أمام الباحث في أمر الإرهاب الصهيوني فرصة نادرة لا يمكن أن تتاح لأي باحث في الإرهاب مهما كان اتجاهه أو جنسيته. ذلك أن قادة الإرهاب الصهيوني نشروا مؤلفات ضخمة بحثوا فيها، بإسهاب وتفصيل دقيقين، مختلف المنظمات الإرهابية التي كانوا ينتمون إليها، والعقائد الأساسية (الايديولوجية) التي قامت عليها، ونشوءها وتنظيمها وأهدافها، ووصفوا بإسهاب الجرائم التي ارتكبوها، أو التمثيل الذي عمدوا إليه بكل صراحة ووضوح ودون خجل أو خوف أو تردّد. وليس من المبالغة القول إنك لا تجد في أي تراث عسكري سياسي لأي شعب من شعوب العالم مثل هذا التراث الرهيب عن الإرهاب الصهيوني. إن مجرد الكشف عن هذه الحقائق بهذا الوضوح وتلك الصراحة من قبل قادة الإرهاب الصهيوني، ونفر من الذين ارتكبوا أبشع الجرائم التي يمكن أن يقترفها بشر ضد بشر، بل يهود ضد يهود عندما كانت المصلحة الصهيونية تقضي بذلك، هو بحد ذاته تحد للعقل والضمير الإنسانيين.
على أنه لا بد أولاً، وقبل بحث المرتكزات العقائدية والفكرية التي قامت عليها ايديولوجية الإرهاب الصهيوني، أن نعتمد نقطة لبداية الإرهاب هي مرحلة التخطيط له والتصميم عليه قبل اقترافه، كما أن التصميم على الحرب والتخطيط لها سابقان لتنفيذها.
فالقرار العقلي الذي تم بموجبه تجريد شعب بكامله من حقوقه قبل القضاء عليه هو بصورة أكيدة أول مصدر من مصادر العنف وأسبق من أي مصدر آخر. ففي وقت لم يكن فيه عدد اليهود في فلسطين يزيد كثيراً على عشرين ألفاً كتب هرتزل عام 1896 في كتابه “دولة اليهود” يقول بشكل جازم: “إن دولة اليهود يجب أن تشكل في فلسطين جزءاً لا يتجزأ من سور الدفاع عن أوروبا في آسيا، وقلعة متقدمة للحضارة ضد البربرية”. وكتب في مذكرته: “سنحاول أن نخرج السكان المعدمين عبر الحدود بأن نجد لهم عملاً في البلاد التي تطردهم إليها وننكر عليهم أي عمل في بلدنا”. وتابع قائلاً: “إذا انتقلنا إلى منطقة توجد فيها حيوانات مفترسة لم يتعود عليها اليهود – كالأفاعي الكبيرة مثلاً إلخ – فسأحاول أن استعمل السكان البدائيين للقضاء على هذه الحيوانات قبل أن أجد لهم عملاً في البلاد التي يعبرون إليها”. ذلك كله كان المصدر الأول والأساسي للإرهاب والعنف.
وعندما وصف وعد بلفور*عام 1917 الأغلبية الساحقة من العرب في فلسطين بأنها “السكان غير اليهود” كان هذا الوصف المهم يعني في ذهن صاحب الوعد وفي الزمن الذي صدر فيه “السكان البدائيين” ممن هم أحط من أن ينظر فيهم، أو أن تكون لهم حقوق “الأسياد” وهو بذلك يشجع العنف الصهيوني الاستعماري على أن يتمادى ضد أولئك “البدائيين”، ويشكل أيضاً عملاً أول من أعمال العنف.
وعندما قدم وايزمن إلى المجلس الأعلى لمؤتمر السلام المنعقد في باريس مذكرته المعروفة المؤرخة في 3/2/1919 التي تضمنت “الحد الأدنى لدولة اليهود المقبلة” وأدخل فيها كل فلسطين وجنوبي لبنان وجنوبي سورية حتى دمشق وخليج العقبة، وخط حديد الحجاز حتى معان، ومنابع مياه الأردن في سفوح جبل الشيخ، كان ذلك فعلاً من أفعال العنف أيضاً.
وعندما قال بلفور في 11/8/1919 للوزارة البريطانية: “في فلسطين، نحن لا نفكر البتة أن نعمد إلى أي شكل من استشارة السكان الحاليين ومعرفة رغابئهم”، كان يضع أساساً من أسس الإرهاب الصهيوني الذي نشأ واستمر، وما زال مستمراً ضد العرب حتى اليوم.
