كانت فلسطين ولا تزال موضع إهتمام العلماء من أنحاء العالم وذلك لأنها الأرض المقدسة التي شهدت أحداث التوراة والإنجيل، وهي مهد السيد المسيح عليه السلام وعلى أرضها ظهرت معجزاته، كما هي أرض الإسراء والمعراج وبذلك يقدسها اليهود والمسيحيون والمسلمون. وأهميتها لا تأتي من فضلها على النواحي الرفيعة من حياة البشر فحسب، وإنما هو نتيجة موقعها الفريد في العالم بين القارات الثلاث أوروبا وآسيا وإفريقيا، ولأنها همزة الوصل بين أقطار الوطن العربي في المشرق وأقطاره في المغرب، والجسر الناقل للتأثيرات الثقافية من مراكز الحضارة المجاورة، ومركز من مراكز التجارة الدولية. وهي أهم المناطق في العالم التي أقام فيها الإنسان منذ قديم الزمن فقد أظهرت الأبحاث الأثرية والتاريخية أن هذه الأرض تحتل مكانة استراتيجية منذ فجر التاريخ. وعلى أثر إنتهاء ظاهرة الحروب الدينية والسياسية التي شنها الأوروبيون على فلسطين وغيرها من أقطار الوطن العربي في المشرق تلك التي إشتهرت بإسم الحروب الصليبية، استمر إهتمام الأوروبيون بالأرض المقدسة ودراستها، كما استمر تدفق الحجاج من أوروبا إليها حيث أن زيارتها أصبحت تؤلف مصدراً من مصادر الدخل القومي لأهل البلاد، وقد إزداد عددهم بمرور الزمن للسياحة والنزهة.
بدأت الكشوف والدراسات الأثرية والتاريخية في فلسطين منذ زمن مبكر، وكان أكثرها بأسلوب غير علمي فجاءت مجرد ملاحظات وتعليقات ورسومات من رحالة وحجاج جاءوا ألى البلاد خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر.
وفي القرنين الخامس عشر والسادس عشر إتبع الباحثون الأسلوب العلمي في دراسة تاريخ فلسطين وآثارها وكان أولهم العالم السويسري (فابري) ثم تبعه الألماني (رواخ فولف) الذي ألف كتاباً عام 1575م عن تاريخ فلسطين الطبيعي، ثم ألّف عالمان آخران من هولندا وهما (زولارت) و(كوتفيش) في وصف ورسوم للمباني القديمة في فلسطين. ودخل البحث الأثري في القرنين السابع عشر والثامن عشر مرحلة أكثر جدية من الناحيتين العلمية والمنهجية وتزايدت حركة التأليف والنشر بعد أن تعددت إهتمامات المتخصصين في الدراسات الدينية والحضارية، وقام عدد من الباحثين بتأليف مختلف الكتب حول هذه المواضيع وكان أهمها مجلد بعنوان “فلسطين وآثارها المعمارية” وضعه العالم الهولندي (ريلاند). وازداد عدد العلماء والدارسين خلال القرن التاسع عشر وتميز أسلوبهم بالدقة والتوثيق ومنهم الرحالة (زيتسن) الذي إكتشف آثار مدينة جرش الرومانية في الأردن عام 1806م وألف كتاباً عنها، والعالمالألماني (بيركهارت) الذي إكتشف مدينة البترا عام 1812م ووضع كتاباً عنها وعن آثار فلسطين ومصر والحجاز.
وظهرت أسماء بريطانية في حقل الدراسات الأثرية في فلسطين مثل (مانغلز) و(بكنغهام) و(روبنسون) وقد تميزت دراستهم بالإختبارات والتوثيق الميداني.
وقام العالم الفرنسي (دي سولسي) بتنقيبات أثرية بعدد من الأماكن القديمة بفلسطين ولكنه فشل في مطابقتها مع الأحداث التوراتية ثم نقل عدداً من التحف الأثرية الفلسطينية إلى متحف اللوفر في باريس. ويعتبر (دي سولسي) أول منقب أثري في فلسطين.
