بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى التي أسهم العرب فيها بالقتال إلى جانب الحلفاء كان العرب ينتظرون أن يفي الحلفاء بوعودهم باستقلال الأقاليم العربية التي كانت تابعة للإمبراطورية العثمانية وتوحيدها. غير أن الحلفاء نكثوا بوعودهم فاقتسموا هذه الأقاليم فيما بينهم (فرنسا وانكلترا) وأخضوعها لاستعمارهم باسم “نظام الانتداب”. وباشرت بريطانيا التي انتدبت على فلسطين بأعمال وعد بلفور*، وبفتح الباب لهجرة اليهود إلى فلسطين، فأخذ هؤلاء يتدفقون إليها. وهنا أدرك العرب في فلسطين خطورة ما بيت لهم الاستعمار البريطاني والصهيونية، فكانت ثورة 1920 أول تحرك شعبي جماهيري واسع للتعبير عن شعورهم بخيبة آمالهم وإحباط مطالبهم.
سادت الأساليب السلبية الكفاح الفلسطيني طيلة فترة 1918 – 1929: مذكرات، وعرائض، ووفود إلى الحكومة البريطانية، ومؤتمرات تعقد بترخيص من حكومة الانتداب وتتمخض عن قرارات معتدلة بسبب تركيز القيادات السياسية الفلسطينية على توجيه عداء الجماهير العربية الفلسطينية على توجيه عداء الجماهير العربية الفلسطينية إلى الصهيونية دون التشديد على الارتباط الوثيق بين الصهيونية والاستعمار البريطاني. ولقد تخللت تلك المرحلة صدامات كثيرة بين المستعمرين الصهيونيين والسكان العرب. وكان جوهر الصراع قومياً وطبقاً في آن معاً، ذلك لأن الصهيونية جاءت غزوا استعمارياً استهدف اقتلاع الوجود القومي العربي لشعب فلسطين، كما أن الصهيونيين احتلوا مواقع طبقية ممتازة على حساب عرب فلسطين كموظفين كبار، وملاك، وأصحاب أعمال.
وكان هناك أكثر من مصادر للسخط الشعبي المتزايد في أواسط الشعب العربي الفلسطيني. فاللجنة الصهيونية (وهي لجنة وافق الحلفاء على تشكيلها برئاسة حاييم وايزمان عام 1918م لتتعاون مع حكومة الانتداب البريطاني في تطبيق وعد بلفور) أخذت تدني بالكثير من التصريحات الاستفزازية التي كشفت أطماع الحركة الصهيونية في فلسطين، ومحاباة سلطات الاحتلال البريطاني للمستعمرين الصهيونيين على حساب السكان العرب في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية وغيرها. فقد قررت السلطات البريطانية – على سبيل المثال – جعل العبرية لغة رسمية في فلسطين، وأغدقت الامتيازات على اللجنة الصهيونية وأعضائها.
ومن أبرز الأسياب الاجتماعية لثورة 1920 وضع الفلاح العربي الفلسطيني الذي ناء تحت وطأة الضرائب المتراكمة عليه منذ أواخر العهد العثماني ونهاية الحرب العالمية الأولى بعد أن أصرت سلطات الاحتلال البريطاني على جمعها بكاملها. ويتضح مدى الجور في هذا الوضع إذا علم أن متوسط الدخل السنوي للفلاح العربي الفلسطيني كان يبلغ عندئذ نحو 26 جنيها، وكان عليه دفع نحو ستة جنيهات منها ضرائب للحكومة. ورفضت الحكومة في الوقت نفسه إنشاء مصرف زراعي لإقراض الفلاحين العرب، مما أوقع الفلاح العربي فريسة للمرابين الذين كانوا يتقاضون على ديونهم للفلاحين فائدة تراوح بين 30 و50%. أما مثقفو عرب فلسطين فقد تزايد سخطهم بسبب تقلد البريطانيين والمستعمرين الصهيونيين للوظائف العليا في البلاد، وحضر العرب في الوظائف الصغرى، بالإضافة إلى معارضتهم سياسة الاختلال التعليمية الرامية إلى تقليص عدد المتعلمين العرب إلى ما يكفي لسد سلطات الاحتلال بالموظفين لإدارة البلاد وتيسير استغلال وامتصاص مواردها لصالح الاستعمار والصهيونية. في حين أغدقت هذه السلطات الاعتمادات المالية الكبيرة لتدعم أوساط المستعمرين الصهيونيين.
