من المألوف في كتب التاريخ اعتبار معركة حطين نتيجة حتمية لسياسة الأمير الصليبي أرناط صاحب حصن الكرك الذي استثار صلاح الدين الأيوبي* بسياسته الهوجاء ودأبه على العدوان على المسلمين، ناقضاً الهدنات والاتفاقيات والعقود المعقودة بين الطرفين. ولكن هذا الربط بين سياسة أرناط ومعركة حطين يحجب في حقيقة الأمر الرؤية التاريخية الواضحة لهذه المعركة، ذلك أن سياسة الجهاد التي اتبعها صلاح الدين وخطط لها تخطيطاً متقناً كانت لا بد أن ينتهي إلى صدام بينه وبين الفرنجة* – من مستوى معركة حطين – سواء ظهر أرناط على مسرح الحوادث أو لم يظهر. وأما ظهور أرناط، وسياسته الخرقاء من نكث العهود والغدر بالأمتين، واستفزاز المسلمين بالشروع في محاولات العدوان على الحرمين بالحجاز حيناً، وعلى قوافل الحجاج والتجار أحياناً، فإن ذلك لا يعدو أن يكون السبب الظاهري أو المباشر لمعركة حطين لا السبب الحقيقي.
والواقع أن صلاح الدين كان في عام 582هـ/ 1186م قد فرغ من إحياء الجبهة الإسلامية المتحدة بعيد أن دانت الموصل له بالطاعة، وغدا نفوذه يمتد فعلاً من النيل إلى الفرات، الأمر الذي جعل الفرنجة في فلسطين مطوقين من الشمال والجنوب. وزاد من سوء وضع مملكة الفرنجة في بيت المقدس اضطراب أوضاعها الداخلية نتيجة لوفاة ملكها المريض بغدوين الرابع، وقيام ملك قاصر هو بغدوين الخامس الذي لم يلبث أن توفي هو الأخر، مما أدى إلى سلسلة من المؤامرات الداخلية بين الفرنجة انتهت بتنصيب غي لوسينيان على عرش المملكة الصليبية سنة 572هـ/ 1186م. وكان غي هذا رجلاً صعباً لم يستطع أن يحظى باحترام أمراء دولته. وعلى رأسهم أرناط صاحب حصن الكرك (رَ: القدس، مملكة – اللاتينية).
وفي تلك المرحلة كانت هناك هدنة بين صلاح الدين والفرنجة مدتها أربع سنوات تبدأ بسنة 581هـ/ 1185م. ولكن أناط بسياسته الخرقاء لم يشأ أن يترك الفرنجة في فلسطين يتمتعون بهذه القرصنة لتصفية خلافاتهم الداخلية، واختار أن ينتفض في سنة 583هـ/ 1187م على قافلة للمسلمين أثناء سيرها من القاهرة إلى دمشق، فعجل بالمعركة الحتمية بين صلاح الدين والفرنجة برفضه إطلاق سراح أسرى رجال هذه القافلة. ولما اتضح لصلاح الدين عجز الملك غي لوسينيان عن ردع تابعه أرناط وإجباره على رد الأسرى لم يعد أمامه إلا القتال. وكان أن قام بحركة تعبئة شاملة لقواته التي أخذت تتوافد إليه من مصر وحلب والجزيرة وديار بكر. ولما اكتملت قواته خرج على رأسها من دمشق في 583هـ/ آذار سنة 1187 م ليهاجم حصني الكرك والشوبك. واصطدم بالفرنجة عند صفورية*في موقعة سقط فيها معظم جيشهم بين قتلى وأسرى، في حين عد المسلمون هذا النصر “باكورة البركات”.
أما الفرنجة فقد ثابوا إلى رشدهم بعد هذه الهزيمة التي حلت بهم، فوحدوا صفوفهم، وحاولوا أن يتناسوا خلافاتهم، وحشدوا قواتهم عند صفورية. وهنا ظهرت براعة صلاح الدين العسكرية، فقرر ألا يتقدم نحو الصليبيين لمنازلتهم، واختار أن يستدرجهم ليسيروا نحوه فيصلوا إليه منهكين من طول الطريق وحرارة الجو وقلة الماء. ولذلك بادر صلاح الدين بمهاجمة مدينة طبرية* وإحراقها – وكانت من ممتلكات الفرنجة – الأمر الذي استشارهم فزحفوا لتخليصها في ظروف قاسية. وكان صلاح الدين ورجاله ينتظروهم قرب طبرية ناعمين بالماء الوفير والظل المديد، مدخرين قواهم لساعة الفصل. وعندما سمع صلاح الدين بأن الصليبيين شرعوا في الزحف إليه تقدم على رأس رجاله نحواً من خمسة أميال ليرابط غربي طبرية عند قرية حطين*. وهي قرية من منطقة غنية المرعى وفيرة الماء بها قبر النبي شعيب.