ومن خلال كتابات الإرهابيين الصهيونيين نجد العقيدة الصهيونية قد بنيت – بين ما بنيت عليه – على المقدمات التالية:
1) الإيمان بالعسكرية إيماناً مطلقاً، وتنشئة الأجيال المتعاقبة من الصهيونيين عليها حتى تصبح قسماً من تكوينهم.
2) نقص الحقوق الطبيعية للعرب نقضاً مطلقاً إلى درجة تصبح فيها جريمة إبادة الجنس العربي بالنسبة إلى الصهيوني عملاً مطلوباً من أجل ذاته.
3) تبرير اللجوء إلى أية وسيلة، مهما كانت ممعنة في الإجرام، لتحقيق الأهداف المقدسة للصهيونيين في (أرض إسرائيل)، حتى ليغدو القتل والاغتيال والإرهاب من أمور الحياة اليومية.
4) اعتماد قانون أعلى هو “الحق المطلق” بالنسبة إليهم أو إلى “مطلق صهيوني”، يضع الصهيونيين كلهم في جهة وباقي الجنس البشري في جهة أخرى أدنى منهم.
5) الارتسام والدخول في “كهنوت صهيوني” غايته إنقاذ “وطن اليهود” حتى يصبح الحقد الأعمى ضد العرب من مقومات الإيمان، وتطهير (أرض إسرائيل) من العرب سبيلاً لتحقيق المثل الصهيوني الأعلى.
6) الجاسوسية التي لا تحجم عن ارتكاب أية جريمة لتحقيق أهدافها.
7) الإيمان بأن الهجرة “اللاشرعية” إلى فلسطين، دون الإحجام عن أية وسيلة لتحقيقها، هي مجرد مرحلة للغزو الاستيطاني الصهيوني.
وتتوافر الأدلة التي توضح هذه المجموعة الرهيبة من عناصر العقيدة الصهيونية في كل مصدر من مصادر التراث الصهيوني الإرهابي. كتب موشي مينوحين الذي نشأ صهيونياً في فلسطين ثم ارتد عن الصهيونية ما يلي: “نحن أوائل المتخرجين من ” المعبد المقدس” للقومية اليهودية السياسية، نذرنا نفوسنا و”ارتسمنا” لننقذ “الوطن اليهودي” بأي ثمن كان، ولنطهر فلسطين من كل من لم يكن يهودياً – غوييم- … أعرف من أي مصدر أتكلم. فقد تبعت أعمال “عصابتي” خلال هذه السنوات كلها. واحتجت إلى حياة كاملة كي أفصل نفسي عن هذه الفلسفة البدائية الهوجاء في القومية اليهودية التي أراها شكلاً مرضياً من الأنانية الجماعية. هذه القومية التي تعتبر ذاتها “مطلقاً” يدين لها العالم بكل شيء، ولا تدين لأحد بأي شيء.
ويقول جايوتنسكي مخاطباً الصهيوني: “كل إنسان آخر على خطأ، وأنت وحدك على صواب. لا تحاول أن تجد أعذاراً من أجل ذلك، فهي غير ضرورية، وهي غير صحيحة. وليس بوسعك أن تعتقد بأي شيء في العالم إذا اعترفت، ولو لمرة واحدة، أن خصومك قد يكونون على صواب لا أنت، فهذه ليست الطريقة لتحقيق أي أمر. لا توجد في العالم إلا حقيقة واحدة، وهي بكاملها ملكك أنت”.
وهناك قصة قديمة تروي عن شاب سئل في الكيبوتز: كيف ترى المشكلة العربية ؟ فأجاب: “من خلال فوهة البندقية”. وكتب بيغن: “تعلمت منذ حداثة سني عن أبي أننا، نحن اليهود، لا بد أن “نعود” لأرض إسرائيل. ولا يجوز مطلقاً القول أن “نذهب” أو “أن نسافر” أو “أن نأتي”، بل بكل حزم أن نعود. ذلك هو الفارق الكبير. وهو فارق شامل كل الشمول”. ويعطي بيغن التحديد الجغرافي (لأرض اسرائيل) فتشمل بالإضافة إلى فلسطين كلها ضفتي الأردن جميعاً، ويعتبرها إرثاً للشعب اليهودي بكامله. أما عن الشرعية المطلقة المتجسمة في العقيدة الصهيونية فيقول: “لكي تتمكن من المحافظة على باب مفتوح مع الحركة السرية تحتاج إلى شيء أكثر من مجرد استعمال الأسماء الملفقة. إن أكثر الأمور ضرورة هو الشعور الداخلي الذي يحول ما هو “شرعي” إلى “غير شرعي” وما هو “غير شرعي” إلى “شرعي” و”مبرر” لقد كنا مقتنعين “بالشرعية” المطلقة لأعمالنا “اللاشرعية”. وفي هذا الإطار عن “شرعية” “اللاشرعية” يقول جابوتنسكي: “القول إن ابني يعمل في الهجرة “اللاشرعية” لإيصال اللاجئين اليهود إلى فلسطين شرف لا يحق لي أن أناقشه”.
