عمدت (إسرائيل)، رغم مواقفها على قرار مجلس الأمن رقم 338 تاريخ 12/10/1973 وقف إطلاق النار (رَ: حرب 1973 في الأمم المتحدة)، عمدت إلى تحسين موقفها العسكري لتنطلق من موقع القوة في المفاوضات السياسية المحتملة، فقامت قواتها بتجاوز خطوط وقف إطلاق النار على الجبهة المصرية، في حين اكتفت على الجبهة السورية بزيادة تحصين مواقعها. وكان ذلك كله خلافاً لأحكام وقف إطلاق النار مما أدى إلى قيام القوات السورية بالتصدي لهذه المحاولات. وبقيت أعمال العدو الإسرائيلي في تلك الفترة محدودة، كذلك ظل الرد عليها محدوداً، أي أن العمليات في تلك الفترة اتصفت بردود عسكرية سورية على تجاوزات إسرائيلية ضمن إطار محلي محدود دون ارتباط بمخطط عام، إذ رغبت القيادة السورية في تأمين الجو الملائم لمجلس الأمن لتنفيذ قراره 338.
ولكن بعد أن تم التوقيع على اتفاقية فصل القوات بين مصر و(إسرائيل)*، وبعد أن تم تجميد الجبهة الجنوبية عسكرياً وسياسياً، بدا أن (إسرائيل) استعادت حرية المناورة على الجبهة الشمالية، فكثرت تصريحات المسؤولين الإسرائيليين حول أهمية الجولان* الاستراتيجية بالنسبة إلى (إسرائيل)، وأن أقصى ما يمكن (لإسرائيل) القبول به، ضمن إطار اتفاقية لفصل القوات مع سورية، هو العودة إلى خطوط ما قبل السادس من تشرين الأول 1973، على أن توضع المنطقة التي احتلتها القوات الإسرائيلية بعد ذلك تحت إشراف قوات الأمم المتحدة.
من ناحية أخرى بدا واضحاً أن الولايات المتحدة الأمريكية، رغم تظاهرها بالقيام بدور الوسيط، ما زالت مستمرة في انحيازها إلى العدو الصهيوني وماضيه في دعمه عسكرياً في الوقت الذي يناور فيه وزير خارجيتها من أجل تمييع القضية وكسب الوقت لتحقيق الشرخ السياسي في المعسكر العربي وتعميقه. فكان لا بد من أن تقوّم القيادة السياسية السورية الأوضاع، وتعمل على استعادة زمام المبادرة، فلا تكفي بردود الفعل السياسية أو العسكرية. لذا قررت ألا ترفض عملية التفاوض السياسي، وفي الوقت نفسه أن تؤكد، عسكرياً، النتائج التي ظهرت في حرب 1973*.
في إطار هذا القرار بدأت القيادة السورية حرب الاستنزاف في هضبة الجولان ابتداء من 12/3/1974 واستمرت بها قرابة ثلاثة أشهر (82 يوماً) حتى تم الاتفاق على فصل القوات.
وكانت حرب الاستنزاف هذه نوعاً من الضغط العنيف خلال فترة الإعداد للمباحثات وأثناء إجرائها. وشمل القتال الجبهة السورية كلها وفق مخطط مدروس ومعد مسبقاً. وكانت أدلته الأساسية المبارزة بالنيران، مع استخدام الإغارات والكمائن والهجمات المحدودة بالقوات المحمولة جواً، ومع إسهام القوات الجوية في القتال.
اعتقد الإسرائيليون في البدء أن الرمايات السورية ليست سوى استمرار للرمايات السابقة المحدودة الهدف والمدى، وأن سورية سرعان ما ستضطر إلى التخلي عن مثل هذه الأعمال. لذلك لم يلاحظ أي تبدل على الأسلوب الإسرائيلي المتعنت في المحافظات التي أجراها وزير الخارجية الإسرائيلية آبا إيبان في واشنطن مع وزير الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر في الأسبوع الثاني من شهر آذار 1974. ولكن استمرار إطلاق النار، وبشكل منسق ومخطط، أظهر الحقيقة (لإسرائيل) وأمريكا. ومنذ ذلك الحين أصبحت مسألة فصل القوات في الجولان من أهم مشاغل الخارجية الأمريكية، وتخلت هي و(إسرائيل) عن سياسة المماطلة الهادفة إلى استمرار الوضع القائم.
