ارتبط نضال العمل الجبهوي الوطني اللبناني دائماً بالنضال من أجل دعم القضية الفلسطينية والوجود الفلسطيني في لبنان، وقد مر هذا العمل منذ تأسيسه حتى الآن بأربع مراحل.
1) المرحلة الأولى: سنة 1964، حين تشكلت جبهة الأحزاب والهيئات والشخصيات الوطنية والتقدمية برئاسة كمال جنبلاط، وضمت الحزب التقدمي الاشتراكي، والحزب الشيوعي، وحركة القوميين العرب – فرع لبنان. وكان الهدف الأساس من وراء إنشاء الجبهة التصدي للقضايا الاجتماعية والنقابية ومشكلات الفلاحين الزراعية في لبنان. ولكن الفلسطينيون كانوا يعانون آنذاك من تعرضات يومية منظمة من أجهزة رسمية فأخذت الجبهة على عاتقها الدفاع عن حريات الفلسطينيين، وكشف عمليات الاعتقال التي تمارس ضدهم. وقد انفرط عقد هذه الجبهة عقب هزيمة حزيران 1967 (رَ: حرب 1967)، وذلك بعد بروز التيار الماركسي – اللينيني داخل حركة القوميين العرب، وانطلاقها لتحليل سياسي ينتقد تجربة النظام الناصري في مصر، كما ينتقد أنظمة البورجوازية الصغيرة العربية (الأنظمة الوطنية) ويحملها مسؤولية الهزيمة في تلك الحرب بسبب بنيتها الاجتماعية والطبقية. وشمل نقد الحركة أيضاً الجبهة التي يقودها جنبلاط، لافتقارها إلى البرنامج السياسي الواضح والمحدد. ونتيجة لهذه الخلافات أعلن كمال جنبلاط وقف نشاط الجبهة في بيان ألقاه يوم 19/11/1967.
2) المرحلة الثانية: بدأت في عام 1969، وكانت لها مقدماتها الفلسطينية الطويلة. ففي عام 1968 أخذ العمل الفدائي الفلسطيني يتركز لأول مرة في منطقة الجنوب اللبناني، وبدأت في مطلع سنة 1969 مناوشات بين الفدائيين والسلطات اللبنانية أي حاولت منع العمل الفدائي المسلح من الأنطلاق من الأرض اللبنانية. وهنا نشأ “تجمع الأحزاب الوطنية والتقدمية” وكانت له مهمة وحيدة هي الدفاع عن المقاومة الفلسطينية، وحقها في الوجود المسلح في لبنان. وكان من أبرز إنجازات هذا التجمع الذي لم يعمر طويلاً التظاهرات الشعبية الضخمة التي نظمت يوم 23/4/1969 احتجاجاً على محاولات المساس بالعمل الفدائي. وقد تجددت هذه الاضطرابات في أيلول وتشرين الأول 1969، ثم أسفرت عن عقد اتفاقية القاهرة بين الحكومة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية*. وشكل تحرك القوى الوطنية اللبنانية عاملاً أساسياً في تحقيق هذا الإنجاز الذي أعطى للوجود الفدائي في لبنان صفة الوجود الشرعي.
3) المرحلة الثالثة: بدأت سنة 1975. وكانت لها مقدمات لبنانية وفلسطينية وعربية متشابكة. فعلى الصعيد اللبناني تفاقمت الأزمة الاجتماعية والسياسية داخل لبنان، وشهد عام 1974 ومطلع عام 1975 إضرابات عمالية وطلابية ونسائية واسعة جداً، ونشب على الصعيد السياسي صراع داخلي تحت شعار”المشاركة في السلطة”. وتعرض الجنوب اللبناني لاعتداءات إسرائيلية كثيرة بحجة الرد على العمليات الفدائية المنطلقة من الجنوب، وشملت هذه الاعتداءات العمق اللبناني في بيروت وطرابلس، مما أدى إلى التسليم بالحاجة إلى وجود أقوى للعمل الفدائي داخل المدن اللبنانية، من أجل تحصين المخيمات وحمايتها بالمدفعية من الغارات الجوية.
