت أعمال وحركات الحقبة الرابعة فأكملتها ووضعت عليها اللمسات الأخيرة، لتظهر بمعالمها وسواحلها وتضاريسها الحالية.
وقد وضعت فرضيات متعددة لتفسير نشأة معظم الأراضي الفلسطينية، وبشكل خاص أهم وحدة بنائية – بنيوية رسمت معالم تضاريس فلسطين، وهي وادي الانهدام، أو غور الأردن، أو الغور* اختصاراً. منها فرضية القوى الضاغطة العنيفة، ومنها فرضية الانزياح وتحرك شبه الجزيرة العربية شمالاً بانحراف عكس عقارب الساعة مع بقاء فلسطين وسيناء مستقرين، مما سبب تشقق الأرض وتعرض الصخور الرسوبية الغطائية إلى حركات متباينة، وقد أخذ معظم الباحثين يميلون إلى الأخذ بفرضية الانزياح. ومهما يكن من أمر هذه الفرضيات فإن منطقة شرقي البحر المتوسط كانت قبل فترة نشاط الحركات البنائية أواخر الحقبة الثانية وأثناء الحقبة الثالثة مؤلفة من شريط أو سلاسل من الجبال أو الهضاب الالتوائية العريضة التي تشتمل على محاور محديات ومقعرات أصغر ضمنها. وكانت هذه التكوينات التي يسودها الطابع الالتوائي تمتد من جنوب تركيا حتى فلسطين، ودعاها بعض العلماء بالأقواس السورية، وأراد نسبتها إلى الحركات والالتواءات الألبية – الطوروسية شمالي بلاد الشام. وفي أواخر الحقبة الثانية أخذت الحركات البنائية تنشط في المنطقة بأكملها، واشتدت في منتصف الحقبة الثالثة في فترة الميوسين حين بدأت حركة الانزياح الأفقي المذكورة، فتعرضت تضاريس شرقي البحر المتوسط للتشقق على طول محورها، مما أضعف المراكز الوسطى من الالتواءات المذكورة فأدى ذلك إلى هبوطها وخفسها على امتداد ما يعرف اليوم بغور الانهدام السوري -الإفريقي الذي يبدأ من منطقة مرعش في تركيا وينتهي عند نهر الزامبيزي في إفريقيا الشرقية.
تمت عملية تكوين الغور وجانبيه الفلسطيني والأردني على مراحل أهمها المرحلة الأولى في فترة الميوسين الأدنى التي دفعت الكتل الأرضية الواقعة شرقي الغور مسافة تقرب من 62 كم نحو الشمال – الشمال الغربي، أعقبتها، وبعد هدوء نسبي، المرحلة الثانية في فترة اليلايستوسين المتأخر من الحقبة الجيولوجية الرابعة، وقدرت مسافة الانزياح الأفقي بنحو 45 كم. وأصبح مجموع الانزياح الأفقي لكتلة شرق الأردن وسورية بالنسبة إلى فلسطين ولبنان ما يقارب 107كم على طول الصدع (الانكسار) الرئيس للغور. وهناك فرضيات ترى أن مقدار الانزياح هو 105 أو 70 أو 40 كم أيضاً. وحسب استجابة الكتل الأرضية للحركات البنائية ظهرت وحدات التوائية وطيات أو وحدات صدعية – انهدامية بعضها صدعي – انهدامي بحت، وبعضها التوائي صرف، وقسم كبير منها التوائي – صدعي مشترك. مع الأخذ بعين الاعتبار أن محاور الطيات الالتوائية وخطوط الصدوع متأثرة في اتجاهها وامتدادها وشدتها بالقرب من مناطق التأثر الرئيسة للحركات البنائية أو بالبعد عنها، وهي هنا في فلسطين غور الانهدام السوري – الإفريقي.
2)الوحدات البنيوية:يمكن تقسيم فلسطين إلى مجموعتين كبيرتين من الوحدات البنيوية هما:
(1) مجموعة النقب* والخليل – القدس، وتغلب عليها المحدبات والمقعرات أي الحركات الالتوائية (رَ: الخليل، جبال ) و(رَ:القدس، جبال).
(2) مجموعة الجليل والكرمل ونابلس، وتطغى عليها الصدوع والحركات الانهدامية (رَ: الجليل، جبال) و(رَ: الكرمل، جبل) و(رَ: نابلس، جبال ). إضافة إلى وحدة الغور الصدعية – الانهدامية (رَ:الغور).
