توقعت(إسرائيل) أن تتوج انتصارها العسكري في حرب 1967* بانتصار سياسي فتحقق أهدافها من العدوان وتعقد اتفاقية مع العرب وفق الشروط الإسرائيلية. غير أن شيئاً من هذا لم يحدث، بل على العكس من ذلك أخذت الدول العربية المحيطة (إسرائيل)، مدعومة ومؤيدة من الدول العربية الأخرى، تسعى إلى توفير عوامل الصمود، وإعادة بناء قواتها المسلحة وتسليحها من جديد. وفي الوقت ذاته لم تغلق الدول العربية الباب في وجه الجهود السياسية الدولية الهادفة إلى إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية بالطرق السلمية.
ولم تتوازن (إسرائيل) منذ انتهاء حرب 1967 وحتى نهاية حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية في آذار 1969 عن سعيها المحموم من أجل تحسين مواقعها المحتلة، وإحباط المشروعات العربية لإعادة إنشاء القوات المسلحة وتطويرها وتسليحها استعداداً لجولة حربية أخرى، فكانت تقوم باعتداءات متتالية على الدول العربية المحيطة بها. ومن أهم هذه الاعتداءات والأحداث:
1) معركة”رأس العش” التي حاولت فيها القوات الإسرائيلية احتلال مدينة بور فؤاد، فأرسلت يوم 1/7/1967 وحدة مدرعة اصطدمت في موقع رأس العش قرب بور سعيد بحامية مصرية أصلتها ناراً حامية، وكبدتها خسائر فادحة، وردتها على أعقابها، وجعلت القوات الإسرائيلية تمنع عن تكرار المحاولة.
2) محاولة تدمير المنشآت الدفاعية المصرية التي كانت مصر تبينها على الضفة الغربية للقناة وتُصْلي منها القوات الإسرائيلية نيران المدفعية الثقيلة البعيدة المدى. وقد سخر الإسرائيليون لهذا الغرض قواتهم الجوية مع مدفعيتهم. لكن القوات المصرية تابعت أعمال التحصين وردت في الوقت ذاته على اعتداءات العدو.
3) دخول المدمرة الإسرائيلية “إيلات”* المياه الإقليمية المصرية وإغراقها بالصواريخ المصرية. وكان ذلك حدثاً مأسوياً بالنسبة إلى (إسرائيل).
4) تبادل القصف المدفعي الثقيل على جبهة الإسماعيلية والسويس. وكان الرد المصري يزداد قوة وتأثيراً بمرور الزمن لأن الأسلحة الجديدة كانت تصل اتباعاً إلى الجبهة وتأخذ مواقعها فيها. وقد تميزت الفترة من أيلول 1968 حتى آذار 1969 بارتفاع النشاط الدفاعي على الجبهة المصرية، مما زاد في خسائر العدو. وقد بلغ هذا النشاط ذروته في 8/9/1968 حين وجهت 150 بطارية مدفعية مصرية نيرانها إلى المواقع الإسرائيلية (حوالي 1000 قذيفة). وقابلت القوات الإسرائيلية ذلك بقصف مكثف لمدينتي السويس والإسماعيلية، مما أدى إلى إجلاء 400 ألف مدني مصري عن المنطقة.
5) بناء (إسرائيل) خط بارليف الدفاعي على طول الضفة الشرقية لقناة السويس (رَ: التحصينات، خطوط – الإسرائيلية). وكانت القيادة السياسية المصرية، بالتعاون مع الدول العربية والدول الصديقة، تتابع جهودها المكثفة للوصول إلى حل سلمي للمشكلة. ولكن مختلف الجهود الدبلوماسية الدولية التي بذلها طيلة عام 1968 المبعوث الدولي بارنغ اخفقت كما أخفقت محادثات الدول الأربع الكبرى في التوصل إلى تسوية سلمية على أساس قرار مجلس الأمن 242 الصادر في تشرين الثاني عام 1967. واتضحت بجلاء نيات الولايات المتحدة الأمريكية في المضي في سياسة دعم (إسرائيل) عسكرياً واقتصادياً بإعلانها عن صفقات الأسلحة إلى (إسرائيل)، وخاصة طائرات الفانتوم الخمسين بتاريخ 28/12/1968.
تابعت (إسرائيل) اعتداءاتها وتعزيز تحصينات خط بارليف، وبالمقابل تزايد نمو القدرات العسكرية المصرية بوصول الأسلحة والمعدات السوفيتية. أمام ذلك كله قررت القيادة المصرية السياسية والعسكرية البدء بتطبيق استراتيجية عسكرية أكثر إيجابية تتفق مع ظروف توازن القوى القائم وقتئذ. وقد عرفت في بادىء الأمر باسم استراتنيجية “الدفاع الوقائي” ثم سميت “حرب الاستنزاف” عندما اتسع نطاقها.
