ما ان اندلعت الحرب العالمية الأولى حتى اتجهت أنظار دول الخلفاء إلى إمكانية تحقيق مآربها القديمة بالحصول على الأجزاء التي طمعت فيها من الامبراطورية العثمانية بعد دخرها، فجرت محادثات سرية لهذا الغرض بين روسيا وفرنسا وانكلترا في لندن ويتروفراد (لينغراد) وباريس. وفي أوائل عام 1916 تم التوقيع على الاتفاقية الإنكليزية – الفرنسية – الروسية التي عرفت فيما بعد باسم المتفاوضين الرئيسين فيها. مارك سايكس من الجانب الإنكليزي وجورج بيكو من الجانب الفرنسي. وجاءت الاتفاقية على شكل عدد من المذكرات التي وقعت بتوزيع مختلفة خلال شهري نيسان وأيار 1916 وتبودلت بين الدول الثلاث. وبموجب القسم المتعلق وروسيا احتفظ القيصر لدولته باستانبول والأراضي المناخمة لمضيق البوسفور وأربع ولايات متاخمة للحدود الروسية في شرقي الأناضول.
وفي 9 و16/5/1916 تبودلت في لندن مذكرتان بين السير ادوراد غراي، وزير الخارجية البريطاني وبول غامبون السفير الفرنسي. وقد اتفقت الدولتان بموجبها على تقسيم الهلال الخصيب وغربي الأناضول إلى خمسة أقاليم كالتالي:
1) المنطقة الزرقاء وتشمل لبنان بدءاً من صور، وتمتد شمالاً وتتسع في تركيا لتصل إلى نهر دجلة شرقاً، وتتجاوز مرسين غرباً وسيواس شمالاً. وتخضع هذه المنطقة للحاكم الفرنسي.
2) المنطقة الحمراء وتشمل الكويت والعسير وجنوب العراق حتى جلولاء شمالاً، وتتضمن البصرة وبغداد وكربلاء والنجف، وتخضع للحاكم البريطاني المباشر.
3) منطقة (أ) وتشمل المنطقة الممتدة من راوندوز في كردستان شرقاً إلى جبل لبنان غرباً وماردين شمالاً وطبرية* جنوباً. وتشمل الموصل وحلب ودمشق. وتخضغ لحكم غربي تحت النفوذ الفرنسي بما يضمن لفرنسا أفضلية في التجارة والأعمال والوظائف والأمور المالية.
4) منطقة (ب) وتمتد من السليمانية في كردستان شرقاً إلى حدود مصر غرباً وإلى العقبة والساحل الشرقي من الخليج العربي جنوباً، وتخضع للنفوذ البريطاني على نحو مماثل للنفوذ الفرنسي في المنطقة (أ).
5) منطقة فلسطين وتخضع لحكم دولي تستشار بشأنه روسيا والشريف حسين، وتستثنى منه عكا* وحيفا* اللتان تصبحان ميادين بريطانيين. وتستعمل فرنسا ميناء حيفا كميناء حر وانكلترا ميناء الاسكندرونة بالضفة نفسها.
أعطت الاتفاقية انكلترا حق إقامة خط سكة حديد بين حيفا وبغداد واستعماله إلى الأبد لنقل قواتها العسكرية.
وحرصت الدول الثلاث على إبقاء هذه الاتفاقية سراً مكنوناً حتى إذا استلم البلاشفة الحكم في بتروغراد أسرع تروتسكي إلى نشرها كنموذج للشكل الاستعماري الذي قامت على أساسه الحرب العالمية الأولى. وبادر جمال باشا الوالي العثماني لسورية بإيعاز من ألمانيا إلى لفت نظر العرب إليها ومناشدتهم العودة إلى الصف الإسلامي والنكوص على الإنكليز المخادعين.
كان الكشف عن سر الاتفاقية من أشهر الفضائح السياسية والدبلوماسية الخاصة بالمكر والغدر بالعهود في التاريخ، ولا سيما أنها جاءت بعد نحو ثلاثة أشهر فقط من تعهدات مكما هون للشريف حسين باستقلال البلاد العربية ووحدتها. وزادت من إثم بريطانيا المحاولات الهزيلة والمضللة التي بذلها مكتبها العربي في القاهرة للتغطية على الفضيحة وتجاهل حقيقتها (رَ: الحسين – مكماهون، مراسلات).
وبالإضافة إلى عنصر الغدر وانتهاك حق الشعوب كان هناك كثير من العيوب المتأصلة في الاتفاقية جغرافيا وديموغرافيا. وقد لفت النظر إلى حقيقتها النفعية الصرف في إخضاع المناطق الأكثر حضارة للحكم الاستعماري المباشر وإعطاء الاستقلال للمناطق الأقل حضارة.
ولم يلتفت أحد إلى اتفاقية سايكس – بيكو عند التسوية النهائية بعد الحرب العالمية الأولى. فقد وجدت فرنسا وإنجلترا نفسيهما في مأزق بالنسبة إليها وإلى انكشاف سرها، فمالت الأولى إلى اعتبارها لاغية بالنظر لخروج روسيا منها. ولكن فرنسا أصرت على التمسك بها فاستدعى ذلك عقد سلسلة من الاجتماعات بين لويد جورج وكليمنصو. وكان هدف فرنسا منها ضمان الاستيلاء على سورية ولبنان. ورغم تدخل الرئيس ولسن وارسال لجنة كينغ – كرين* للتحقيق في الموضوع فقد ظل النزاع بين الدولتين المتحالفتين يتفاقم ويتحول إلى خصام قومي وإعلامي. وفي أيلول 1919 تقدم لويد جورج بمقترحات تعترف فيها انكلترا بحقوق فرنسا بالانتداب على سورية بناء على تقاليد قديمة، لاعلى اتفاقية سايكس – بيكو، وبشكل جزئي.
وتضمنت المقترحات سحب القوات الإنكليزية من سورية لتحل محلها قوات فرنسية في الغرب وعربية في الشرق فتقع العقبة وعمان ودمشق وحمص وحماة وحلب تحت سلطة الجيش العربي. والمنطقة الساحلية على امتداد خط اتفاقية سايكس – بيكو تحت حكم الجيش الفرنسي. في حين احتفظت انكلترا لنفسها بحق مد خط سكة حديدية وخط أنابيب نفط من العراق إلى البحر المتوسط. وكان غرض لويد جورج الرئيس توفير نفقات الاحتلال العسكري في منطقة لا تنوي انكلترا الاحتفاظ بها.
وطرح الاقتراح على المجلس الأعلى للحلفاء في باريس في 15/9/1919 فوافق عليه كليمنصو بتحفظ واحد يتعلق بالحدود النهائية لمنطقة الانتداب، أو بالأحرى حق فرنسا بالاستيلاء على القسم الشرقي من سورية أيضاً، وهو ما فعلته. وعارض فيصل هذا الاقتراح واحتج بالتعهدات السابقة، ولا سيما البيان الإنكلو – فرنسي*، واضطر إلى الدخول في مفاوضات مع فرنسا لتسوية الخلاف.
المراجع:
– Antonius, G.: The Arab Awakening, London 1955.
– John. R. and Hadawi. S: Palestine Diary, Beirut 1970.
– Hurewitz. J. C. Diplomacy in the Near and Middle East, Princeton 1956.
– Zeine, Z.: The Struggle for Arab Independence, Beirut 1960.