تنبثق الأغنية الشعبية عند الأمم من أصل واحد ذي موضوع مشترك يصور البيئة والحالة النفسية والعادات الملازمة لتلك الشعوب. وهذا يصدق على الأغاني الشعبية في فلسطين، فهي أغان قطرية لا أثر فيها لصنعة متعندة ارتجلها فرد مجهول من أفراد الشعب بطريقة بدائية لا كلفة فيها ولا “تكتيك”، وتناقلها الأبناء والبنات عن أمهاتهن. وترافق هذه الأغنيات صور واضحة عن العادات والخرافات والمعتقدات التي تحرص عليها تلك الشعوب.
وبالرغم من الاختلاف الفني والنظري بين أنواع موسيقى الشعوب، وبالرغم من التفاوت في مواهبها وعزلتها، أو استقلالها، فهناك قاسم مشترك يجمع بينهما، وما ذلك سوى أداء الأغاني الشعبية، إذ يقوم الرجال والنساء والأطفال مجتمعين أو منفردين بتقديمها بشكل ساذج محرر من كل قيد، كالخروج عن اللحن المعروف، أو الرغبة في التهليل أو الزغاريد. فليس هناك فنان وجمهور بالمعنى المألوف، والجمهور هو الفنان.
وقد شعر العالم الغربي بأهمية التراث الموسيقى وحفظه فشرع الإنكليز في أوائل القرن التاسع عشر بجمع منظم منسق للموسيقى الشعبية، وكانت دراسة التراث تبعاً لعلم الآثار، ولكن ظهور الرومانسية الأوروبية والروح القومية خصتا الفنون الشعبية Folklore بدراسة خاصة.
وكان من سوء حظ فلسطين أن أخرت النكبة وتشريد سكانها، منذ ثلاثين سنة عملية جمع الفنون الشعبية ودراستها، علماً بأن النكبة ونتائجها المباشرة زادت وتزيد أهمية عملية جمع التراث المذكور والفائدة التي لا بد أن تجنى من دراسة الفنون ونشرها.
وقد جاء في كتاب “تطوير الفن الموسيقي” لشارلز بري Charles Perry “أن الموسيقى الشعبية تختلف عند الشعوب باختلاف طبائعها ونفسيتها وتقاليدها وحالتها الاجتماعية وحياتها المعيشية”. وقد رسم المؤلف اللوحة التالية:
موسيقى قاتمة = لشعب كئيب عابس.
موسيقى شجية = لشعب شاعري.
موسيقى بسيطة وغير محكمة الصنع = لشعب واقعي.
موسيقى متوحشة = لشعب همجي وشرس.
موسيقى مرحة وضعيفة = لشعب نشيط.
موسيقى نبيلة وجليلة = لشعب جاد.
وتميل بعض الشعوب إلى الأنغام العاطفة أكثر من ميلها إلى الأنغام الجدية. ولكن ما من أمة تميل كلياً إلى أحد النوعين ميلاً كاملاً. قبل أي نوع يميل الشعب الفلسطيني إذن؟
إن الفن الموسيقي الفلسطيني فن شعبي عربي واحد انبثق عن ثقافة عربية واحدة تمثل جميعاً فناً عربياً واحداً.
أجمعت الآراء على أن الموسيقى العربية تنصف بالحزن والكآبة والرتابة، أي أنها تصف في الفئة الثانية والثالثة من تنسيق بري المذكور أعلاه. ولا شك في أن هذا التصنيف لا يعدو الصواب كثيراً، ولكن الصفات التي اتسمت بها الموسيقى الغربية نتيجة عوامل كثيرة تكونت في عصور الانحطاط والخمول والاستبعاد والاحتلال. فالموسيقى العربية، وإن كانت في ظاهرها تميل إلى النوع العاطفي الشجي الحزين، تتصف في الوقت ذاته بالحيوية والرجولة، ويؤيد هذا القول النظر إلى الدبكة*، والرقصة الشعبية، وما يصاحبها من موسيقى حيوية، فذلك يزيل عن هذه الموسيقى نقيصة الميوعة والبكاء.
أ- مواضيع الأغاني الشعبية: تقسم الأغاني الشعبية الفلسطينية، كأغاني الشعوب الأخرى، إلى أنواع وموضوعات، وهي:
1) أغاني الأعياد والاحتفالات الدينية.