وقد ردت القوى اليمينية اللبنانية بالبدء بعملية تسلح واسعة، ويرفع شعارات تدعو للتخلص من السلاح الفلسطيني، ومن الوجود الفلسطيني البشري في لبنان، بحجة أن هذا الوجود المسلح أخل بالتوازن السياسي، فأصبح الفدائيون جيش المسلمين، كما أخل بالتوازن السكاني – الطائفي في لبنان لصالح المسلمين، متجاهلة بهذا الطرح المشكلات اللبنانية الداخلية الاجتماعية والسياسية التي كانت في صلب الصراع وجوهره ونتيجة لذلك كله انفجرت حرب أهلية في لبنان، وكان انفجارها يوم 13/4/1975، بحادث مدبر ضد سيارة ركوب كبيرة كانت تقل فلسطينيين يمرون في منطقة عين الرمانة، قادمين من مخيم تل الزعتر الفلسطيني. ومنع انفجار الحرب الأهلية تشكل في البداية تحالف جبهوي برئاسة كمال جنبلاط، ضم مجموعة الأحزاب السياسية الوطنية القائمة بالإضافة إلى هيئات اجتماعية، مثل جمعية خريجي المقاصد. ووضع هذا التحالف لنفسه برنامجاً سياسياً أعلنه جنبلاط يوم 18/5/1975، وجاء فيه تحت بند إعادة تنظيم الجيش “حصر مهمته بالدفاع عن حدود لبنان واستقلاله الوطني والاضطلاع بمسؤولية القومية حيال القضية الفلسطينية”.
سمي هذا التحالف”جبهة الأحزاب والقوى الوطنية والتقدمية”، وأنشأت هذه الجبهة أثناء الحرب اللبنانية قيادة موحدة مع المقاومة الفلسطينية سميت “القيادة المشتركة” التي أشرفت على سير المعارك في لبنان. وبقي هذا التحالف الجبهوي يعمل متماسكاً إلى أن انسبحت منه بعض التنظيمات التي تحالفت مع قوى سياسية أخرى في لبنان وشكلت “الجبهة القومية”، وفي 23/7/1976، وبسبب انهيار سلطة الدولة اللبنانية كلياً، وتعاظم مسؤوليات الحرب الاجتماعية والتموينية بالنسبة إلى الجماهير، قررت القيادة تطوير وضع الجبهة الداخلي، فتحولت من تحالف إلى جبهة منظمة ذات هيئات قيادية دائمة. وكانت الخطوة الأولى على ذلك الطريق تشكيل المجلس السياسي المركزي الذي كان قيادة يومية عليا، ربطت به هيئات تنفيذية تتولى الاختصاصات (التموين، والأمن، والتسلح … إلخ). وقد انتهت هذه المرحلة من حياة الجبهة عند اغتيال قائدها ورئيسها كمال جنبلاط في آذار 1977، إذ بدأت مواقف أطراف الجبهة تختلف وتتناقض بصدد القضايا اللبنانية والعربية، ولكنها بقيت ثابتة تجاه القضية الفلسطينية والعمل الفدائي، وإن كانت بفعالية أقل من السابق.
4) المرحلة الرابعة: بدأت مع تولي وليد جنبلاط رئاسة الحزب التقدمي الاشتراكي خلفاً لوالده، فقد طلب منه قادة الجبهة الآخرون أن يتولى أيضاً رئاسة “المجلس السياسي المركزي”، فتريثت، وقام أثناء ذلك بجولات سياسية عربية، وبمفاوضات مع منظمة حزب البعث العربي الاشتراكي (أحد أطراف الجبهة القومية) لإعادة الوحدة إلى صفوف الحركة الوطنية، ووقع مع منظمة حزب البعث بيان أيلول 1977 الذي كان فاتحة حوار بين أركان المجلس المركزي وأركان الجبهة القومية حول ضرورة التوحيد. وقد تعثرت هذه المفاوضات في البداية، ثم تسارعت وتكللت بالنجاح بعد زيارة الرئيس المصري (لإسرائيل) وتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد* ومعاهدة الصلح المصرية – الإسرائيلية*. فوافق وليد جنبلاط على تولي رئاسة المجلس السياسي المركزي، وأصدرت الجبهة في مطلع آذار 1981 برنامج عمل سياسي جديداً مستوحى في مبادئه من البرنامج القديم، مع إضافات حول الموقف من القضايا السياسية المستجدة.
المراجع:
– البرنامج المرحلي للأحزاب والقوى الوطنية والتقدمية في لبنان.
– غسان العياش: ما هي الحركة الوطنية اللبنانية، مجلة الأنباء اللبنانية الأعداد 1345، 1346، 1347، شباط 1981.
– النادي الثقافي العربي: الأحزاب اللبنانية، بيروت 1973.