وهناك عوامل أخرى محلية وخارجية كانت أيضاً من أسباب إلهاب الحماسة الوطنية للجماهير الفلسطينية كمنع السلطات البريطانية المؤتمر الفلسطيني* من عقد دورته الثانية في شباط 1920، واعتلاء فيصل بن الحسين العرش في سورية، وقرار مجلس النواب التركي في كانون الثاني 1920 القاضي بضرورة منح الولايات العربية حق تقرير المصير، ونمو الحركة الثورية في مصر والسودان وسورية ولبنان والعراق والمغرب.
سبق ثورة 1920 (4 – 10 نيسان) انتشار المظاهرات الجماهيرية في معظم أنحاء فلسطين، مما دفع الإدارة البريطانية، بضغط من الصهيونيين، إلى إصدار أمر يوم 11/3/1920 بمنع المظاهرات بمختلف أشكالها. وإلى ذلك أخذت بعض مظاهر العنف ضد الاستيطان الاستعماري الصهيوني تبرز في الجانب العربي، ومن أمثلة ذلك هجوم جماعات وطنية في شهر آذار 1920 على مستعمرتي تل حي والمطلة في منطقة الحولة أسفر عن مقتل النقيب الصهيوني (الكابتن) جوزيف تروميلدور وستة صهيونيين آخرين. ومن أمثلة ذلك أيضاً الهجومان اللذان قامت بهما، في شهر نيسان 1920، قبائل عربية عبر الأردن، وحاصرت فيهما مستعمرات صهيونية محاطة بأسلاك شائكة. كما هوجمت في الوقت ذاته الحاميات البريطانية في سمخ* وبيسان*، وعطلت المواصلات البرقية والهاتفية، مما دفع القيادة العسكرية البريطانية إلى إرسال نجدات بالقطارات، وإلى قصف المهاجرين بالطائرات.
لقد توفرت العوامل الكافية لدى الشعب الفلسطيني للثورة، وكان موعد احتفال المسلمين بموسم النبي موسى مناسبة لذلك. وصادف موعد أسبوع عيد الفصح والاحتفال به لدى المسيحين واليهود موعد موسم النبي موسى نفسه. وقد أحدث هذا قلقاً بالغاً لدى الصهيونيين والإدارة البريطانية.
موسم النبي موسى هو من المناسبات التي ابتكرتها عقلية القائد صلاح الدين الأيوبي* بهدف تجميع الناس واستغلال هذا التجمع للتحريض على مقاومة الصليبيين. ويبعد موقع الاحتفال نحو 30 كم إلى الشرق من القدس* على طريق القدس – أريحا.
وتبدأ الاحتفالات بتجمع سكان مدن وقرى فلسطين في مدينة القدس حيث يفدون إليها شاهرين سيوفهم ورماحهم، رافعين راياتهم، منشدين الأناشيد الدينية والوطنية. ويلتقي الجميع في المسجد الأقصى، ثم يتجهون منه بعد ذلك إلى مكان الاحتفال.
وقع صدام يوم 4/4/1920 حين منعت الشرطة أهل الخليل من دخول القدس للاشتراك في الاحتفال، وكان أهل القدس ومعهم أبناء نابلس قد خرجوا لاستقبالهم. وشارك في الاستقبال أبناء الطوائف المسيحية حسب العادة المتبعة، وارتفعت من الجموع المحتشدة هتافات وطنية تطالب بالوحدة العربية والاستقلال. وتنادي بالأمير فيصل ملكاً على سورية وفلسطين، وتعلن رفضها للوطن القومي اليهودي والهجرة الصهيونية.
اقتحم أبناء الخليل باب الخليل في القدس عنوة، واتجهت الجموع حاملة العلم إلى الساحة أمام باب الخليل. وعلى شرفة النادي العربي وقف الخطباء، فتكلم موسى كاظم الحسيني* رئيس بلدية القدس ورئيس الجمعية الإسلامية – المسيحية*، وخليل بيدس*، وعارف العارف، والحاج أمين الحسيني*، وغيرهم. وكانت الكلمات كلها حماسية أثارت الشعور القومي.
في تلك الأثناء اندسّ صهيوني اسمه “كريمر بن مندل” بين صفوف الجماهير وتقدم إلى العلم محاولاً خطفه وتمزيقه فانقض عليه بعض الرجال وقتلوه. ثم جاء صهيوني آخر مع عدد من الجنود الإنكليز وحاول اختطاف العلم مرة أخرى أخرى فأهوى عليه أحد الرجال بسيفه وقتله.