2) أغاني الحب والغزل، وأغاني الأفراح والأعراس والختان والميلاد.
3) أغاني الحرب والحماسة والحث على القتال.
4) أغاني العمل والتجارة.
5) أغاني الشراب والسياسة والهزل والرقص.
6) أغاني السياسية
7) أغاني الرقص.
8) أغاني المآتم والرثاء.
9) أغاني الروايات والأقاصيص.
ب- اللهجات في الأغنية الشعبية الفلسطينية: هناك لهجات كثيرة يتخاطب بها أهل فلسطين ويعبرون بها عن مرادهم. وهي تصور، بأسلوبها وعفويتها، أغراض حياتهم المعاشية، وتعطي فكرة واضحة عن مزاج أهلها وطريقة معالجتهم مختلف القضايا والأمور التي تعترضهم في دنياهم. إن اللغة العامية، بلهجاتها الفلسطينية، تجسم القيم الجمالية في محتوياتها لا في أسلوبها.
وهي مستكملة لموماتها كأداة فنية قادرة على تصوير ذات الشعب الفلسطيني والإفصاح عن عواطفه ومعتقداته.
والعامية، في أي بلد من العالم، صورة لتفاعل التيارات الحضارية القديمة المختلفة، وما أكثر تلك التيارات التي تعرض لها العرب في فلسطين.
وقد تعاقبت على فلسطين منذ أقدم الأزمنة التاريخية حتى اليوم ثلاث لغات هي الكنعانية*، والآرامية، ثم العربية الحديثة. وفي العربية اليوم كلمات آرامية الأصل عربها العرب واقتبسوها من السريانية.
وقد كان لنزوح القبائل العربية إلى فلسطين، قبل الإسلام وبعده، تأثير في اللهجة الفلسطينية، لكن تلك التيارات لم تؤثر في اللغة الفصحى التي بقيت لغة الأدب والدين والرسميات.
وهناك قبائل كثيرة استقرت في فلسطين قبل الإسلام (رَ: العرب قبل الإسلام في فلسطين) وقد تركت تلك القبائل آثاراً ما زالت متأصلة حتى يومنا هذا في كثير من القرى والمدن العربية. وقد أوجدت اللهجات التي أدخلتها هذه القبائل النازحة من الجزيرة العربية، وما صحبها من تفاعلات ومؤشرات أشورية وفارسية ويونانية، ثم تركية وإنكليزية، وأوجدت لهجة فلسطينية من خصائصها كلمات وصفات وسمات لغوية تخضع كليا للظواهر: كالكشكشة، والعنعنة، والاستنكاء، وإبدال حروف الحلق، وإبدال حرف الضاد، واستعمال مرادفات تؤدي المعنى نفسه، وتأدية مقاطع معينة بأصوات ذات جرس معين يعطي طابع القرية والمدينة.
وهناك فروق حديثة يصعب الإفصاح عنها بالكتابة المعتادة، كمد الصوت في أحرف العلة (أهل القدس)، واستعمال نغمة خاصة في آخر الكلمة في صيغة السؤال (أهل غزة). وهذا التباين في الصفات الصوتية أمر طبيعي يدخل في باب العادات التي يتصف بها كل مجتمع على حدة. وللبيئة دور هام في تكوين هذه الفروق عند الشعوب.
ج- ظاهرة التلحين في الأغنية الشعبية: قد يتصور المستمع المثقف عند سماعه الموسيقى الشعبية لدى الشعوب السامية أنها موسيقى بدائية غير خاضعة لنظام خاص أو أسلوب علمي متبع. ولكن التدقيق في مثل هذه الألحان دل على أنها تخضع، بالرغم من بساطتها وسذاجتها، الأنظمة معينة تعطي فكرة ولوناً خاصاً للشعوب التي تنتمي إليها. فهناك ألحان مثلاً يكون مركز الثقل فيها البعد الثالث، وهناك الرابع أو الخامس، ويكون بعضها غير موزون، على حين يدل إيقاع مجتمعات أخرى بوضوح أكثر كدول أوروبا مثلاً.