وكان ذلك في 583هـ/ تموز 1187م في يوم راكد الهواء شديد الحرارة بلغ فيه الفرنجة “سطح جبل طبرية”المشرف على سهل حطين، وهي منطقة على شكل هضبة ترتفع عن سطح البحر أكثر من 300م، ولها قمتان أشبه بالقرنين، مما جعل العرب يطلقون عليها اسم “قرون حطين”. وقد حرص صلاح الدين على أن يقف رجاله بحيث يحولون بين الفرنج والوصول إلى ماء بحيرة طبرية في وقت “اشتد بهم العطش”. ثم أمر صلاح الدين بإشعال النار والأعشاب والأشواك التي تكسو الهضبة، “وكانت الريح على الفرنج، فحملت حر النار والدخان إليهم، فاجتمع عليهم العطش، وحر الزمان، وحر النار، والدخان وحر القتال” على قول ابن الأثير.
وعندما أشرقت شمس يوم السبت اكتشف الفرنجة أن صلاح الدين استغل ستار الليل ليضرب نطاقاً حولهم حتى أحاطت بهم قواته “إحاطة الدائرة بقطرها”. وبذلك بدأ الهجوم الشامل على الفرنجة وهم في أسوا الظروف “فأخذتهم سهام المسلمين، وكثر فيهم الجراح، وقوي الحر وسلبهم العطش الفرار” على قول المؤرخ ابن واصل. وكان أن انتهت المعركة بوقوع الجيش الصليبي بأكمله بين أسرى وقتلى، ولم يستطع النجاة من أمراء الصليبيين سوى ريموند أمير طرابلس في قلة من رجاله.وأما غي لوسينيان ملك الفرنجة، وأرناط صاحب حصن الكرك، وجيرار مقدم الداوية*، فقد سيقوا مع غيرهم من أكابر الفرنجة إلى صلاح الدين في مخيمه، فأحسن استقبالهم وأمر لهم بالماء المثلج ليرووا ظمأهم، خلا أرناط الذي ذكره صلاح الدين بجرائمه، “وقرعه بذنوبه وعدد عليه غدراته”، ثم أمسك سيفه وأطاح برأسه.
والحق إن معركة حطين بالنسبة إلى الفرنجة كانت أضخم من كارثة حربية، لأنه لم ينتج عنها أسر ملكهم وضياع هيبة مملكتهم وسلطتها الفعلية في فلسطين فحسب، وإنما نتج عنها أيضاً نقص واضح في الفرسان المحاربين، بعد أن سقط زهرة فرسانهم بين قتيل وأسير “فمن شاهد القتلى قال ما هناك أسير، ومن عاين الأسرى قال ما هناك قتيل” على قول أبي شامة.ولا يخفى أن الوجود الصليبي الذي ولد ضعيفاً في أواخر القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، وظل منذ ذلك الوقت يعاني نقصاً شديداً في المحاربين والسكان الفرنجة، كان لا يستطيع أن يتحمل الكارثة التي حلت به في حطين.وهكذا غدت فلسطين عقب معركة حطين في متناول قبضة صلاح الدين، فشرع بفتح البلاد والمدن والثغور الصليبية واحداً بعد آخر، حتى توج جهاده بتحرير بيت المقدس في سنة 583هـ/ 1187م.
المراجع:
– ابن الأثير: الكامل في التاريخ، القاهرة 1303هـ.
– أبو شامة: أزهار الروضتين في أخبار الدولتين، القاهرة 1287هـ.
– ابن شداد: سيرة صلاح الدين (النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية)، القاهرة 1964.
– ستيفن رنسيمان: تاريخ الحروب الصليبية (مترجم)، بيروت 1967.
– سعيد عبد الفتاح عاشور: الحركة الصليبية، القاهرة 1963.