تتضح هذه المنطلقات الأساسية في العقيدة الإرهابية الصهيونية بازدياد عند الرجوع إلى أمرين:
1) التاريخ الحقيقي لنشوء المنظمات الإرهابية “الأم” التي تفرعت عنها المنظمات التابعة.
2) السرية المطلقة في تشكيلها.
ولئن جرى تعداد مختلف المنظمات الإرهابية فسيكون التركيز هنا على المنطلقات العقائدية التي تشكل بمجموعتها ما يمكن أن يسمى بحق “فلسفة الإرهاب الصهيوني” التي ما زالت حتى اليوم تشكل العقلية الخلفية للعقيدة الصهيونية التي لم تتغير. وأهم ما يشدد عليه في هذا المدخل أن ما دعي بالمنظمات الأم، كالهاغاناه* والهاشومير*، إنما نشأت أصلاً في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في أوروبا الشرقية، ولها غاية واحدة هي غزو فلسطين وإخراج العرب منها. وأن الوافدين الأوائل من اليهود، وجلهم حينذاك من أوروبا الشرقية، لم يكونوا “مهاجرين” أو “لاجئين” إلى “ملجأ أمين”، بل كانوا في الواقع طلائع الغزوة الصهيونية. ولم يكن وعد بلفور أو الانتداب البريطاني إلا من الوسائل التي سعت إلى إضفاء صبغة الشرعية الدولية على الغزوة الاستيطانية.
أ- الهاغاناه: يقول بيغال آلون، أحد ضباط الهاغاناه، ومن قادة البالماخ في كتابه “تكوين الجيش الإسرائيلي”: منذ عام 1880، عندما كانت البلاد لا تزال تحت الحكم العثماني، ولم يكن عدد السكان يزيد على بضع عشرات من الألوف (يحدّد آلون عدد اليهود حينذاك في فلسطين كلها بأنه 24.000، نصفهم يعيش في القدس* والنصف الآخر موزع في الجليل وصفد* وطبرية* ويافا* وعكا*) ابتدأ تشكيل خلايا سرية للدفاع ضد السرقة والسطو والقتل والاغتيال. ولم تكن لهذه التنظيمات صفة سياسية، ولكن ترتب عليها بصورة غير مباشرة نتائج سياسية. وهكذا تشكلت منذ بداية هذا العصر نوى متعددة مختلفة لمنظمات عسكرية يهودية سرية ذات اتجاهات سياسية، وأهمها فرق الهاشومير التي تعتبر المنظمات التي سبقت الهاغاناه. وقد أخذت هذه الفرق تفكر في هذه المرحلة في أن يكون دفاعها عن اليهود على مستوى وطني قومي واسع. وكانت مستعدة دوماً للدفاع عن أية مستعمرات يهودية مهما كانت بعيدة أو نائية، بل كلما كانت أبعد كانت أفضل. وأخذت تحمي هذه القرى النائية بالاشتراك مع الفلاحين والمزارعين فيها”.
ومما أدى إلى تقوية الهاغاناه في الفترة من 1920 – 1930 تدفق المهاجرين اليهود من عدة بلاد، وخاصة من أوروبا الشرقية. ولم تكن هذه التقوية في العدد فحسب بل في النوع أيضاً، لأن أغلبية المهاجرين الجدد كانت من الشباب، وكلهم مثالي متحمس، والكثير منهم اكتسبوا خبرة بالتنظيمات شبه العسكرية والسرية عندما كانوا يدافعون عن الأحياء اليهودية في شرقي أوروبا أثناء تعرضها للهجوم.
وقد أثر على تكوين الهاغاناه وذهنية المنخرطين فيها اختيار أمكنة المستعمرات اليهودية الذي كان خاضعاً لأهداف استراتيجية وسياسية محضة ولم يكن العامل الاقتصادي وحده هو العامل المؤثر في اختيار مواقع المستعمرات، ولكن حاجات الدفاع المركزي والاستراتيجية الشاملة للاستيطان التي كان هدفها الرئيسي ضمان وجود سياسي يهودي في جميع أنحاء البلاد، والدور الذي يمكن أن تلعبه مثل هذه المستعمرات في المستقبل، خاصة في مجابهة حاسمة لا بد من وقوعها يوما ضد العرب، كانت كلها أكثر أهمية من العمل الاقتصادي في نظر المخططين للاستيطان الصهيوني. وهكذا نشأت المستعمرات، على مختلف أنواعها، منعزلة، تفصل الواحدة عن الأخرى المسافات الجغرافية والحواجز الطبيعية. والنتيجة أن كل مستعمرة يهودية جاءت قلعة محصنة للهاغاناه. وقد رافق التخطيط الاقتصادي والزراعي التخطيط العسكري، وكانت موازنة الهجرة تعنى بالسيف وبالمحراث معاً، وتؤمن احتياجاتهما جنباً إلى جنب.