وهناك صفات في اللحن الشعبي الفلسطيني أكسبته لوناً خاصاً، وهي:
1) قصر الجمل: إن جمل اللحن الشعبي الفلسطيني قصيرة جداً لا تتجاوز موازينها Measure tune الصوتية الثمانية. وهناك عدد قليل جداً منها يتجاوز الاثني عشر ميزاناً صوتياً. وتتكرر هذه الجمل مراراً. والغريب أن هذا التكرار، رغم رتابته، يزيد في حلاوة اللحن ومرونته، كما يزيد في جذب السامع إليه. ويرجع التكرار في الأسلوب الفني إلى أن فنون الأدب الشعبي جميعاً ترتكز قواعدها على أغاني العمل التي أنشئت لتوجد اتساقاً بين الحركة الجسمية المتكررة وما يصاحبها من نغم ولفظ، وإلى أن الكلمة المسموعة تحتاج إلى التكرار لتثبيتها في الذهن والسمع، على خلاف المطبوعة والمكتوبة التي يرسيها ويجمدها التدوين.
إن عملية التكرار موجودة في أغلب الألحان الشعبية الأصيلة في العالم، تلك الألحان البسيطة التي استقرت عبر الأجيال وفرضت نفسها على بقية أنواع الموسيقى في مراحل تطويرها وأثبتت صحة القول المأثور: “البقاء للأفضل”.
ويجب التفريق بين أصالة اللحن وقدمه، فاللحن الشعبي الأصيل الموثوق به، المعتمد من الوجهة الاجتماعية، لا يستحق أن يكسب رضى المؤرخ أو الباحث الاجتماعي. فأصالة اللحن ترتكز على مدى ما للطبقة الشعبية من أثر في تكوينه وأدائه، ومدى ما تتجاوب وتنفعل به. كما يحق لهذا اللحن أن يكون منتمياً إلى الفن التقليدي، الشفهي المجهول المؤلف المتوارث، وموطنه القرية، أو إلى الفن المستحدث، أدب الطبقة الوسطى، وموطنه المدينة، والذي لوسائل النشر والإعلام الحديثة فضل في نشره والإكثار من ترداده.
ويلاحظ أن اللغة في النوع الأول عامية يحدد القروي من خلالها موقفه من مشاكل الحياة والطبيعة وبدون انطباعاته الفكرية والعاطفية. ويشاركه في ذلك أهل المدينة، فهم بأغانيهم، الشفهية والمكتوبة، والمعروفة المؤلف أو المجهولة، والفضيحة اللغة أو العامية، والمتوازنة عن السلف أو التي أنشأها ملحنون محدثون، لا يحيدون عن السمات والخصائص المشتركة بينهم وبين القرويين.
فالتركيز يجب أن ينصب إذن على الفن القروي والمدني الشعبي على السواء. فالاختلاف يكمن في مواضيع الأغاني، وفي اللهجات، وفي طريقة الأداء فقط. أما اللحن والإيقاع فيوضحان آثار نفسيات القروي والمدني.
2) أبعاد اللحن: البعد هو المسافة بين الصوتين، وأحد الصوتين يكون الحد الأعلى للبعد الآخر، أو الحد الأدنى له. وتقاس المسافات والأبعاد بما تحويه من درجات، وتكون تسميتها تبعاً لهذا المقياس.
فالمسافات في الألحان الشعبية الفلسطينية بسيطة، أي أنها تنحصر في دائرة الطبقات الواحدة (أي مرتبة الديوان أو الأوكتاف Octave)، فمسافاتها غالباً ما تراوح بين المسافة الثانية والخامسة فقط.
3) الطابع المقامي: بنيت الأغاني الشعبية الفلسطينية على المقامات العربية. وتبين من تحليل بعض الأغنيات (بالرغم من أن أكثرها لا يعطي – لقصر محوره الطبقي – الصورة الكافية لمتطلبات المقام) غلبة مقام البياتي على أغلب الأغنيات، وكثرة استعمال مقامي الراست والسيكاه. أما الأغاني الدينية عند المسلمين فإن مقام العجم يغلب فيها على المدائح والموالد ويليه مقام الحجاز. وغلبة مقام البياتي على أكثر الأغاني الشعبية يخلق دافعاً كبيراً للتمسك بالسلم الموسيقي الشرقي المحتوي على أرباع الأصوات، وللصمود أمام موجة التطور الخاطئة الطارئة على الموسيقى العربية الآن.
4) الجاذبية اللحنية: تتجه جاذبية اللحن في الأغاني الشعبية في فلسطين اتجاها منخفضاً، وتشاطرها ذلك الشعوب التركية والهنغارية، بعكس الألحان الإسكندنافية والألمانية التي يتساوى فيها سير اللحن الصعودي والانخفاضي.