وظهرت مؤسستان بريطانيتان خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر لعبتا دوراً بارزاً في مجال الكشوف والدراسات الأثرية في البلاد وهما: صندوق استكشاف فلسطين عام 1865م وجمعية استكشاف فلسطين عام 1870م بهدف دراسة وتوثيق الآثار والجغرافيا والجيولوجيا والتاريخ الطبيعي في فلسطين بالإضافة إلى دراسة العادات والتقاليد السائدة فيها. وقد أكد نشاط هاتين المؤسستين الصلة القوية بين بريطانيا ومشاريع الإستيطان اليهودي في فلسطين تحت الحماية البريطانية، وكانت جميع المشاريع الأثرية والاستكشافية التي مولها أثرياء يهود من خلال هاتين المؤسستين تهدف إلى إثبات حق اليهود بالعودة إلى فلسطين وإقامة دولتهم فيها. فوضع (لورنس أولفنت) مشروعاً لحل المسألة الشرقية بدعوة يهود أوروبا إلى الإستيطان في الجانب الشرقي للأردن لكي ينموا موارد الإمبراطورية العثمانية، ورأى (اللورد كتشنر) أن فلسطين هي الأرض التي تخص الشعب اليهودي.
ومن أبرز الباحثين الذين قاموا بدراستهم في البلاد بتشجيع من هاتين المؤسستين العالم البريطاني (وارين) إذ ركز دراسته على مدينة القدس* عام 1867م ولكنه وبسبب سعيه لإثبات صحة التوراة إرتكب أخطاء كبيرة في تأريخ مباني المدينة وأسوارها، والضابط البريطاني (كوندر) الذي نشر مجلدين بعنوان: مسح آثار فلسطين، ثم قام (اللورد كتشنر) عام 1872م بمسح أثري ميداني لخدمة المصالح العسكرية البريطانية.
ومن أهم الدراسات الأثرية هو ما قام به العالم التوراتي (السير فلندرز بيتري) الملقب بمؤسس علم الآثار الفلسطينية حيث نقب في تل الحسي عام 1880م ونجح في تثبيت المراحل الحضارية في فلسطين بالاعتماد على الآثار الفخارية التي استعملها الناس في العصور القديمة، الأمر الذي أدى إلى تطور على الآثار في فلسطين تطوراً كبيراً وقد نقب (بيتري) أيضاً في تل العجول (غزة* القديمة) وفي تل الفارعة بمنطقة بئر السبع*.
وفي عام 1909م أجرى العالم (مكنزي) دراسات هامة في تل الرميلة* برعاية صندوق استكشاف فلسطين، ونقب (رايزنر) من جامعة (هارفرد) في أريحا* وفي سبسطية* شمالي مدينة نابلس*، وعمل (زيللن) من النمسا على كشف آثار تل تعنك، و(شوماخر) من ألمانيا على وصف آثار شمالي فلسطين وجنوبها، و(واطزنغر) في أريحا بتمويل من الجمعية الألمانية لاستكشاف فلسطين.
وبعد الحرب العالمية الأولى خضعت فلسطين لحكم الإنتداب البريطاني، وعلى أثر إعلان وعد بلفور اتجه البريطانيون إلى استرضاء الصهيونية العالمية وذلك بتأكيد الحق الديني لليهود بإقامة وطنهم القومي في فلسطين بدعم تاريخي وأثري، فوضعوا البريطاني (غارستانج) مديراً لدائرة الآثار بفلسطين لتنفيذ هذه المهمة. وقد شجع (غارستانج) المؤسسات الدينية اليهودية على إجراء البحوث التوراتية فعين مجلساً استشارياً للدائرة جميع أعضائه من اليهود.
وأجرى العالم الأميركي (جلوك) مسحاً أثرياً شاملاً للأجزاء الجنوبية من فلسطين والأردن ما بين 1929-1936م واستكمله من 1946-1948م، وخرج بنتيجة مفادها أن البلاد كانت خالية من السكان منذ العصر البرونزي (الكنعاني) المتوسط إلى آخر العصر البرونزي (الكنعاني) الأخير أي في الفترة بين 1850-1300ق.م وهو الزمن الذي يعتقد التوراتيون بأنه شهد في أواخره خروج بني إسرائيل من مصر إلى فلسطين بقيادة النبي موسى * عليه السلام.
ومن الواضح أن (جلوك) حاول إقناع العالم الغربي بمقولة التوراة أن الإسرائيليين جاؤوا للإستيطان في أرض خالية من السكان علماً بأن الحقائق الأثرية تثبت بأن البلاد كانت مأهولة بسكانها العرب الكنعانيين قبل ألفي سنة من مجيء بني إسرائيل.