وقد أدخلت هذه الحاجات عدة عناصر جديدة في تفكير الهاغاناه العسكري وأسلوب تنفيذ مخططاتها. وشمل ذلك وضع استراتيجية متماسكة متكاملة تأخذ بعين الاعتبار الحاجات العسكرية في مختلف أنحاء البلاد، والقدرة على التحرك السريع، والاستعمال الأكبر للأسلحة الأوتوماتيكية الحفيفة. وفوق ذلك كله أدى تطور الهاغاناه إلى إقامة قيادتين سريتين؛ قيادة مدنية عليا، وقيادة عسكرية عليا لها رئاسة أركان كاملة، وتخضع القيادتان للتنظيم الصهيوني المتمركز في الوكالة اليهودية.
ب- الهاشومير (فرق الحراس): يذهب عاموس برلمتر في كتابه “العسكرية والسياسة في إسرائيل” إلى أن أولى قوى الدفاع اليهودي تشكلت في الشتات في أوروبا الشرقية أواخر القرن التاسع عشر، وأن حزب بوعالي صهيون*، وهو الحزب الذي سبق الحركة الاشتراكية الصهيونية، هو الذي أشرف أيضاً على تشكيل فرق الحرس في فلسطين عام 1905، ثم حلت محلها عام 1909 فرق الحرس المعروفة بهاشومير. ولم تكن فوق الهاشومير في بدايتها تشكل مجموعة متماسكة من الصهيونيين بل مزيجاً من الصهيونيين من شرقي أوروبا وأوكرانيا والقفقاس، ثم انضم إليها يهود روسيون ماركسيون وبثوا فيها روحاً محاربة. والذي أبقى على فرق الهاشومير حتى منتصف العشرينات قرب التزامها الايديولوجي والقومي من الفئات الاشتراكية الرائدة في فلسطين.
وكانت فوق الهاشومير تعمل كنواة تآمرية (وقد استعمل برلمتر هذا التعبير) تغلغلت في معظم المنظمات الاشتراكية الصهيونية في فلسطين لتنافس عمل الهستدروت*. وهكذا سعت فرق الهاشومير الماركسية تحت ستار تأمين الدفاع أن تحوّل فعالية الصهيونية الاشتراكية إلى تجاه ماركسي.
ج- فرق العمل: شكلها يوسف ترمبلدور، وهو صهيوني اشتراكي راديكالي، ومحارب قديم اشترك في الحرب الروسية – اليابانية عام 1905. وقد اشترك مع جابوتنسكي ووايزمن في الدعوة لتشكيل فرقة يهودية تحارب في صفوف الحلفاء في الحرب العالمية الأولى. وقد تم تشكيلها بالفعل، وكانت القاعدة لبنية سياسية تنافس حولها عدد من الأحزاب الصهيونية عندما قاربت الحرب العالمية الأولى نهايتها. وقد نظر جايوتنسكي إلى الفرق اليهودية على أنها المرحلة الأولى من تطوير جيش يهودي في فلسطين. وقام جابوتنسكي بجهود كبيرة لإبقاء الفرق اليهودية كطلائع جيش الاحتلال اليهودي في فلسطين.
ولعل من الضروري التوقف لاستخلاص بعض النتائج المترتبة على هذه المرحلة الأولى مرحلة ولادة الإرهاب الصهيوني. ومن الواضح أن هذه الروايات المتعددة والمتفقة فيما بينها حول نشأة الإرهاب الصهيوني تثبت النتائج الأولية التالية:
1) تعود نشأة الحركات الإرهابية الصهيونية إلى ولادة الحركة الصهيونية في أواخر القرن القرن التاسع عشر في أوروبا. وقد بدأت هذه الحركات الإرهابية تعمل بكل تأكيد في مطلع هذا القرن في أوروبا الشرقية لتجعل مجيء اليهود إلى فلسطين، أو على حد تعبيرهم “عودتهم لأرضهم”، غزوة عسكرية استيطانية. كما تعود قواعد الإرهاب وإطارات تشكيلاته إلى ما قبل وعد بلفور وإلى ما قبل الانتداب البريطاني على فلسطين بعقدين على الأقل.