5) الزخرفة اللحنية: لعل مما يخلع على اللحن الشعبي صفته العربية تلك الزوائد والتحسينات أو الزخارف التي يستعملها بل يرتجلها المغني أو العازف الشعبي. وقد أصبحت هذه الزخرفة اللحنية من مستلزمات الموسيقى العربية، حتى الكلاسيكية منها، إلى اليوم هذا. والمراد بهذه الزخرفة عند المغني الساذج إما لفت الأنظار إليه وإثارة الاهتمام بمقدرته الغنائية الخلاقة، وإما إعطاء اللحن الذي يغنيه مزيداً من الجمال فهو متأكد أنه، بعمله هذا، سيرضي نفسه ويحظى بإعجاب مستمعيه، فوالده كان يغني هذا اللحن بذلك الشكل، ولكن باستطاعته هو أن يبتكر تحسينات أو زخارف أكثر. وتشبه الأغنية الشعبية بهذا خبراً أو شائعة يضاف إليها في كل مرة تتناقلها الأفواه نكتة صغيرة، أو خبر مرتجل، أو نبأ جديد. ولا شك في أن مثل هذه الإضافات تغير من معالم الأغنية ومن أصالتها، وبالتالي تحول دون تحديد عمرها. وهذا مما يزيد عمل الباحث صعوبة وغموضاً غير أن البحاثين والموسيقين وعلماء الاجتماع اتفقوا على أن الأغلبية الشعبية مجهولة العمر، فلا هي بالقديمة ولا المستحدثة. وقد شبهوها بشجرة كبيرة جذورها القديمة ضاربة في الماضي البعيد وأغصانها وفروعها وثمارها في نمو مستمر.
6) الإيقاع: إن إيقاع أغلب الأغاني الشعبية في فلسطين بسيط، لكنه ذو حيوية ومرونة، وتكثر في ألحانه الأوزان الثانية والمركبة. هذا وللزخرف والتحسينات تأثير كبير في تجميل الإيقاع كتأثيرها في اللحن، لكنها لا تخلو من تعقيدات وغموض مما يصعب فهمه على المستمع الأجنبي ومن ثم ضبطه.
د- الغناء: صناعة في أداء الألحان المصحوبة بالكلام الدال على المعاني. وتشترك الأمم، على اختلاف فطرتها وتطورها الحضاري، في هذه الظاهرة الطبيعية. فحنجرة الإنسان تتكون من أوتار متفاوتة، والفرد العربي غناؤه بطريقة فطرية لا شعورية تجعل أوتار صوته تهتز على مداها الكامل فيصدر الصوت وكأنه خارج من الصدر. ويلقب مثل هذا الصوت تكنيكياً بالصوت الصدري. أما الغربيون فيختلفون بطريقة إصدارهم أصواتهم، فيجيزون بطريقة مدربة اهتزاز أجزاء من أوتار الحنجرة فقط، مع ارتخاء بالحلق وتنفس من الأنف. ويعرف مثل هذا الصوت بصوت الرأس.
أما الناحية الفنية في الأغنية الشعبية فهي غير مكتملة ولا واضحة المعالم. ويبدو هذا الضعف في ترجمة الكلمة الموسيقية، إذ لا يمكن أن تطلق على الأغاني الشعبية الفلسطينية صفة الموسيقى التصويرية، ففي اللحن الواحد وفي الأغنية الواحدة كلمات توحي بالحزن وأخرى تنم عن غبطة وسرور.
هـ- القوالب اللحنية، أو التأليف في الموسيقى الشعبية: لعل الرابط الوثيق الذي يربط الفنون بعضها ببعض هو التناسق المحكم الذي يجمع شمل وحيها، ويربط أطراف إلهامها، ويرسم لها خطة هندسية منتظمة الشكل بديعة الصنع يبني الموحى إليه فكرته عليها. والتناسق في هذه الحال هو العماد الأول في إظهار الجمال، كما في جميع الأعمال الفنية.
وقد كوّن التناسق مع الزمن نظاماً خاضعاً لكل نوع من أنواع التأليف الموسيقية، حتى صار اتباعها حتما على كل ملحن. إن المؤلفات الموسيقية الشعبية في فلسطين، بالرغم من بساطتها وبدائيتها، تخضع أيضاً لأنظمة موسيقية تقليدية ورثتها عن السلف ولا تزال تحاول تطويرها والانطلاق بها إلى أفق أوسع.
