يطلق على برلمان الولايات المتحدة الأمريكية اسم الكونغرس. وهو يتكون من مجلسين: مجلس النواب (أو الممثلين) ومجلس الشيوخ.
يتألف مجلس النواب من 435 نائباً (إحصاء عام 1980) ينتخبون لمدة سنتين بنسبة عدد السكان. وأما مجلس الشيوخ فينتخب أعضاؤه لمدة ست سنوات ويتجدد ثلث أعضائه كل عامين مع انتخاب النواب. وترسل كل ولاية مندوبين اثنين إلى مجلس الشيوخ بصرف النظر عن عدد سكانها أو اتساع رقعتها.
يترأس مجلس الشيوخ نائب رئيس الجمهورية المنتخب معه. وأما رئيس مجلس النواب فينتخب من المجلس ويمارس تلقائياً صلاحيات نائب رئيس الجمهورية إذا شغر منصب الرئيس وحل نائبه محله.
الكونغرس الأمريكي سلطة تشريعية في الأساس. وهو يملك حق التشريع ضمن الحدود المقررة في الدستور. ويملك إلى جانب ذلك اختصاصات على جانب من الأهمية. فهو يملك السلطة المؤسسة ويمكنه تعديل الدستور إذا أقر هذا التعديل من كل من المجلسين بأغلبية الثلثين وصدقته المجالس التشريعية لثلاثة أرباع الولايات.
ويملك مجلس النواب حق انتخاب رئيس الجمهورية إذا لم يحصل المرشح للرئاسة على الأغلبية المطلوبة في حين ينتخب مجلس الشيوخ نائبي الرئيس في حالة شغور منصبه لسبب ما.
ويملك الكونغرس سلطة اشراف ورقابة على المصالح العامة. فهو يقرر إحداثها ويحدد امتيازاتها وسيرها ويراقب إدارتها المالية. كما أنه يمارس نوعاً من السلطة القضائية بطريق الاتهام فيحال أمامه الموظفون الاتحاديون المتهمون بالخيانة أو الرشوة أو الجرائم المرتكبة ضد الدولة. ويملك مجلس النواب حق الاتهام بعد سماع تقرير لجنة تحقيق يؤلفها في حين يتحول مجلس الشيوخ إلى محكمة تنظر في القضية في جلسات سرية.ويمكن لهذا المجلس أن يتخذ بأغلبية الثلثين قراراً بعزل الموظف المحال. ولقد حملت هذه الصلاحيات الواسعة رئيساً قوياً كريتشارد نيكسون على الاستقالة حين شعر أن اجراءات ضده ستتخذ في هذا الاتجاه بعد استفحال موضوع “ووترغيت”.
ويملك مجلس الشيوخ دون مجلس النواب صلاحيات هامة في شؤون التعيين والسياسة الخارجية. ويترتب على رئيس الجمهورية أن يحصل على موافقة هذا المجلس عند تعيين الوزراء والسفراء والقناصل وكبار الموظفين الاتحادين وأعضاء المحكمة العيا. ويعقد رئيس الجمهورية المعاهدات الدولية. غير أنه يتعين تصديقها من مجلس الشيوخ بأغلبية ثلثي الأعضاء الحاضرين. ومن الحوادي المأثورة رفض مجلس الشيوخ تصديق معاهدة فيرساي بعد الحرب العالمية الأولى، مما أدى إلى بقاء الولايات المتحدة الأمريكية خارج عصبة الأمم التي كان الرئيس الأمريكي وليس أحد بناتها. وكذلك اشترط مجلس الشيوخ حديثاً ربط نفاذ معاهدة التبادل التجاري مع الاتحاد السوفييتي بسماح الأخير بهجرة اليهود السوفيات من أراضيه، وخاصة إلى (إسرائيل) ويحاول الرؤساء تجاوز هذا التصديق بعقد “اتفاقيات تنفيذية”. غير أن مجلس الشيوخ بدأ يتصدى لها ويخضعها لتصديقه.
وخلافاً للاتجاه العام الذي يسجل ميل اختصاصات مجلس الشيوخ إلى التقلص في معظم الدول فإن مجلس الشيوخ الأمريكي احتفظ باخنصاصاته، بل إنها نمت واتسعت مع الزمن.