2) كانت المستعمرات اليهودية منذ تأسيسها قلاعاً عسكرية. وهي، وإن كانت دفاعية في مرحلتها الأولى، مجهزة لتصبح قلاعاً للهجوم والتوسع.
3) الدمج الكامل في الاستيطان الصهيوني بين المؤسسة العسكرية والمؤسسة المدنية، تغذي الواحدة الأخرى باستمرار، وكلما قضت الحاجة بذلك. بل ان المؤسسة العسكرية هي القاعدة الكبرى التي تغذت وما زالت تتغذى منها المؤسسة المدنية، بدليل العدد الكبير من القادة العسكريين الإسرائيليين الذين انتقلوا، فيما بعد، إلى القيادة السياسية وإدارة الدولة. والانتقال من الواحدة للأخرى في زمن الحرب سهل وشبه آلي. ويترتب على ذلك أن المجتمع الاسرائيلي هو في أصله وتكوينه واتجاهه مجتمع عسكري عدواني.
4) إن جمع الأسلحة وإخفاءها والتدريب عليها يعود لأواخر الحرب العالمية الأولى.
5) إن المؤسسة الجاسوسية الصهيونية، وهي كلها جزء لا يتجزأ من الإرهاب الصهيوني وقسم منه، رافقت المؤسسة العسكرية الصهيونية منذ الحرب العالمية الأولى مرافقة الظل للأصل.
6) كان للفرقة اليهودية التي حاربت في صفوف الحلفاء في الحرب العالمية الأولى الأثر الأقوى في تكوين العسكرية الصهيونية التي قام عليها الإرهاب الصهيوني، وفي ازدواجية الولاء عند كل صهيوني. فالجنود والمتطوعون الأميركيون والبريطانيون اليهود منذ ذلك الحين أحسوا بواجب خدمة العسكرية في صفوف المستعمرين اليهود في فلسطين وإنشاء المستعمرات اليهودية بالقوة.
7) تظهر العرقية ويبدو الاستعلاء العنصري منذ بداية الحركة الصهيونية. فالأحاديث عن الإرهاب الصهيوني في جميع المصادر التي اعتمدناها تشير كلها الى العرب “كبدو” و”رجال عصابات” و”لصوص” و”قتلة”. وهذا يضع اليهود الصهيونيين، منذ بدء المجابهة، على مستوى أعلى من العرب في نظر أنفسهم، ولا يتركون ثمة مجالاً لشك القارىء في أنهم من طينة أعلى.
8) هذا كله لم يمنع الذين أرّخوا للإرهاب الصهيوني – الذي كان قاعدة للعسكرية الإسرائيلية فيما بعد – من الاعتراف بقوة المقاومة العربية للغزوة الصهيونية منذ العشرينات، وأنها كانت عاملاً فعالاً في سعي المنظمات الإرهابية لتقوية نفسها وزيادة تسلحها.
لقد تجرد الصهيونيون اليهود، والإسرائيليون فيما بعد، من كل الضوابط الأخلاقية العادية التي يأخذ بها جميع الناس، وحللوا لأنفسهم ارتكاب أية جرائم وحشية بربرية، ومنها جرائم الاغتيال، وكل ذلك من أجل (الدولة). لقد ضم كتاب “تاريخ الهاغاناه” لبن زيون دينور لوائح بأسماء الزعماء العرب الذين قررت قيادة الهاغاناه اغتيالهم منذ عام 1945 في حال عدم قيام (إسرائيل) ومن أعضاء هذه القيادة من أصبحوا وزراء في دولة (إسرائيل) فيما بعد.
اكملت الهاغاناه رسالتها وبلغت ذروة مهمتها في 31/5/1948 عندما أصدر رئيس الوزارة بن غوريون الأمر التالي: “مع إقامة دولة إسرائيل خرجت الهاغاناه من مخبئها وتحولت إلى جيش نظامي”. وقد احتفظ هذا الجيش في جوهره بالعقيدة الإرهابية التي ولدت في عقول مؤسسي الصهيونية. وهذا ما يفسر المجازر التي ارتكبها، سواء في غاراته الغادرة على البلاد العربية المجاورة أو في حروبه التوسعية. فالتوسع والاحتلال من سمات الإرهاب الصهيوني الأساسية.
د- البالماخ*: هي القوة الضاربة للهاغاناه. وقد انتخب أفرادها من أقوى عناصر الهاغاناه وشباب المستعمرات. وكان تشكيلها نتيجة للتذمر بين الشباب وفي الكيبوتزات من أن الهاغاناه، ويهود فلسطين إجمالاً، يتعاونون مع السلطة المنتدبة، أو لا يأخذون موقفاً هجومياً من العرب، في حين يريد هؤلاء الشباب العكس.