بقيت المبادرة خلال هذه الحرب بيد القيادة السورية التي كانت تنتقل من تصعيد إلى آخر حسب مقتضيات الموقف. في حين خضعت القوات الإسرائيلية للأساليب القتالية التي فرضها السوريون دون أن تستطيع تجاوزها إلى مستوى الحرب الشاملة الصاعقة القصيرة التي تتلاءم مع عقيدتها العسكرية والتكوين المادي والنفسي لرجالها، لأن الظروف الدولية والجروح العميقة التي تركتها حرب تشرين في المجتمع الإسرائيلي جعلت العدو الصهيوني يتخلى عن مبدأ هام من مبادئه القتالية، واقتصر رد فعله ما يفرضه السوريون من أساليب. كما لم تستطع القوات الجوية الإسرائيلية العمل بحرية بسبب قدرة الدفاع الجوي السوري على الردع وتقييده حرية مناوراتها.
وهكذا لم يكن (لإسرائيل) خلال حرب الاستنزاف هدف استراتيجي إيجابي، بل اقتصرت على هدف سلبي هو محاولة منع سورية من تحقيق أغراضها.
كان لسورية، بالمقابل، هدف استراتيجي واضح هو كسر الجمود، والضغط على العدو بعمل عسكري يضمن لها تحقيق النتائج التالية:
1) إلحاق الخسائر المادية والبشرية بقوات العدو يومياً حتى يؤدي تراكم الخسائر الكمي إلى نتائج نوعية على الصعيدين المادي والمعنوي.
2) خلق حالة انعدام الأمن للقوات المعادية الموجودة في المواقع المحتلة، سواء داخل “جيب سعسع” أو في مستعمرات الجولان نفسها، وإفهامها بشكل ملموس أن بقاءها في المنطقة يهدد حياتها.
3) تثبيت عدم قبول سورية للوضع الراهن، وتمسكها بمبدأ استعادة الأرض العربية المحتلة.
4) منع العدو من تحصين مواقعه أو تحسين خطوطه القتالية داخل الجيب، وتدمير وحداته الهندسية التي تحاول إنشاء التحصينات أو إعداد الموقع، مما يجعل القوات الإسرائيلية المحشورة داخل الجيب مكشوفة معرضة للضربات.
5) إجبار (إسرائيل) على إبقاء جيشها العامل (النظامي والاحتياطي) في وضع التعبئة المستمرة، وإجبار جزء من قوى الاحتياط الاستراتيجي على البقاء تحت السلاح لتأمين التوازن الاستراتيجي في الجولان مقابل القوات السورية المحتشدة والمستعدة للانتقال من الدفاع إلى الهجوم دون إعداد مسبق.
6) السيطرة على قمم جبل الشيخ لتحسين الوضع الاستراتيجي للترتيب القتالي السوري.
اقتصرت العمليات العسكرية خلال شهر آذار 1974 على قصف مدفعي يومي ومستمر للمواقع العسكرية الإسرائيلية داخل الجيب المحتل، واستهدفت ضرب أي رتل آلي يتحرك على المحاور بهدف منع القيادة الإسرائيلية من حرية المناورة، وإجبارها على حشد أكبر حجم تمكن من القوات والوسائط في المواقع الراهنة، وقصفها بصورة مستمرة حتى يشكل وجودها داخل الجيب عبئاً ثقيلاً على القيادة الإسرائيلية بسبب كثرة الخسائر البشرية.
وقد اثبتت المدفعية السورية مهارة غالية في دقة الرماية، وفي سرعة المناورة بالنيران وبالمدافع لتجنب رمايات معاكسة من البطاريات المعادية. واشتركت وحدات مدرعة كاملة في تلك الفترة برمايات مركزة حققت نتائج جيدة في مجال تدمير التحصينات الإسمنتية الإسرائيلية، مما أكتسب القوات السورية خبرات ثمينة في فن السيطرة على النيران، والمناورة بها، حسن توزيعها تبعاً لفعاليتها على الأهداف المختلفة. وقد أدت كثافة النيران واستمرارها إلى إجبار القوات الإسرائيلية على الاختفاء المستمر داخل الملاجىء مع ما يؤدي إليه ذلك من تأثير على معنوياتها، بالإضافة إلى الخسائر المادية والبشرية التي تتكبدها.