ويقوم الدستور الأمريكي على فصل السلطات: فلا الكونغرس يملك حمل الرئيس على الاستقالة ولا الرئيس يملك حل الكونغرس. ولكن هذا الفصل ليس تماماً. فهو فصل نسبي إذ يملك كل من الرئيس والمجلس وسائل متبادلة للتأثير. ولا شك أن من أهم وسائل الكونغرس – بالإضافة إلى ما تقدم – لتأثير على الرئيس الذي يفترض أنه المرجع النهائي في رسم السياسة الخارجية للولايات المتحدة السلطات المالية المخولة إليه. فهو الذي يملك إقرار اعتمادات الموازنة، الأمر الذي يمكنه بالتالي من ممارسة ضغط مباشر على الرئيس والإدارة العامة في البلاد.
في ضوء وضع سياسي ودستوري كهذا، وفي غياب أحزاب عقائدية بالمعنى المعروف في الدول الأخرى، لا عجب أن تركز الحركة الصهيونية على الكونغرس على غيره من مؤسسات الحكم الأمريكي مستغلة صداقاتها تارة ونفوذها على العدد الأكبر من أعضاء مجلسيه تارات لتحقيق أهدافها في اقامة الدولى اليهودية أولا ودعمها وتحقيق تفوقها العسكري والسياسي بعد ذلك.
ثمة حقيقة لا بد من تسجيلها هنا هي أن الحزبين الأمريكيين الكبيرين (الجمهوري والديمقراطي) الذين يتناوبان الأغلبية في الكونغرس لا يختلفات البتة في حاجتهما إلى اليهود الأمريكيين من حيث الدعم المالي اللازم في الانتخابات ووسائل الاعلام التي تهيمن عليها الصهيونية، أو من حيث الحصول على أصوات اليهود، ولا سيما في الولايات الكبرى كنيويورك وكاليفورنيا وايللينوي وبنسلفانيا وغيرها ومرشحو الحزبين مضطرون إلى التزلف للمؤسسات اليهودية وجماعات الضغط المنبثقة عنها ليضمنوا فوزهم في الكونغرس واستمرارهم فيه. ويستوي في ذلك الجمهوري والديمقراطي ما دام الحزبان ليسا سوى تجمع أشخاص رباطهم الأساسي تمثيل مجموعات متفاوتة من الناخبين في غياب خط عقائدي واضح. فمهما قيل من أن الجمهوريين يمثلون رأس المال في حين يرتكز الديمقراطيون على الطبقة العاملة فإن هذا ليس صحيحاً كل الصحة. ففي الحزب الجمهوري ليبراليون ومحافظون، وفي الحزب الديمقراطي مثل ذلك.
والأمر في النهاية سلوك شخصي لكل عضو. ويبقى موضوع دعم الجمهوري أو الديمقراطي (لإسرائيل) في المجلسين موضوعاً نسبياً يعتمد على مدى حاجة كل مرشح إلى المال والصوت اليهوديين.
فشيوخ ونواب الولايات الصناعية عامة مندفعون جداً في دعم الصهيونية رغم أنهم ليسوا بالضرورة يهودا. وأما شيوخ ونواب الولايات الزراعية، حيث التجمعات اليهودية قليلة أو لا نفوذ لها، فدعمهم أقل وهو صادر عن محاولة اليهود استشارة مشاعرهم الانسانية أو الدينية تارة وتخويفهم باتهامهم في مبادئهم التي قد لا يكون لها علاقة (بإسرائيل) أو اليهود تارة أخرى.
فالشيخ فولبرايت مثلاً، وهو من الشيوخ المعتدلين في أمريكا، على الأمرين من الضغوط الصهيونية لحمله على تغيير موقفه. ولما كانت ولاية “أركنساس” التي يمثلها تجعله في غنى عن الصوت أو المال اليهوديين فقد دأب على النجاح حراً من المنة اليهودية. ولكن اليهود تابعوه وابتزوه في مواقفه التي وصفوها بالمحافظة فيما يتعلق بممارسة الحقوق المدنية للملونين، وظلوا وراءه حتى خسر مقعداً شغله نيفا وعشرين عاماً.والشيخ جيمس أبي رزق، وهو أول أمريكي من أصل عربي يصل إلى مجلس الشيوخ عام 1972، لم يتمكن اليهود من الحيلولة بينه وبين مقعده عن ولاية داكوتا الجنوبية. ولكنهم هاجموه بقسوة وبلا رحمة في أمور أخرى كالخلافات بين المزارعين ومصدري الألبان، ونسبوا إليه كثيراً من التهم فاضطر إلى عدم ترشيح نفسه من جديد عام 1978.