ومن أهم العلماء البريطانيين الذين أسهموا في التعريف بفلسطين وتاريخها بمنهج موضوعي واضح الدكتورة (كاثلين كنيون) والتي نقبت أولاً في أريحا في أواسط الخمسينات من القرن العشرين ونشرت نتائج أبحاثها في عدة مجلدات، ثم في القدس ما بين 1962-1967م حيث اكتشفت كثيراً من الآثار التي تفند ادعاءات التوراتيين حول المدينة المقدسة. ونشرت عدداً من المجلدات عن القدس وآثارها أهمها كتاب بعنوان “القدس وتاريخها خلال 3000 سنة”*، كما ألفت كتاباً بعنوان “الأموريون والكنعانيون”*، إضافة إلى عشرات المؤلفات والبحوث.
وفي عام 1927م تأسس متحف الآثار الفلسطيني في القدس لحفظ التحف الأثرية وصيانتها وعرضها للزوار، وذلك بمنحة مالية من الثري الأمريكي المعروف (روكفلر). ويوجد في المتحف معرض عن تاريخ فلسطين وحضارتها عبر العصور.
وكان لتأسيس الجامعة العبرية في القدس عام 1925م أثر كبير في النشاط الأثري في فلسطين من خلال برنامج وضعته هذه الجامعة لإعداد علماء آثار يهود أصبح لهم شأن كبير في هذا المجال منذ عام 1948م.
وتميز النصف الثاني من القرن العشرين بظهور اتجاه علمي يعتمد على الموضوعية في فهم العلاقة بين الآثار الفلسطينية وروايات التوراة، وأكثر ما يتجلى ذلك في كتاب الأب اليسوعي الفرنسي (رولند ديفو) الشهير بتنقيباته في خربة قمران على الشاطئ الغربي للبحر الميت.
وبعد إنتهاء حكم الإنتداب البريطاني على فلسطين وما تبع ذلك من أحداث جسام، توقفت دائرة الآثار الفلسطينية عن العمل وعن إصدار مجلتها العلمية الفصلية وباشرت دائرة الآثار الأردنية إصدار مجلة علمية سنوية، ورافق ذلك تزايد التقنيات الأثرية في الضفتين الغربية والشرقية من الأردن واتسع نطاق المسوحات الأثرية الميدانية.
وكان عدد قليل جداً من الفلسطينيين قد تمكن تدريجياً بعد تأسيس دائرة الآثار الفلسطينية زمن حكم الإنتداب البريطاني، من الإلتحاق بتلك الدائرة والتدرب على العمل الأثري ومنهم ديمتري برامكي* وسالم الحسيني ويوسف سعد.
وفي مطلع الخمسينات من القرن العشرين أقبل الشباب الفلسطيني ولا سيما أولئك المقيمون في الضفة الشرقية أو الغربية من الأردن على دراسة الآثار ثم العمل في دائرة الآثار أو الجامعات الأردنية أو الفلسطينية أو العربية ومنهم عوني الدخاني الذي ترأس دائرة الآثار الأردنية ما بين 1960-1968م ومحمود العابدي مساعده في هذه الدائرة ورفيق الدجاني الذي عمل أميناً لمتحف الآثار الأردني ما بين 1959-1962م وعدنان الحديدي مدير دائرة الآثار سابقاً. وشوقي شعث ومعاوية إبراهيم ومحمد خير ياسين وعاصم البرغوثي ونبيل الخيري وزيدان كفافي ونجوى الحسيني وإبراهيم أبو غوش وحسين قنديل وخيرية عمرو ومنى زغلول وهالة خوري ومحمد النجار ومحمد الزيات ومحمد المرقطن وحفظي حداد ومحمد الجمرة ونبيل القاضي ومحمد مرشد خديجة ومحمد درويش الفوج ومحمد صالح ولطفي خليل وليلى القاضي ومروان أبو خلف وغيرهم.
وتأسست أقسام أو كليات لتدريس علم الآثار في الجامعات الفلسطينية في بير زيت* ونابلس* وبيت لحم*، كما يوجد متحف إسلامي في المسجد الأقصى* المبارك هذا بالإضافة إلى عدد من المهندسين والفنيين في صيانة الآثار وترميمها في القدس مثل عدنان الحسيني وإبراهيم دقاق وعصام عواد وجمال بدران ويوسف النتشة وإبراهيم قواسمة وأحمد البحيص ويوسف العلمي.
المراجع:
– شوقي شعث: الآثار وخطرها على القضية الفلسطينية، حلب 1976.
– عدنان الحديدي: “الآثار في خدمة السياسة” حولية الآثار الأردنية، العدد 22.
– King, Philip J: American Archaeology in the Near East, The AmericanSchools of Oriental Research, Philadelphia 1983.
– Thompson H.O: Archaeology and Archaeologists, The University of Jordan, Amman 1970.