من جهة أخرى أدى استمرار الاشتباكات إلى تعاظم التاييد العربي والعالمي لسورية لأنها تعمل على الوصول إلى حق اعترفت به مختلف الدول في إطار الأمم المتحدة، وإلى تعنت (إسرائيل) وتهربها من الالتزام بمضمون قرار مجلس الأمن الذي سبق أن وافقت عليه.
ثم إن إقدام القوات السورية منفردة على التصدي للعدوان الإسرائيلي وتحقيق نتائج ملموسة استقطب مشاعر الشعب العربي في أنحاء الوطن العربي كلها فصار يطالب بدعم سورية بكل الإمكانات المتوفرة، وعلى مختلف الأصعدة. وقد دفع ذلك الولايات المتحدة إلى التصميم على إنجاز اتفاق فصل القوات بأسرع وقت ممكن، قبل أن يؤدي هذا الموقف إلى فرض حظر أشد على النفط، ووضع القوات المسلحة المصرية في موقف تضطر معه إلى التدخل رغم اتفاقية سيناء الأولى.
استمرت القوات السورية في تنفيذ خطة حرب الاستنزاف، وشهد شهر نيسان 1974 تصاعداً في حدة الاشتباكات وتطورها إلى معارك فعلية مباشرة بين القوات الجانبين بعد أن اقتصرت خلال شهر آذار على المبارزة بنيران المدفعية والدبابات. ففي مطلع نيسان جرى صراع دموي بين القوات السورية والإسرائيلية من أجل السيطرة على قمم جبل الشيخ، وخاصة المرتفع 2814 الذي يشرف على معظم أنحاء المنطقة الجنوبية من سورية ولبنان والجزء الشمالي من فلسطين المحتلة. وقد تبادل الطرفان السيطرة على هذا المرتفع مرات عديدة خاضت خلالها القوات السورية معارك ضارية في ظروف مناخية وطبوغرافية بالغة الصعوبة والتعقيد، إذ كانت الثلوج الكثيفة تكسو ميدان المعركة، ودرجات الحرارة أدنى من الصفر وبخاصة في الليل، وكانت هناك صعوبة كبيرة في إيصال الدعم والإمدادات للقوات المشتبكة بسبب فقدان الطرق نحو القمم، مما كان يتطلب الاستفادة من الرواحل والسير على الأقدام. وقد استخدمت الحوامات بكثرة، ولا سيما في فترات الاشتباكات، حين كان الموقف يتطلب سرعة الإمداد بالعناد والذخائر. ولكنها كثيراً ما كانت تصادف صعوبات كبيرة في الهبوط بسبب الأحوال الجوية والضباب الكثيف ونيران المدفعية المضادة.
أمام هذا التحدي الكبير الذي واجه القيادة السورية كان لا بد لها من اتخاذ إجراءات سريعة وفعالة لتأمين عمل قواتها رغم جميع الصعوبات. فقامت بشق طريق بري صاعد نحو قمة الجبل. وقد أثبتت وحدات المهندسين العسكريين مقدرتها الفنية وحسن تخطيطها للأعمال المختلفة في ظروف القصف الجوي المعادي وصعوبة العمل في المناطق الجبلية. كما جرى تمديد الخطوط الهاتفية لتأمين إدارة العمليات الجارية في القمة وتنسيقها مع العمليات الأخرى، وأنشئت قواعد خزنت فيها مختلف المواد المعيشية والقتالية مما سهل عملية الإمداد. وبالإضافة إلى ذلك حصنت المواقع في الجبل نفسه، وأنشئت مراصد محصنة نيران المدفعية البعيدة المدى، مما زاد في دقة رماياتها. ووعي أن تكون المواقع والمراصد قادرة على تحمل القصف الجوي والمدفعي المعادي.
ومع تصاعد حدة القتال على محور جبل الشيخ الذي أصبح المحور الرئيس للعمليات دفعت القيادة السورية لواء كاملاً من المنشأة للعمل بالتعاون مع عناصر الوحدات الخاصة. وقد نفذت هذه الوحدات مهمتها في الدفاع عن المحور المذكور بنجاح حتى نهاية حرب الاستنزاف.