وبطريقة معاكسة تجد أعضاء في المجلسين من غير اليهود يتسابقون في الدفاع عن (إسرائيل) أكثر من النواب أو الشيوخ اليهود أنفسهم، لأنهم في وجودهم في مناصبهم مدينون للصوت أو المال اليهوديين.
ويمكن القول، دونماً تجاوز، انه منذ تغلغل الحركة الصهيونية في النظام الأمريكي مع بداية الأربعينات لم يجرؤ صوت واحد في أحد مجلسي الكونغرس الأمريكي على المنازعة في مشروعية (إسرائيل). وأما العدد القليل من المعتدلين، أو ممن يسمون مؤيدي العرب في الكونغرس، فقد انحصرت مطالبهم في دعوة بلادهم إلى انتهاج سياسة أكثر تفهما لوجهة النظر العربية. ويؤكد الحقائق ما تقدم حتى بعد أن اتضح الطابع التوسعي العدواني (لإسرائيل) غداة حرب 1967*. إذ يقول الشيخ جوزيف كلارك (ولاية بنسلفانيا) في تقرير رفعه إلى مجلس الشيوخ في نيسان 1967 عن أسباب التوتر بين العرب (وإسرائيل): “إن سبب التوتر الرئيسي هو طموح وأطماع جمال عبد الناصر* الذي يرى نفسه قائداً للأمة العربية والاسلام والشعوب المستقلة حديثاً في افريقيا … ويعد بأن يحمل شعبه من المستوى المنحط لمستعمرة بريطانية إلى مستوى دولة كبرى في العالم” وأما عن (إسرائيل) فيقول انها “واحة للازدهار تحيط بها صحارى من الفاقة العربية، وهي مهددة من كل جانب”. ويصل في نهاية تقريره إلى نتائج تنسجم مع هذا التشويه اللأخلاقي حين يطالب في بند مستقل – “أن تحمي أمريكا استقلال وسلامة إسرائيل” دون غيرها من دول منطقة الشرق الأوسط التي زارها، ومنها اليونان وتركيا حليفتا أمريكا في حلف الأطلسي.
وفي أسبوع العدوان الإسرائيلي عام 1967 والأسبوعين التالين أدلى ما يزيد عن 146 شيخاً وعضواً في مجلس النواب يمثلون 25 ولاية أمريكية بآرائهم حول الموضوع. وكان 98% من هذه البيانات مؤيداً (لإسرائيل) في موقفها، حتى في تلك الرحلة التي كان العالم فيها مأخوذاً بشاعة وهول العدوان الذي كانت واشنطن على علم مسبق به إذا لم تقل انه خطط له بالتعاون معها. فلا غرابة أن يطلب 76 شخصاً أمريكا من أصل 100 في تموز 1970 أن تقدم أمريكا (لإسرائيل) المزيد من طائرات الفانتوم وأسلحة الدمار الأخرى، وأن تصر على مطلب (إسرائيل) بالمفاوضات المباشرة مع العرب. ولا غرابة أن يسقط في مجلس الشيوخ في أواخر آب 1970 اقتراح للسناتور فلبرايت لتحديد حجم المساعدات الأمريكية (لإسرائيل) حتى تعلن استعدادها للانسحاب من الأراض المحتلة.