إن المؤلفات نوعان: غنائي وآلي. والنوع الأول أكثر عدداً فهدف الآلة الأول في الموسيقى الشعبية مصاحبة المغني ومرافقته بل مساندته في غنائه الطويل والتعبير عن المناسبات التي يغني فيها. أما النوع الآلي فإنه في الغائب ألحان بل قوالب غنائية معروفة، لكن دون الكلام. وهناك أمثلة قليلة جداً تكون فيها الموسيقى خاصة بالآلة فقط. ولا علاقة لها بكلام شعري أو زجلي أو ما شابههما. ولا بد في المؤلفات الغنائية من الإشارة إلى الاندماج الكامل بين الكلمة والموسيقى. وقد قال بيهوفن: “الشعر جسم الوردة والموسيقى رائحتها”.
فالأغنية هي أساس الشعر لاقترانها بالإيقاع والوزن الموسيقي، وما بحور الشعر العربي المعروفة إلا بقايا ألحان شعبية كانت معروفة منذ القدم.
والمعروف أن الموشح والزجل يعدان من الثورات الكبرى في تاريخ الأدب العربي، وهما في خصائصهما يعبران عن الذهنية الشعبية. ففي المؤلفات الغنائية في الموسيقى الشعبية الفلسطينية ما يشابه هذه النماذج الشعرية، فمنها نوع هو أقرب ما يكون إلى القصائد في جرسها وأبياتها وقافيتها ومواضعيها ويمكن تحديد بحرها بمجزوء الرجز أو مجزوء الكامل. ويشمل ذلك قصائد الشروقي، ويا حلالي يا مالي، وطلعات السامر.
أما النوع الثاني فيلتزم وزن الرمل ومجزوئه، ومنه الدلعونة، وتتكون من أربعة اشطر الثلاثة الأولى منها تأتي على قافية واحدة، أما الشطر الرابع فينتهي بحرف الألف، لحاجة اللواح الماسة إلى سحب الراقصين إلى القفز السريع. ويصب هذا النوع في قالب من ستة أوزان ذات إيقاع ثنائي تنتقل درجاته الصوتية بقفزات صغيرة جداً Micronomic فتشترك مجموعة من المنشدين بغناء الكورس، أو القرار، أو اللازمة، وتكون من لحن الأبيات نفسه، وقد تختلف عن دور الغناء المنفرد كما في الميجانا.
وقد حدد المستشرق المعروف جوستاف دالمان أنواع التأليف الغنائية بالشكل الآتي:
1) التحنين: أغاني الحجاج.
2) الندّب: وكانت تقوم به نساء محترفات ويطلق عليهن الندابات أو النواحات.
3) المطوحة: أغنية الزفاف للمرأة البدوية.
4) القصيدة: ذات القافية الواحدة في السطرين الثالث والرابع[1]
5) الموال: على نوعين، موال مصري، وموال بغدادي[2]
6) العتابا: اعتبرها موالاً ذا أربعة أسطر.
7) الهلايا: شطران ينتهيان بكلمة هلابا، كذلك مطالع المعنى والقريدي.
8) الجعدية: نسبة لشاعر مصري معروف بجعيد.
9) الزجل أو الرزع: ومن مميزاته إعطاء الكلمة الأخيرة في الشعر عنوانه: مثل ميجانا، حنينا، مواليا، زينة، هويدلي.
10) الترويد: تغنى في الأعراس، ولدى البدو عند حلب المواشي وفي المراعي.
11) الحداء: عرفها دالمان بمشارات البدو أثناء الحرب[3].
12) املالا: ويغنى في الكروم[4].
كما تشمل الشوباش، والجلوة، والزغروتة، وتقال “بآه” و “يها” في شمال فلسطين، و”آهيها” في جنوب فلسطين، وتعرف بالمهاهاه.
وللأغنية، أية أغنية، طابع خاص يحدد شخصيتها، فالمقام، وتباعد الدرجات الصوتية وتتابعها ومركز الابتداء والقفلة، وسرعة الأداء والنص، كل ذلك يساعد في تحديد الشخصية. فبعض الأغاني الشعبية الفلسطينية بحمل سمات مصرية، أو سورية، أو لبنانية، أو عراقية، أو بدوية، وهناك القليل يحمل طابعاً تركياً مثل دندرما.