في الساعة 17.40 من يوم 8/3/1969 بدأت المدفعية المصرية تقصف قصفاً عنيفاً وكثيفاً جداً مواقع وتحصينات خط بارليف بكاملها. ولم يتمكن الطيران الإسرائيلي من التدخل إذ سرعان ما خيم الظلام وقد أعلن الرئيس جمال عبد الناصر* في اليوم ذاته بدء مرحلة جديدة من الصراع العربي – الإسرائيلي هي مرحلة الاستنزاف. وقد أوجز الفريق عبد المنعم رياض* رئيس هيئة الأركان المصرية أهداف هذه المرحلة في التالي:
1) تدمير تحصينات خط بارليف، ومنع الإسرائيليين من إعادة بنائها.
2) جعل الحياة مستحيلة للقوات الإسرائيلية على الضفة الشرقية للقناة.
3) زرع الروح الهجومية وذكاؤها في قلوب الجنود المصريين.
4) تعويد القوات المصرية على عمليات عبور القناة والعمل خلف الخطوط المعادية.
وهكذا كان يوم 8 آذار بدء مرحلة دامت 80 يوماً من القصف المستمر المتبادل والعمليات المحدودة، وقد اشتركت فيها جميع أنواع الأسلحة لدى الطرفين.
وفي اليوم التالي من بدء حرب الاستنزاف، وبينما كان الفريق عبد المنعم رياض مع مجموعة من ضباطه قرب الإسماعيلية يراقب سير المعركة، سقطت بعض قنابل المدفعية الإسرائيلية قربه فاستشهد في ساحة المعركة، فتولى الفريق أحمد إسماعيل على رئاسة هيئة الأركان.
نفذ المصريون خلال شهري آذار ونيسان 1969 رمايات سد مدفعي على طول خط بارليف بشكل شبه مستمر مكبدين العدو خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات، بالإضافة إلى تعرض التحصينات إلى تدمير جزئي. وفي منتصف شهر نيسان طور المصريون عملياتهم، إذ قامت وحدات المغاوير بعدة إغارات عبر القناة، هاجمت تحصينات خط بارليف والدوريات المعادية العاملة بينها وقوافل الإمداد والتموين والقواعد الخلفية الإسرائيلية. مما اضطر القيادة الإسرائيلية إلى زيادة حجم القوات الموجودة في هذه التحصينات، ونشر لواءين مدرعين، بالإضافة إلى حشد لواء ثالث مدرع كاحتياط قريب، ولواء رابع جاهز لتعزيز المواقع الأمامية المحصنة إذا تعرضت لهجوم مصري.
وعلى الرغم من ذلك قامت وحدة مغاوير مصرية تقدر بقوة سرية كاملة بهجوم مفاجىء ناجح في وضع النهار على وحدة مدرعة إسرائيلية موجودة في مواجهة بوز توفيق وكبدت العدو خسائر كبيرة أثارت قلق الحكومة الإسرائيلية فوافقت على اقتراح رئيس الأركان بزج القوات الجوية الإسرائيلية في المعركة.
شعرت القيادة الإسرائيلية أن العمليات العسكرية المصرية، سواء منها القصف المدفعي الفعال أو العمليات الهجومية المحدودة التي تنفذها وحدات المغاوير المصرية، قد بدأت تؤثر على معنويات جنودها وعلى سكان (إسرائيل) فقررت القيام ببعض العمليات المعاكسة. ففي ليلة 19-20 تموز هاجمت وحدة مغاوير إسرائيلية محملة على زوارق إنزال موقعاً مصرياً للرادار في الجزيرة الخضراء في خليج السويس. وقد تمكنت من مفاجأة عناصر الموقع، ومن تدمير أجهزة الرادار والأسلحة المضادة للطائرات القريبة منه، وعادت إلى قاعدتها بعد أن فقدت ستة قتلى. ومن الجدير بالذكر أن قائد الموقع المصري عندما شعر بعجز رجاله القلائل عن التصدي لقوة الهجوم طلب لاسلكياً من المدفعية المصرية قصف موقعه نفسه لإحباط الهجوم، رغم معرفته أن ذلك قد يؤدي إلى استشهاده.