لقد أوقف الكونغرس الأمريكي كل المساعدات العسكرية والمالية عن تركيا غداة غزوها لجزيرة قبرص سنة 1974. وأما (إسرائيل) فكان الكونغرس وما يزال يكافئها عقب كل عدوان جديد ترتكبه برفع المساعدات المقدمة إليها دون قيد أو شرط. وليست ببعيدة عن الذاكرة تلك الضجة الكبرى التي أثارها الكونغرس حول بيع الولايات المتحدة الأمريكية المملكة العربية السعودية طائرات من نوع ف-15 بحجة أنها قد تستخدم العدوان على (إسرائيل). في حين أنه كان وراء حكومة كارتر لبيع مثل هذه الطائرات وتسليمها فوراً (لإسرائيل) التي سارعت إلى استخدامها في ضرب جنوب لبنان في آذار 1978 منطقة القنابل الأمريكية العنقودية المحرمة دولياً. وما تمت الصفقة السعودية بعد لأي إلا كجزء من صفقة اجمالية سياسية وعسكرية (لإسرائيل) فيها نصيب الأسد في الكم والكهف وطريقة الدفع على السواء.
يتجلى موقف الكونغرس الأمريكي الموالي (لإسرائيل) في عدة جوانب:
- أنه المرجع الأول والأخير في تخصيص الاعتمادات المالية (لإسرائيل) سواء ما يدفع منها نقداً أو في شكل اعتمادات طويلة الأجل لسداد ثمن ما تسترده (إسرائيل) من معدات وأدوات وبضائع، ولا سيما الأسلحة.
- أنه بسلطاته الواسعة التي ذكرت من قبل قادر على الضغط على الإدارة الأمريكية للاستمرار في سياسة دعم (إسرائيل) والتحالف الواقعي معها، أو لردعها عن أي اعتدال قد يتراوى للكونغرس في سلوكها تجاهها. ولقد عانى الرئيس أيزنهاور من الكونغرس الأمرين في كل مشروع قدمه إليه، وفي كل مواجهة كانت له معه بعيد عدوان 1956 على مصر. كما تعرض الرئيس كارتر لمساومة كبيرة من الكونغرس على أساس مد (إسرائيل) بالمزيد من السلاح والعتاد وتحقيق صلح منفرد بينها وبين مصر في مقابل اقار الكونغرس لمشاريعه حول الطاقة وإقرار معاهدة قناة بنما (المرحلة الأولى).
- أن الكونغر بمجلسيه (وخاصة مجلس الشيوخ) قادر عن طريق لجانه وتحقيقاته (وكلها تنتشر للرأي العام) على التأثير، لا في الإدارة الأمريكية فحسب بل في اتجاهات الرأي العام كأحد العناصر التي تؤخذ في الحسبان لرسم السياسة الأمريكية الخارجية.
- سن الكونغرس التشريعات اللازمة لتمكين المؤسسات اليهودية المنبثة في جميع أنحاء الولايات المتحدة، وعلى رأسها الجبابة اليهودية الموحدة، من الحصول على أموال الأمريكيين المعفاة من الضرائب والمخصصة أصلاً للمشروعات الخيرية وتحويلها إلى (إسرائيل). وقد قام الشيخ فولبرايت في الستينات بتحقيق واسع في هذه المخالفة الدستورية الفاضحة، ولكن تقرير لجنته حفظ في ملفات الكونغرس رغم ما فيه من تنبيه إلى الخطر على النظام السياسي الأمريكي نفسه.
وقد شعر الأمريكيون الذين هم من أصل عربي، وعددهم الآن يجاوز المليونين، أن عليهم التحرك للتأثير على الكونغرس كواحد من السلطات السياسية العاملة في النظام الأمريكي. وتمكن ما يسمى “باللوبي العربي” من أن ينجح في انتخابات عام 1978 ويوصل خمسة أعضاء إلى مجلس النواب الأمريكي من أنصاره أو أعضائه، كما تمكن من إيصال أمريكي من أصل عربي (فيكتور عطية) إلى منصب حاكم ولاية “أوريغون”. ويسعى اللوبي العربي لطرح قضية الشعب الفلسطيني بأصولها ومضامينها الحقيقية داخل الكونغرس وخارجه. ومهما تكن قيمة تحرك هذا اللوبي محدودة بالقياس إلى اللوبي اليهودي فإنها محاولة تستحق المتابعة والتصعيد.
المراجع:
- كمال غالي: مبادىء القانون الدستوري والنظم السياسية، دمشق 1978.
- ريتشارد ستيفنز: الصهيونية الأمريكية وسياسة أمريكا الخارجية، بيروت.