ومن الأغاني ذات الطابع المصري: يا عزيز عيني، ومن السورية واللبنانية: أغاني المعنى والقرادي، زريف الطول، هيلا هيلا ليه، مرمر زماني وغيرها. ومن العراقية: الموال البغدادي والميجانا. ومن البدوية: باقون بعدن عالرجم وغيرها. ولعل أشهر أغنية يتداولها الشعب وتحتضن كل آماله وكل تفكيره وحبه وحنينه ومشاكله السياسية والاجتماعي هي الدلعونة. وتأتي على طريقتين في الأداء يلتزم بإحداهما عازف الناي أو المجوز أو الربابة المنفرد.
أما فيما يتعلق بمؤدي الأغنية فلا بد أن يكون ذا موهبة موسيقية وحس مرهف وقدرة على الارتجال لحناً ونصاً. وبالنظر لعدم وجود مكبرات الصوت قديماً كان من المفروض أن يكون المغني ذا صوت جهوري قوي، ومن مؤهلاته أيضاً الذاكرة القوية التي تتيح له حفظ الكثير من الأشعار والأغاني. ويجابه أكثر من زميل له في الأفراح حيث يتناظران حول مواضيع مختلفة منها: الفلاحة والمدنية. والشقرا والسمرا، والعلم والمال، والسيف والقلم، وغيرها، وهو يؤدي أيضاً السحجة* والسامر*.
وهناك فئتان من مؤدي الغناء الشعبي، المحترف والهاوي وكلاهما لا يقل عن الآخر موهبة وجمال صوت ومقدرة على العطاء. وهؤلاء المغنون هم:
1) الحادي، ويتطلب الشروط المذكورة أعلاه.
2) الشاعر: يحترف إلقاء الحكايات والقصائد على نغم الربابة. وقد يبرع في تمثيل الأدوار التي يتحدث عنها، فهو “مونولوجست” وعازف ومقلد.
3) الشيخ الطبانجي: هو الذي يمارس الغناء الشعبي في مناسبات الموالد والمواسم الدينية، ويقرأ قصة المولد بما فيها من شعر ونثر بصوت رخيم.
4) الدراويش: من أصحاب الطرق الصوفية، وما ينشدونه آيات وسير، وتواشيح دينية وقصائد مدح الرسول.
5) الحكواتي: يحكي بإيقاع منغم السير والحكايات الشعبية، ولا يصحبه في أدائه هذا أية آلة موسيقية، ومسرح عمله يكون غالباً في المقاهي أو المضافات ولكن قد يستعان بالربابة أحياناً.
6) المسحراتي: ذو دور بارز في شهر رمضان، ويقوم بعمل روتيني كل ليلة، فهو يحمل الطبلة المعروفة “بالبازة” ويضرب عليها بقطعة من الجلد ليصحو الناس من النوم فيتناولوا طعام السحور. فهو ينشد بأسلوب شجي أناشيد دينية فيها ابتهالات إلى الله، ومدائح نبوية. وبين الفينة والأخرى ينادي “قوموا لسحوركم خلي النبي يزوركم”، و”يا نايم وحد الله”.
وقد تكونت الخلفيات الاجتماعية والتاريخية للأغنية الشعبية من ظروف المجتمع والبيئة التي يعيش فيها الشعب الفلسطيني بمختلف أنماط حياته الاجتماعية من البداوة والحياة الزراعية وحياة المدن. وتبين دراسة هذه الخلفيات أن أغلب العادات ترتكز على الأسرة كوحدة تقليدية، فإن الأسرة تعتز بأمجادها محاولة دوماً أن تحتكر المكانة الاجتماعية العليا في مجتمعها، كما أنها تعتز بصلاتها الدموية وتماسكها الوحيد ضمن إطارها. ويمثل ذلك القول المآثور: “أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب”. والزواج في نظره اتحاد بين أسرتين أكثر مما هو اتحاد بين فردين.
وقد تكونت نتيجة نظم اجتماعية، مشتركة وعامة، عصبيات مختلفة منها:
1) عصبيات الأقارب القائمة على تفضيل حق ابن العم حتى على ابن الخال. وما نتج عن ذلك من مشاكل وإضاعة فرص أفضل للعروسين فيما لو ترك لهما حق الاختيار.