اجتمع إثر ذلك الشباب اليهود والجنود الإنكليز وهاجموا العرب المحتفلين بموسم النبي موسى فنشبت بين الفريقين معركة حامية سقط فيها تسعة قتلى و122 جريحا من الطرفين. وفجرت هذه المعركة الصراع ضد الاستعمار والصهيونية. فاستمر القتال الذي لم يتعد مدينة القدس مدة خمسة أيام، وانتهى في 8/4/1920 بقيام القوات البريطانية بمحاضرة المدينة المقدسة. وذكر بلاغ بريطاني رسمي أن حصيلة المعارك كانت مقتل أربعة من العرب، وتسعة من اليهود، و250 جريحاً من الطرفين.
كان هياج الجماهير العربية، وتحدي اليهود لها، واستفزازهم للعرب بالتسلل إلى المواكب والهتاف ضد فيصل، كذلك كانت المظاهرة التي تزعمها جايوتنسكي ،والرصاص الذي أطلقه الجنود البريطانيون والمسلحون من الصهيونيين، كان ذلك كله كافياً لوقوع الاصطدامات الدموية يوم 4 نيسان، والإعلان الأحكام العرفية في اليوم التالي.
وبالرغم من إعلان الأحكام العرفية، وحظر التجول، وتعطيل جميع الصحف، استمرت أعمال المقاومة والعنف من 4 – 10 نيسان.
أصدرت سلطات الانتداب أحكاما مختلفة بالحبس ضد 23 شخصاً لاشتراكهم في ثورة القدس، من بينهم عارف العارف وأمين الحسيني اللذان تمكنا من الفرار إلى شرقي الأردن. كما أقالت سلطات الانتداب موسى كاظم الحسيني من رئاسة بلدية القدس وعينت راغب النشاشيبي مكانه.
كلفت الحكومة البريطانية “لجنة بالين” مهمة التحقيق في أسباب ثورة 1920. وقد ذكرت اللجنة في تقريرها “أن الهجوم كله كان ضد اليهود”، ولكنها اعترفت بأن البريطانيين في فلسطين “يواجهون مواطنين محليين يهيمن عليهم السخط الشديد بدافع من شعورهم بالغين وخيبة الأمل، ويلفهم الذعر بشأن مستقبلهم. ونتيجة ذلك أن 90% منهم يكنون عداء مريراً للإدارة البريطانية العامة”.
وثمة ظاهرة تبلورت إبان ثورة 1920 وكشفت عن وحدة السياستين الإنكليزية والصهيونية في فلسطين، وهي نشوء وحدات عسكرية شكلها جابوتنسكي الذي كان يحارب في صفوف الجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى. وقد جاء في تقرير لجنة بالين أن هذه الوحدات شكلت دون موافقة الإدارة العامة (البريطانية) أو معرفتها، ولكنها “كانت تتدرب بصورة علنية وراء مدرسة “ليمل” وفوق قمة جبل الزيتون”. وهو أمر عرفه العرب خلال شهر آذار 1920. وأهم من ذلك وأعظم دلالة أن الإدارة العامة اتخذت، حسب تقرير اللجنة، قراراً باستخدام “هذه الوحدات غير الشرعية”.
ولفتت ثورة القدس أنظار مؤتمر السلام في سان ريمو* إلى النزاع العربي- الصهيوني في فلسطين. ولكن المؤتمر، بدلاً من أن يعيد النظر في سياسة بريطانيا بشأن الوطن القومي اليهودي في فلسطين، منح بريطانيا حق الانتداب على فلسطين، وحدد واجباتها من خلال تضمين صك الانتداب* نص وعد بلفور على الرغم من التناقض الواضح بين فرض وعد بلفور على الشعب الفلسطيني وبين حق هذا الشعب في تقرير مصيره وسيره نحو الاستقلال بموجب عهد عصبة الأمم ووعود الحلفاء المقطوعة في هذا الصدد (رَ: عصبة الأمم).
فشلت المقاومة العربية العنيفة في إحداث أي تغييرات جوهرية في الصورة العامة للسياسة البريطانية في فلسطين. وعلى النقيض من ذلك. بادرت الحكومة البريطانية إلى تعيين هربرت صموئيل السياسي اليهودي الصهيوني المعروف الذي كان يشغل عام 1916 منصب وزير الداخلية، أول مندوب سام في بريطاني في فلسطين. وقال صموئيل في مذكراته إنه عين في المنصب المذكور مع معرفة حكومة صاحبة الجلالة التامة بعواطفه الصهيونية، بل بسبب هذه العواطف إلى حد كبير.