بعد أن وافقت الحكومة الإسرائيلية على زج القوات الجوية في المعركة بدأت الطائرات الإسرائيلية منذ يوم 20/7/1969 بسلسلة من الغارات استمرت عشرة أيام متواصلة، مركزة على مرابص المدفعية وقواعد الصواريخ المضادة للطائرات على الضفة الغربية لقناة السويس. وكانت تلك هي المرة الأولى التي يستخدم فيها السلاح الجوي الإسرائيلي بكثافة بعد عدوان حزيران. ثم نفذ الإسرائيليون عملية ثانية، إذ أغرق الضفادع البشريون زورقي طوربيد مصريين في خليج السويس. وفي صباح 9/9/1969 انتقلت قوة إسرائيلية مؤلفة من مئات من الرجال تعززها دبابات وناقلات مدرعة سوفيتية تم الاستيلاء عليها خلال عدوان حزيران، انتقلت بزوارق إنزال إلى موقع جنوبي الحفاير، على الشاطىء الغربي لخليج السويس، ومن ثم تحركت على الطريق الساحلي وتمكنت من مفاجأة وتدمير عدد من مواقع الرادار المصرية المحضرة وقواعد الصواريخ الخالية بالاضافة إلى عدد من عربات النقل. وكانت الطائرات الإسرائيلية في الوقت نفسه تشترك في هذه العملية فقصفت الحفاير والمواقع المصرية في رأس زعفرانة وحولها، بالإضافة إلى القوافل المتحركة من مدينة السويس وإليها. على أثر ذلك أصدر الرئيس جمال عبد الناصر تعليماته بإعفاء الفريق أحمد إسماعيل علي من منصبه.
تتابعت وكثرت عمليات العبور المصرية من مختلف قطاعات الجبهة، وكانت عمليتان أو ثلاث تتم أحياناً في ليلة واحدة. وازدادت جرأة أهدافها وعمق مسافاتها حتى بلغت أحياناً نحو خمسة كيلومترات شرقي القناة. هذا بالإضافة إلى تعدد نوعية القوات المشتركة فيها وتعاظم حجمها من وحدة صغيرة إلى سرية ثم إلى سريتين. ففي يوم 6/11/1969 احتل المصريون بقوى سريتين رأس جسر عبر الضفة الشرقية للقناة في منطقة البلاح ومكثوا فيه 24 ساعة.
قامت القوات الإسرائيلية، في إطار الرد على هذه العمليات، بعدة عمليات انتقامية كان أخطرها العملية التي تمت ليلة 26/11/1969 قرب رأس غارب، إذ نجحت الوحدة المغيرة بنقل جهاز رادار مصري إلى سيناء المحتلة بالحوامات الضخمة. وفي 22/1/1970 هاجمت قوة من المظليين الإسرائيليين جزيرة شدوان الواقعة عند مدخل خليج السويس على بعد 20 كم جنوبي غرب شرم الشيخ مستخدمة الحوامات في النزول على القسم المرتفع شمالي الجزيرة، بعد أن مهد لها بقصف جوي كثيف لمواقع الحامية الصغيرة المدافعة عنها، ودار قتال عنيف جنوبي الجزيرة حيث تتمركز الوحدة المصرية حول المنارة ومحطة الرادار البحري، واستخدمت في القتال الأسلحة الفردية والسلاح الأبيض والقنابل اليدوية. وقد تكبد الطرفان خسائر كبيرة.
لم تكتف القيادة المصرية بعمليات القصف المدفعي وعبور الوحدات الخاصة ووحدات المشاة لقناة السويس ومهاجمة القوات الإسرائيلية داخل مواقعها المحصنة، بل قامت بتنفيذ عمليات كثيرة ناجحة وجريئة في عمق سيناء المحتلة ضد أهداف معادية مختلفة. فقد هاجمت وحدة من المظليين المصريين محمولة بالحوامات قبيل فجر يوم 28/9/1969 مركزاً إدارياً للعدو في منطقة مصفق الواقعة على مسافة 85 كم من قناة السويس على طريق سيناء الشمالي الممتد من القنطرة إلى العريش ورفح* كما قامت قوة أخرى من المغاوير البحريين بمهاجمة المواقع الإسرائيلية في منطقة رأس مطارقة – رأس ملعب على الساحل الشرقي لخليج السويس بالصواريخ، وتعرض ميناء إيلات* الإسرائيلي لعدة هجمات مصرية قامت بها وحدات الضفادع البشرية التي نقلت إلى هناك بالحوامات وتمكنت من إغراق بعض السفن الإسرائيلية.