ففي جنوب فلسطين (النقب – الخليل – القدس) تسود المحدبات والمقعرات والقباب الالتوائية التي رسمت معالمها النهائية في منتصف الحقبة الثالثة الجيولوجية. وتتميز التواءات النقب الجنوبي بكونها طيات صغيرة تأثرت بالكثير من الصدوع القصيرة. وتتفق محاورها مع محور وادي عربة الصدعي – الانهدامي، ويصبح شرقياً غربياً في حوض وادي جرافي* بعد ذلك، وشمالي صدوع جرافي، يبدأ النقب الأوسط حيث يظهر التواء الرمان وطيته الكبيرة ذات المحور الشمالي الشرقي – الجنوبي الغربي التي تتناثر على جناحيها طيات أصغر، وتسايرها خطوط صدوع لها المحور نفسه (رَ: الرمان، منخفض). أما في شمال النقب فتكثر الطيات (المحدبات والمقعرات ) الصغيرة والقصيرة في الشرق، وتقل في الغرب حيث تظهر وحدات الحثيرة والحظيرة المحدبة التي تتخللها مقعرات تساير المحور العام الشمالي الشرقي – الجنوبي الغربي المسيطر. وكذلك قبة الحليقات الالتوائية في الغرب. وتقل الصدوع في هذه المجموعة من الوحدات الالتوائية الصغيرة.
وبعد انقطاع يحتله مقعر (منخفض) عراد تظهر الوحدة الالتوائية الضخمة الواقعة شمال النقب، وهي محدب جبال الخليل* – القدس* حتى جنوب جبال نابلس*، وبعد هذا المحدب أكبر الوحدات البنائية في فلسطين، ويضم محدبات أصغر كمحدب الظاهرية ويطة والخليل ورام الله. وإذا أهملت الصدوع القصيرة المتجهة شرقاً – بغرب في منطقة مدينة القدس، وصدوع وادي الفارعة* في الشمال. وهي صغيرة وقصيرة أيضاً، يمكن القول إن هذه الوحدة البنيوية التوائية صرف. وتنتهي أجنحة وسفوح هذا المحدب الكبير في الغرب عند التلال* القديمة والسهل الساحلي الفلسطيني* بتموجات التوائية ضعيفة ذات محمور شمالي شرقي –جنوبي غربي مساير لمحور المحدب الأساسي. وليست هذه التموجات مؤكدة تماماً لانطمارها بترسبات ولحقبات ورمال السهل الساحلي الفلسطيني التي يزداد سمكها مع الاقتراب من الساحل.
أما المجموعة الثانية التي تقع شمال محدب الخليل – القدس وتوابعه فتحتل شمال البلاد، وتضم الأقسام الشمالية من جبال نابلس وجبل الكرمل* والمنخفض الصدعي – الانهدامي الكبير لوادي جالود* – سهل مرج ابن عامر* – سهل عكا*، وجبال الجليل*. وتكثر هنا الصدوع والانكسارات بشكل يزداد كثافة في جبال الجليل. وتأخذ خطوط الصدوع شتى الاتجاهات، لكن السائد فيها هو الاتجاه الشرقي – الغربي. وقد أدى تلاقي هذه الصدوع وتقاطعها، على الرغم من قصرها العام، إلى تخلع وتشويش وضع الطبقات الصخرية رفعاً وخفضاً، وبالتالي إلى انتشار النجود والكتل الناهضة وكثرة الخفوس والأغوار الصغيرة ذات فروق الارتفاعات المميزة لتضاريس الجليل بصورة خاصة، فظهرت كتل جبلية مطوقة من جميع أطرافها بحروف صدعية كجبل الجرمق أعلى قمة في فلسطين. وكانت حركات الصدوع عمودية وأفقية انزياحية برميات كبيرة رسمت التضاريس الحالية لجبال الجليل. ويكون جبل الكرمل وحدة بنيوية – بنائية قائمة بذاتها، فهو نجد انهدامي ناهض على امتداد محور شمالي غربي – جنوبي شرقي متفق مع المحور العام للوحدة البنيوية الهامة الأخيرة في هذه المجموعة، وهي الوادي الانهدامي الكبير لخليج وسهل عكا وسهل مرج ابن عامر ووادي جالود الواصل عملياً بين البحر المتوسط وغور الأردن عند بيسان* ويفصل هذا الوادي الانهدامي الخافس كتلة جبال الجليل في الشمال عن بقية فلسطين في الجنوب.
وأخيراً تأتي أهم وحدة بنائية – بنيوية في فلسطين، وهي وحدة غور الأردن –الميت – عربة التي تؤلف أصل بناء وبنية فلسطين الحالية وأساسها. وهي وحدة صدعية – انهدامية نصفها الغربي يدخل ضمن حدود فلسطين، وتؤلف حافات جميع تضاريس فلسطين وأطرافها من جهة الشرق. وتسقط هذه الحافات نحو أرض الغور الخافسة بجوانب شديدة الانحدار وبجروف قاسية في بعض الأقسام، مستمرة في مناطق ومتدرجة على امتداد صدوع متوازية في مناطق أخرى جميعها ذات محور شمالي – جنوبي، مع انحراف نحو الجنوب الغربي جنوبي البحر الميت.
المراجع:
– Freund, R., Garfunkel. Z., Zak, I., Goldberg, M. Weissbrot, T. and Derin, B,: The Shear along the Dead Sea Rift, London 1970.
– Picard, L.: On Afro-Arabian Graben Tectonics, Geologische Rundschau, V, 59, 1970.
– Schulman, N. and Bartov, Y.: Tectonics and Sedimentation along the Rift Valley, Excursions of the 10th International Congress on Sedimentology 1978.