تميزت معارك حرب الاستنزاف خلال شهر نيسان 1974 أيضاً باستخدام (إسرائيل) أعتده أمريكية جديدة في نطاق قواتها الجوية، كالقنابل الحرارية التي ينجم عن انفجارها في الجو حرارة عالية تجذب نحوها الصواريخ المضادة للطائرات الموجهة حرارياً. كما استخدمت الصواريخ جو – أرض الملقبة بالذكية والموجهة تلفزيونياً. ورغم ذلك لم تتمكن الطائرات المعادية من تحقيق نتائج ملموسة بسبب اعتراض الطائرات السورية لها، وبسبب جودة التحصين الهندسي الذي أقامته وحدات المهندسين العسكريين السورية، هذا بالإضافة إلى وسائط الدفاع الجوي التي لم تقل فعاليتها خلال حرب الاستنزاف عنها في حرب تشرين نفسها. وقد دارت أعنف المعارك الجوية في يوم 19/4/1974 واشتركت فيها مجموعات كبيرة من الطائرات السورية والإسرائيلية.
وفي الوقت الذي كانت فيه المعارك تدور على قمم جبل الشيخ، والاشتباكات الجوية تشتد، استمر القصف المدفعي على طوال الجبهة، مما أدى إلى منع العدو منعا كلياً من القيام بأية أعمال هندسية. كما كانت المفارز العاملة خلف الخطوط المعادية تزيد من إنهاك القوات المعادية بمهاجمة المواقع ليلاً ونسفها، أو بنصب الكمائن لمنع أي تحرك ليلي على الطرق.
مع بداية شهر أيار 1974 صعدت القوات السورية عملياتها نوعياً إذ أخذت وحدات النسق الأول من الجبهة السورية تشن غارات ليلية على المواقع الأمامية المعادية. وكان أهمها الإغارة التي نفذتها إحدى الوحدات الخاصة يوم 2/5/1974 على الموقع المعادي في المرتفع 2500 في جبل الشيخ. الذي كانت تحتله وحدة مدرعة إسرائيلية. فقد تمكنت الوحدة المهاجمة من الاقتراب حتى مسافة 25م من العدو دون أن يلحظها، ثم انقضت عليه وهو داخل دباباته ونفذت مهمتها كاملة خلال دقائق معدودات، وعادت ومعها ثلاثة أسرى بعد أن قضت على عناصر الموقع البالغ عددهم اثنين وعشرين عسكرياً.
تميزت الأعمال القتالية خلال هذا الشهر بقيام القوات الجوية السورية بقصف مواقع العدو بعد إبطال وسائط دفاعه الجوي بالمدفعية. وقد شنت أربع غارات جوية على المواقع المعادية. كما تصدت يوم 27/5/1974 للطائرات الإسرائيلية التي كانت تقصف مواقع الفدائيين الفلسطينيين في الأراضي اللبنانية.
أدت هذه العمليات إلى تحقيق الأهداف التي وضعتها القيادة السورية لحرب الاستنزاف، ووجدت (إسرائيل) نفسها مضطرة إلى التخلي عن تعنتها لأنها لم تتعود تكبد خسائر بشرية كبيرة، مما أثر على وضعها الداخلي، خاصة أنها لمست تصميم القيادة السورية على الاستمرار في هذه الحرب حتى تحقيق أهدافها الموضوعة لها. وقد شوهدت كتابات كثيرة على جدران المواقع التي أخذتها القوات الإسرائيلية تدل على مدى تدني الروح المعنوية لدى جنود العدو.
وفي نهاية شهر أيار 1974 توقفت الأعمال القتالية بعد التوصل إلى اتفاق لفصل القوات انسحب العدو بموجبه من الجيب المحتل وأخلى مدينة القنيطرة وأجزاء أخرى من الأراضي المحتلة في عام 1967. ولم يكن الوصول إلى هذا الاتفاق ممكناً لولا الأعمال البطولية والتضحيات التي قدمتها القوات المسلحة السورية.
كانت حرب الاستنزاف وسيلة ضغط عنيف لتحقيق هدف سياسي، وقد بلغت هذه الحرب هدفها بنجاح. يضاف إلى ذلك أن هذه الحرب أكسبت القوات السورية خبرة قتالية جيدة.