وأفضل مصدر عن البالماخ هو كتاب “سفر البالماخ” الذي نشر بالعربية في مجلدين في تل أبيب سنة 1953. وفيه أن الإرهابي إسحق ساده هو الذي أدّت جهوده إلى تشكيل البالماخ، ثم تولى قيادتها. وقد غدت البالماخ الوحدة العسكرية المحترفة الأولى، لها ايديولوجيتها السياسية إلى جانب نظامها الدقيق وهدفها العسكري الشامل، وهو الإشراف على الوضع العسكري في فلسطين.
بكاملها. وكانت تمثل في الحركة الصهيونية الاتجاه التوسعي العسكري الذي يجب تحقيقه على أكبر مستوى ممكن دون الاكتفاء بمجرد الدفاع عن المستعمرات. وقد تطورت البالماخ وتشعبت بين عامي 1941 و1948 حتى أصبحت لها تنظيماتها العسكرية في كامل أنحاء فلسطين.
وفي حرب 1948* كانت فرق البالماخ تقاتل في الجبهة الجنوبية، وهي التي احتلت النقب*. ومن الأدوار الرئيسة التي قامت بها إخراج الأكثرية العربية من فلسطين عن طريق المجازر التي ارتكبها الإرهابيون الصهيونيون ضد العرب، كمذبحة دير ياسين* التي شاركت البالماخ في التخطيط لها وتنفيذها مع الإرغون* وعصابة شتيون*.
يتخلل مجلدي سفر البالماخ إشارات متعددة إلى العرب بوصفهم “العدو”. ومما تجدر ملاحظته فيهما أيضاً وجود عشرات الخرائط عن جولات للبالماخ “أثناء قيام أفرادها بالواجب” في مختلف أنحاء فلسطين والمناطق المعدة للاحتلال. وقد تضمنت الصفحة 98 من المجلد الأول وخطة وضعتها البالماخ عام 1941 من أجل احتلال دمشق عسكرياً بالاشتراك مع قوات الحلفاء.
ومن إرهابيي البالماخ الذين اشتهروا وأصبحوا رؤساء أركان الجيش الإسرائيلي موشي دايان (1953 – 1957)، وإسحق رابين (1963 – 1967)، وحاييم بارليف (1968 – 1971). وقد عرف الجيش الإسرائيلي 45 لواء كانوا من إرهابيي البالماخ السابقين، ومنهم من أصبحوا وزراء.
هـ- الارغون تسفاي لئومي*، أو المنظمة العسكرية القومية: لا يزال المصدر الأساسي لدراسة هذه المنظمة الإرهابية المتطرفة كتاب زعيمها مناحيم بيغن، وعنوانه “الثورة: قصة الإرغون”. ويعتبر جابوتنسكي الأب الفكري لهذه المنظمة الإرهابية، وقد وضع كتاباً عنوانه ” الفرقة اليهودية” صور اليهود فيه غزاة أوروبيين لا تربطهم بالعرب أي صلة، وعليهم أن يحتلوا فلسطين بالقوة لتوسيع رقعة أوروبا إلى الفرات. وقد ساهمت الفرقة اليهودية التي أسسها جابوتنسكي أثناء الحرب العالمية الأولى في غزو فلسطين، لأنها كانت تحت إمرة الجيش البريطاني الذي دخلها. ومن روحها وصفوفها نشأت العسكرية الصهيونية التي كانت ولادتها في شكل الإرهاب، فقامت الهاغاناه أولاً، والإرغون ثانياً، لأنها وجدت أن الهاغاناه معتدلة، وكان عليها أن تلتزم منذ البداية بخطة للهجوم، لا بخطة للدفاع فحسب، دون التراجع قيد أنملة عن أهداف الصهيونية الكبرى.
يقول بيغن في مقدمة كتابه الثورة: “كتبت هذا الكتاب أيضاً لغير اليهود، خشية ألا يكون قد ثبت لديهم، أو خوفاً من أن يكونوا قد نسوا، أنه من الدماء والنار والدموع والرماد قد خلق صنف جديد من النشر لم يعرفوا العالم لأكثر من ألف وثمنمائة سنة، وهو اليهودي المحارب”.
والكتاب ينبض بالحقد في كل صفحة من صفحاته. ولا يحاول بيغن إخفاء ذلك بأي شكل بل يعلنه في المقدمة ويعترف أنه بين الدوافع الأولى التي استوحى منها فلسفته ومنطقه. يقول: “قال ديكارت، أنا أفكر فأنا إذن موجود. وأقول أنا أحارب فأنا إذن موجود”.