ابن العم يا شعر على ضهري إن حال الموت لا رده على عمري
ابن العم يا توبي عليا ان حال الموت لا رده بايديا
وفي حال تزويج الأب ابنته من غير ابن عمها طمعاً منه بمهر أكبر يقال ويغنى:
يا ابن العم يا كومة ترايب بنات العم أخذوهم الغرايب
يا ابن العم يا ريتك للضبوعة بنات العم أخذتهم السبوعة
2) إن دائرة العلاقات السائدة في حياة القروي دائرة ضيقة خاضعة لمدى تطور وعيه الطبقي. فالخط الأول بعد أسرته هو خط قرابته يليه مباشرة خط جواره فالفلاح يحتاج إلى جاره، وهو يشاركه في السراء والضراء. “تمنى الخير لجارك بتشوفه بديارك”، و”الجار أولى بالشفعة”، و”الجار ولو جار”، “وقال: مين أدرى بحالك؟ قال ربك وجارك” وغيرها من الأمثال التي تفصح عن أهمية الجار.
أما النسوة فيزغردن ويقلن:
ها هي، يا فلان يا جار المجاورني
ها هي، يا جار الرضى ما إنت جار خواتي
ها هي، ما انت طلاّل ع حيطان جاراتك
ها هي، ولا يوم تركني إلا رفعت الضيم عني … لولولولي
3) هضم حقوق المرأة: ترزح المرأة تحت وطأة التراث التقليدي، فهي عموما خاضعة. ومع أنها تقوم بقسط كبير في مجال العمل في الحقل وفي الحرف اليدوية* يهيمن الرجل ويسيطر ويتحكم في مصيرها، خصوصاً عند الزواج.
عاليوم يا رفيقة لو الشور بايدينا
كان قضينا العمر في دار أبونا
4) عصبية الجاه والمركز: إن للطبقية أثرها في حياة الفرد الفلسطيني، فالأكثرية الساحقة تعيش على هامش الحياة الزراعية. وهناك طبقة من الأثرياء التجار والملاكين وأصحاب العقارات والبيارات والأراضي الزراعية. وكثيراً ما تشير الأغاني الشعبية إلى هذه الفروق فيتباهى أصحاب الجاه والمركز بما لهم من نفوذ كما تفاخر نساؤهن بلبسهن الثمين:
يا بو العروس افرش منزلك ريش لفت عليك الامارة والدراويش
لفت عليك الامارة راكبين الخيل ومعممة بالذهب روس الطرابيش
وعاداتنا نلبس ملوكي ما نناسب غير الملوكي
ريدونا ريدونا نسايب لا تزعلونا
عادتنا نلبس شنابر ما نناسب إلا الأكابر
ردونا رودونا نسايب لا تزعلونا
(الملوكي: ثوب العرس).
5) روح التعاون المادية والمعنوية التي يظهرها الأهلون بعضهم لبعض في الملمات والأفراح: وبالرغم من أن هذه التقاليد في العرف الشعبي هي قاعدة أخلاقية فإنها في مضمونها الجوهري دين واجب أداؤه. ولو أمعنا النظر في هذه الظاهرة لوجدنا أنها تنبع من رغبة في التكافؤ المادي والاجتماعي عند أفراد الشعب.
6) عصبية الأحزاب: خصوصاً القيسية واليمنية. فأكثر القرى وكبرى العائلات في فلسطين تنتمي إلى أحد هذين الحزبين.
وقد كلفت خصومات هذه الأحزاب البلاد كثيراً من الدماء وأثرت فيها تأثيراً مشؤوماً. وكان لها مفعولها في الأغاني، وفي فرص أزياء العرس، وفي مراعاة تقديم المأكولات أثناء الضيافة.
7) هناك عادات ومعتقدات شعبية تؤمن بالخرافات والسحر ومفعوله. أو بالعين الحاسدة وتأثيرها. ولا شك في أن أكثر هذه العادات والمعتقدات هي من بقايا وثنية. وقد يقع المرء تحت سيطرة أفكار خرافية لا يعرف طريقاً أفضل منها لمواجهة مشاكل الحياة ومخاطرها. ولا شك في أن الشعب الفلسطيني مر بحالات من القلق والاضطراب والشعور بالضعف والعجز أحياناً عن حل مشكلاته. فهو قد عاش صراعاً مباشراً مع أنماط من الاستعمار العثماني والبريطاني والصهيوني، كما عاش صراعاً طبقياً مع القوى التي ارتبط وجودها بوجود مختلف أنماط وأشكال الاستعمار.