اتصفت ثورة 1920 بالخصائص التالية:
1) كانت التجربة الشعبية الجماهيرية الأولى للمقاومة الفلسطينية ضد الاستعمار والصهيونية اللذين كانا يمهدان لتنفيذ خططهما في سلب الشعب العربي الفلسطيني وطنه وطرده منه. وبالرغم من أن أهداف هذه الخطط لم تكن واضحة يومذاك كل الوضوح، كان وعد بلفور، وإقدام بريطانيا على تنفيذه، وتدفق الهجرة الصهيونية إلى فلسطين*، وبدء أعمال الاستيطان الاستعماري الصهيوني في فلسطين، والشروع في تشكيل وحدات عسكرية صهيونية، كان ذلك كله من الأسباب التي نبهت الشعب الفلسطيني إلى مخاطر هذه السياسات والخطط.
2) مثلت ثورة 1920 الشعور العربي الفلسطيني بالخيبة والإخفاق إثر نكث الحلفاء، وبخاصة بريطانيا، بوعودهم التي قطعوها للعرب باستقلال بلادهم ووحدتها.
3) نقلت ثورة 1920 الكفاح ضد الاستعمار والصهيونية من مرحلة البدء بالوعي وإدراك المخاطر إلى مرحلة المقاومة الشعبية.
4) لم تكن قوى المقاومة التي ظهرت في الثورة منظمة ومعبأة وموجهة بشكل يؤهلها للقيام بعمل ثوري، أو ثورة ذات نفس طويل في المقاومة والمناورة والتكتيك. فقد كانت ثورة العشرين محلية (القدس) وقصيرة المدى الزمني (7 أيام) وفاقدة أي تخطيط استراتيجي أو عملياتي، ولم تتعد كونها انفجاراً شعبياً نضالياً واسعاً، عارفاً بأهدافه، واعياً لغاياته، غير منظم أو معبأ، مفتقراً إلى التخطيط والقيادة الثورية النضالية.
ومن هنا اختلفت آراء المؤرخين والباحثين في وصف أحداث نيسان 1920، فمنهم من رأى أنها “انتفاضة” في حين وصفها آخرون بأنها “أحداث دامية” أو “اصطدامات دامية”، وقليلون سموها “ثورة”، وهذا هو الأرجح للأسباب التالية:
1) كانت أحداث نيسان 1920، في أسبابها وأهدافها، اللبنة الأولى للثورات التي نشبت فيما بعد في فلسطين وللانتفاضات التي وقعت فيها. فقد سارت تلك الثورات والانتفاضات في خطوطها العامة ومراحلها وأحداثها مسيرة ثورة العشرين من حيث الهدف الرئيس، وهو جعل فلسطين مستقلة عربية خالصة لشعبها، بالرغم مما بين ثورة العشرين والثورات والانتفاضات التي تلتها من اختلاف وتباين في الطرائق والوسائل والقيادات والبنية الاجتماعية وغيرها.
2) لم تكن الظروف في فلسطين عام 1920 مهيأة لقيام ثورة منظمة معبأة بقوى ثورية وفق الشروط والمفاهيم والمقاييس التي لا بد من توافرها في أي “ثورة” أو “حدث ثوري”، ذلك أن الخطط الاستعمارية والصهيونية كانت في بداية تنفيذها. وكان الاستعمار والصهيونية يتعبان أخبث السبل، ويستخدمان أحط الوسائل من أجل تنفيذ خططهما بالتضليل والكذب والخداع حياً، وبالإرهاب والاضطهاد وقوة السلاح حينا آخر.
3) وبناء على ذلك لم يكن ممكناً يومذاك نشوء بؤرية أو قوى ثورية في صفوف الشعب الفلسطيني. وحينما أدرك هذا الشعب، وبخاصة في المدن، مخاطر ما ينوي الاستعمار والصهيونية فعله بدأت إرادة المقاومة تنمو وتظهر وتفعل. وجاءت أحداث نيسان 1920 لتكون أول تعبير عن ثورة الشعب الفلسطيني على أعدائه.
المراجع:
– عبد الوهاب كيالي: تاريخ فلسطين الحديث، بيروت 1973.
– صالح مسعود بو بصير: جهاد شعب فلسطين خلال نصف قرن، بيروت 1968.
– بيان نويهض الحوت: القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين 1917 -1948، بيروت 1981.
– كامل محمود خلة: فلسطين والانتداب البريطاني، بيروت 1968.