لقد ارتكز الإرهاب الصهيوني إلى مقدمة تستنتج منها مواقفه وخلاصتها: ما من وجود “شرعي” للعرب. وما هو “شرعي” للأكثرية العربية هو مجرد “لا شرعية” بريطانية. لذلك يقول بيغن إن الإرغون أخذت على عاتقها، بالاشتراك مع حزب جابوتنسكي الصهيوني التصحيحي، ومع منظمة بيتار في أوروبا الشرقية، أن تأتي بآلاف المهاجرين اليهود “غير الشرعيين” إلى البلاد، رغم معارضة بريطانيا والعرب للهجرة اليهودية غير الشرعية. لقد كان بن غوريون ذاته وبإقراره مهاجراً غير شرعي.
“الثورة” التي اختارها بيغن عنواناً لكتابه واسما لحركته هي التي تحول اللاشرعية شرعية. ولكنها ليست أكثر من ستارة للإرهاب الدموي والبطش الذين تميزت بهما حركته. وليس ضرورياً أن يكون الإرهاب إرهاباً صهيونياً ضد العرب وحدهم، فقد كان في بعض الأحيان إرهاباً يهودياً صهيونياً ضد اليهود. ولقد تحدث بيغن في كتابه عن حرب عصابته ضد الوقوف في وجه الهجرة اليهودية إلى فلسطين: “إن الباخرة باتريا* التي وصلت حيفا تقل مهاجرين يهودا لم تبحر قط. فالإرهابيون اليهود – وقد استعمل هذه اللفظة بالذات – وضعوا قنبلة في الباخرة ليحولوا دون إقلاعها. وقد انفجرت القنبلة فقتل وغرق أكثر من مائتي يهودي”. فقتل اليهود على يد اليهود كان إذن في نظر بيغن خيراً من الحيلولة دون وصولهم إلى فلسطين، لأن السلطات البريطانية كانت قد منعت الباخرة باتريا من إفراغ حمولتها من المهاجرين.
أما عن إرهاب الإرغون ضد العرب فيقول بيغن: “لقد نجحنا في المراحل الأولى من الثورة أن تحقق هدفاً استراتيجيا هاماً؛ لقد نجحنا في تعطيل العامل العربي الموضعي. فعندما وقعت الهجومات العربية ضد اليهود أعوام 1920 و1921 و1929 و1933 و1936 – 1939 كان البريطانيون يبررون وجودهم في فلسطين بالدفاع عن اليهود، ولكن بعد أن نجحنا في تعطيل القوة البريطانية دون أن نتعرض للعرب أخذ البريطانيون يبررون وجودهم في فلسطين بحماية العرب. وقد قلنا للعرب أنه ليس لدينا أية رغبة في محاربتهم أو إلحاق الأذى بهم، وإننا حريصون كل الحرص أن نراهم مواطنين مسالمين في الدولة اليهودية المقبلة. واستشهدنا بالحقيقة التي لا تنكر، وهي أننا في العمليات التي قمنا بها في المناطق العربية لم تقم بأي عمل ضد سلام العرب أو أمنهم”. ثم لا يلبث بيغن أن يكذب نفسه بنفسه فمنذ عام 1937 مارس الإرهابيون الصهيونيون قتل العرب واغتيالهم مستعملين أبشع أنواع الإرهاب والتحدي. وعندما اقتضت الاستراتيجية الإرهابية مهاجمة العرب فعلوا ذلك، ويكفي أن نذكر مجزرة دير ياسين التي وقعت في 10/4/1948 والتي ارتبط اسمها باسم بيغن لنرى كذب قوله.
وخصص بيغن الفصل التاسع والعشرين من كتابه ل”غزوة يافا”، وهذا الفصل برمته يجب أن يصبح جزءا لا يتجزأ من وثائق الأمم المتحدة ومحاضرها لأنه يظهر بشكل قاطع تصميم الصهيونيين على “تطهير” فلسطين من جميع السكان العرب، بما في ذلك المناطق العربية التي أعطيت للعرب بموجب التقسيم. ويكشف بيغن عن تعاون جميع المنظمات الإرهابية فيما بينها لتحقيق هذا الهدف، رغم أن الوكالة اليهودية* الناطقة باسم يهود فلسطين حينذاك كانت تعلن عكس ذلك. لقد تم التصويت على التقسيم في 29/11/1947 ولم تدخل الجيوش العربية فلسطين إلا في 15/5/1948، وكانت الأشهر الواقعة بين هذين التاريخين حاسمة، وهي الأشهر التي انصب الجهد العسكري السياسي الصهيوني خلالها على هدف مزدوج: تعطيل التقسيم عملياً من جهة، والدعاية من جهة أخرى بأن اليهود قبلوا التقسيم وأن العرب رفضوه.