وبما أن الدين شيء أساسي في حياة الفلاح فهو يتعلق بالأنبياء والأولياء، ويتشفع بهم، ويؤم مزاراتهم، ويتعود بأسمائهم ويحتمي بها، كما يستنجد بالشيوخ ليبعدوا عنه الشر بالأحجبة والرقى والتعاويذ:
سيدي يا شيخ واكتب لي حجاب طلقني من النمرة ينوبك ثواب
كذلك:
حرزين من ذهب وحرزين من فضة وحرزين من عند الشيخ مبارك
وعلى الرغم من أن العلم يرفض مثل هذه الأوهام والمعتقدات فإن شيوعها وارتباطها الوثيق بالمعتقدات الشعبية يفرضان الاعتراف بوجودها والإشارة إلى تأثيرها في الشعب.
أما تطور وانتشار الأغنية الفلسطينية فلا شك في أن لوسائل الإعلام الحديثة فضلاً في انتشارها وإن لم يكن دائماً مخلصاً في الحفاظ على أصالتها. فالإذاعة الفلسطينية التي تأسست عام 1936 في القدس ساهمت في نشر الأغنية الشعبية، وفي تقديمها بشكل مهذب، أي أنها أبعدتها عن “الاعتباطية” من ناحيتي المعنى واللحن، سواء في ركاكة المعنى وابتذاله أو في ميوعة اللحن وحزنه واتكاليته. فقد ساهمت الفرقة الموسيقية (أو التخت) بجميع آلاتها من كمان وعود وقانون وناي وآلات إيقاع في إعطاء اللحن والكورس زخماً وقوة. كما قام الملحنون فيها بإضافة لازمات موسيقية، أي جمل بسيطة تربط ما بين الأبيات الشعرية أو ما بين الأبيات والقرار. كذلك أدخلوا فكرة لحنية ثانية على فكرة اللحن الأساسي، مما أطال في مدة الأغنية ونوع تصميمها. وهو بالرغم من بساطته بالنسبة إلى القوالب المتطورة أعلى قيمة الأغنية الشعبية. وقد ساهم عدد ليس بقليل من الفلسطينيين في هذا الانعاش والتطور أداء أو تأليفاً ومنهم: محمد غازي، ومحمد رضوان، وفهد نجار، وفروسو زهران، وفرقة أولاد أبو السباع، وعيسى الصوص، ومتري المني، وواصف جوهرية، ويوسف بتروني، وغيرهم.
وقد ساهمت النكبة واحتكاك الفلسطينيين بالشعوب العربية الأخرى في تغذية هذا اللون الشعبي وصهره في بوتقة واحدة. وكان للتفاعل أثره في إنعاش الأغنية وإيصالها إلى مرتبة استرعت اهتمام وحب الشعوب الشقيقة، فتناقلتها الإذاعات العربية وتداولتها الأندية الموسيقية.
ولا بد من الإشارة إلى اهتمام وجهود الإذاعات العربية في جمع الأغاني والألحان الشعبية الفلسطينية المعروفة والعمل على صقل وتهذيب كلماتها ونحت ألحانها وصياغتها.
المراجع:
– يسرى جوهرية عرنيطة: الفنون الشعبية في فلسطين، بيروت 1968.
– شارلز بري: تطور الفن الموسيقي.
[1] الأصح أنها رباعيات تلتزم الأشطر الأولى منها قافية والشطر الرابع قافية، وهكذا حتى آخر القصيد، ومن مواضيعها الوصف والغزل.
[2] المواليا من ابتكار أهل واسط من مدن العراق، ولعل النكبة التي ألمت ببغداد أيام البرامكة أثرت في الشعب فانطلقت النساء يبكين الأطلال ويترحمن على ما كن عليه وينهين أقوالهن بكلمة مواليا.
[3] على شكل مقطوعات قصيرة من بيتين غير ملتزمين بقافية معينة بل يتغيران بتغيير المقاطع. وزنه هو الجز المعروف، ويجيء على مجزوئه (كلمة رجز وحداء كانتا في القديم مترادفتين) مثل:
بارودتي حبوبتي ما أحلى طلق زنادها
يا رب تكبر مهرتي تكبر ونا خيالها
[4] تمتاز بإدخال اللام قبل وبعد بضعة حروف من الكلمة.