وفي الوقت نفسه كانت هناك تشكيلات فدائية خاصة تعمل بشكل دائم داخل سيناء المحتلة، وعرفت باسم “منظمة سيناء العربية”* وكانت تغزو القوافل، وتزرع الألغام، وتهاجم بعض مراكز القيادة بنيران الهاونات وصواريخ الكاتيوشا.
وقفت القيادة الإسرائيلية عاجزة عن إيقاف عمليات الاستنزاف المصرية بالطرق التقليدية فقررت دفع القوات الجوية للعمل بشكل هجومي مباشر. وبدأت أولى العمليات الجوية المنتظمة يوم 20/7/1969 بغارة على بورسعيد استهدفت بطارية صواريخ “سام2” مضادة للطائرات وغيرها من الأهداف. وقد خسرت (إسرائيل) في هذه الغارة إحدى طائراتها. ثم توالت الغارات الجوية المعادية على الجبهة المصرية، وخاصة على مواقع بطاريات الصواريخ والمدافع المضادة للطائرات ومحطات الرادار. فرد الطيران المصري بقصف قواعد صواريخ “هوك” الإسرائيلية المضادة للطائرات وغيرها من مواقع العدو. وقد وصلت هذه الغارات حتى العريش، واشتركت في بعض الغارات أربعون طائرة من أنواع مختلفة.
دارت طوال أشهر تموز وآب وأيلول 1969 معارك جوية كثيرة. وكلما دمرت الطائرات الإسرائيلية قاعدة صاروخية أسرع المصريون إلى تركيب غيرها، فبدا واضحاً للإسرائيليين أن غاراتهم المركزة على الجبهة لم تضعف إرادة القيادة المصرية الاستمرار في خوض معارك حرب الاستنزاف، لذلك بدأوا يفكرون بنقل عملياتهم إلى عمق مصر وإلى الأهداف المدنية، خاصة بعد وصول طائرات الفانتوم الأمريكية المتطورة. وقد نفذوا ذلك في شهر كانون الثاني من عام 1970 حين قامت القوات الجوية الإسرائيلية بسلسلة من الغارات في عمق الأراضي المصرية ضد أهداف مدنية وعسكرية، فهاجمت في اليوم السابع من الشهر نفسه مستودعات القوات الجوية المصرية قرب أنشاص وحلوان، ولكنها فشلت في تحقيق أية إصابة جدية لهذه المستودعات. وفي 12/2/1970 صعد الإسرائيليون الموقف بقصفهم مصنع الحديد والصلب في أبو زعبل أثناء عملية تبادل مجموعات العمل في الساعة الثامنة صباحاً، وقد أدى ذلك إلى استشهاد 70 عاملاً مدنياً وجرح الكثيرين. وبعد بضعة أيام، وبينما كانت أصوات الاستنكار ترتفع ضد الغارات على العمال المدنيين خلافاً للاتفاقيات الدولية الخاصة بعدم جواز التعرض للأهداف المدنية والسكان العزل، شنت الطائرات الإسرائيلية غارة وحشية على مدرسة بحر البقر الابتدائية مسببة ضحايا كثيرين من الأطفال الأبرياء. ولم تجد (إسرائيل) عذراً لتبرير هذا العمل الوحشي سوى الادعاء بأن ذلك قد تم نتيجة خطأ ارتكبه الطيار.
إلى جانب سعي (إسرائيل) لإضعاف الروح المعنوية للشعب المصري وقيادته ظل هدف الغارات الجوية الإسرائيلية الأساسي تدمير قواعد صواريخ سام 2 المضادة للطائرات، وفي تلك الأثناء كانت المعدات السوفيتية تصل إلى مصر وفيها الصواريخ المتطورة سام 3 وطائرات الميغ 21. فبدأت الطائرات الإسرائيلية المغيرة تسقط الواحدة تلو الأخرى بعد أن نجحت مصر في إقامة شبكة مضادة للطائرات تغطي العمق المصري.
وقعت آخر غارات العمق الإسرائيلية في 13/4/1970، ثم ساد الهدوء المنطقة زمناً. وعندما حاولت طائرتا فانتوم إسرائيليتان التوغل في عمق مصر أسقطتا فوراً. وشهد شهر تموز 1970 كارثة لسلاح الجو الإسرائيلي، إذ خسر عشرين طائرة. وكان نظام الدفاع الجوي المصري قد تكامل تقريباً، وتكون من بطاريات الصواريخ سام 2 للارتفاعات العالية، وبطاريات سام 3 للارتفاعات المنخفضة. وتمت حماية هذه القواعد بشبكة واسعة من الرادارات، وبأكثر من ألف مدفع مضاد للطائرات، وبنحو 600 صاروخ خفيف مضاد للطائرات من نوع سام 7. وضم هذا النظام أيضاً حوالي 100 طائرة ميغ 21. وقد نجح المصريون في إقامة قواعد الصواريخ والرادارات في ظروف قاسية جداً تحت القصف المدفعي والجوي المعادي. وقدموا في سبيل ذلك مئات الضحايا من العسكريين والمدنيين العاملين في إنشاء هذه القواعد.
وفي 8/8/ 1970 قبلت مصر و(إسرائيل) التوقف عن إطلاق النار نتيجة المساعي التي قام بها وزير الخارجية الأمريكية وليم روجرز (رَ: روجرز، مشروع). ثم ادّعت (إسرائيل) أن القوات المصرية خرقت اتفاق وقف إطلاق النار بتقديمها القواعد الصاروخية نحو القناة، ولكنها لم تقم بأي رد فعل عسكري، بل استغلت الموقف للحصول على عدد جديد من الطائرات الأمريكية، وأسرعت إلى زيادة تحصين مواقع خط بارليف.
وهكذا انتهت حرب الاستنزاف المصرية التي استمرت من 8/3/1969 حتى يوم 7/8/1970. وتعد أهم المراحل التي سبقت حرب 1973*.
وقد بلغت معظم أهدافها، رغم أنها كلفت مصر ثمناً غالياً، إذ فسحت المجال للاختيار العملي لمختلف أنواع الأسلحة التي تلقتها الوحدات المصرية، وعززت الروح الهجومية في قلوب المقاتلين المصريين، وكشفت للعالم المقدرة الفعلية للجيش الإسرائيلي “الذي لا يقهر” على حد زعم الصهيونيين. وقد تدربت الوحدات المصرية من جهة على عبور القناة والتوغل في سيناء. وأجبرت (إسرائيل)، من جهة أخرى، على الاحتفاظ بعدد أكبر من الرجال في الخدمة، وبالتالي أثرت على قدرتها الاقتصادية، واضطرتها إلى إنفاق المبالغ الطائلة على تحصين وإعادة ترميم خط بارليف.
الناحية الأخرى التي برزت في حرب الاستنزاف هي كونها أولى حروب المنطقة التي لعبت الوسائط الالكترونية فيها دوراً بارزاً، وشهدت مبارزة حامية بين الوسائل الالكترونية والوسائل المضادة لها. فقد زودت الولايات المتحدة الأمريكية الطائرات التي قدمتها (لإسرائيل) بأجهزة إلكترونية خاصة تنذر الطيار عند انطلاق الصواريخ، وبذلك تتيح له فرصة المناورة والهرب منها، كما زودتها بمعدات أخرى للتشويش على الرادارات الموجهة للصواريخ. وقد استفادت الولايات المتحدة من المعرفة التي اكتسبتها في فيتنام عن خصائص الصورايخ سام 2 لاختيار الأجهزة الإلكترونية المضادة المناسبة، مما ساعد (إسرائيل) وأتاح لها الاحتفاظ بسيطرتها الجوية على ساحة المعركة وعمق مصر خلال المرحلة الأولى من حرب الاستنزاف، وتمكنت من تدمير عدد كبير من قواعد الصواريخ المصرية.
ولما بدأ الاتحاد السوفييتي يزود مصر بصوارخ سام 3 الأكثر فعالية والقادرة على التعامل مع الطائرات المحلقة على ارتفاعات منخفضة والمزودة بأجهزة توجيه رادارية وإلكترونية متطورة يصعب التشويش عليها رجحت كفة الجانب العربي المصري في هذه الحرب الإلكترونية، وحد من عمل طائرات الفانتوم، وتوقفت غارات العمق بانتظار الحصول على أجهزة إلكترونية أميركية قادرة على التصدي للصواريخ الجديدة. وبهذا كانت حرب الاستنزاف، عملياً، حقلاً لتجارب الدول الكبرى لاختيار أحدث الأسلحة لديها، وتطوير أجهزتها الإلكترونية تبعاً للدروس المستفادة من المعارك الدائرة يومياً ولخصائص الوسائط المتوفرة لدى الطرف الآخر.
ولا بد من القول أخيراً إن حرب الاستنزاف كانت مرحلة تدريب واختبار للقوات المصرية وإعدادها للمعركة المقبلة، فكانت الأساس الذي انطلقت منه إلى حرب تشرين.
المراجع:
– حسن البدري وطه المجذوب وضياء الدين زهدي: حرب رمضان، القاهرة.
– المؤسسة العربية للدراسات والنشر: الموسوعة العسكرية، المجلد الأول، بيروت.