يقول بيغن: “في اجتماع لقادة الإرغون اشترك فيه قسم التخطيط آخر كانون الثاني 1948: حددنا أربعة أهداف استراتيجية: (1) القدس (2)يافا (3) سهل اللد – الرملة (4) المثلث”، والمقصود بالمثلث*، وطولكرم*، وجنين*. ومعظم هذه الأهداف لم تكن داخله في حدود الدولة اليهودية التي رسمها مشروع التقسيم. ثم يتابع بيغن فيقول: “حين قررنا استراتيجية الغزو لم تكن لدينا الأسلحة الكافية، وكان لا بد من الحصول على الأسلحة، ولا سيما أن الهجمات الأولى على يافا أثبتت صعوبة احتلال هذه المدينة المقاومة”. وهكذا أخذ إرهابيو الإرغون ينصبون الكمائن، ويقومون بعمليات الغزو والسطو للحصول على الأسلحة.
و- عصابة شتيون أو ليحي*: زمرة انشقت عام 1940 عن الإرغون أسسها إبراهام شتيرن الذي قتل عام 1942. وقد يكون أفضل مدخل لتعريف عصابة شتيرن عناوين كتب ثلاثة، كتب اثنين منها فردان من عصابة شتيرن. والكتب هي، 1) مذكرات قاتل، اعترافات مجرم من عصابة شتيرن، لافنر، وهو اسم مستعار، 2) إمرأة من أتباع العنف. مذكرات فتاة إرهابية 1943 – 1948 لغيئولا كوهين، وهي عضو في الكنيست*، 3) الفعل العظيم للصحفي الأميركي جيرالد فرانك، وهو يتحدث عن اغتيال اللورد موين الوزير البريطاني في القاهرة من قبل شابين يهوديين شنقاً بعد ذلك. وتأتي عمليات شتيرن في السطو على المصارف، وقتل الأفراد، ونسف المنازل، وقتل الحراس، وغير ذلك، نماذج وأدلة على ممارسة العنف والإرهاب بمختلف أنواعهما.
وبالرغم من إنكار بن غوريون وشاريت المتكرر في عامي 1945 و1946 لأي صلة لهما وللهاغاناه بجرائم عصابة شتيرن وإرهاب الإرغون، فقد كتبت المصادر الأساسية عن عصابة شتيرن العكس. فقد أكدت الإرهابية لغيئولا كوهين أن التعاون كان وثيقاً ومنسقاً، حتى أن الهاغاناه والبالماخ والإرغون وشتيرن كانوا يستطيعون أن يضربوا معاً، وفي آن واحد. وهكذا ولدت قوة صهيونية محاربة واحدة عرفت باسم “الجبهة المقاتلة”. ففي ليلة 21/10/1946 استطاعت هذه المنظمات كلها أن تشترك، على قدم المساواة، في سلسلة هجمات إرهابية من عكا شمالاً إلى غزة* جنوباً، ومن الشاطىء غرباً إلى هضاب القدس شرقاً. وقد عاد بن غوريون الذي كان قد شجب جرائم عصابة شتيرن فعبر، بعد بضعة أشهر من قيام (دولة إسرائيل)، عن احترامه “الذين نذروا نفوسهم كالرجلين اللذين شنقاً في القاهرة لأنهما قتلا اللورد موين. وأما إبراهام شتيرن فهو أحد أرفع الرجال الذين عرفهم عصرنا”.
وقد وصفت الحكومة البريطانية عصابة شتيرن في وثيقة رسمية عنوانها “بين حول العنف” أصدرتها في 24/7/1946 برقم 6873، وصفتها بأنها انشقت عن الإرغون عندما قررت الإرغون إيقاف عملياتها عام 1939. ويقدر رجال شتيرن بين 200 و300 فرد متعصبين خطرين لا يتورعون عن أية جريمة. وقد تعاونوا لمدة مع جماعة الإرغون لأن كلتا العصابتين تؤمن بالتطرف الذي لا حدود له. وأكد هذا البيان البريطاني الرسمي:
“1) أن الهاغاناه وقوتها الضاربة البالماخ – وكلتاهما تحت القيادة السياسية لأعضاء بارزين في الوكالة اليهودية – تقومان دائماً بأعمال تخريب وعنف لها بعناية فائقة، تحت ستار “حركة المقاومة اليهودية”.
“2) أن منظمة الإرغون تسفاي لئومي وعصابة شتيرن قد عملتا منذ الخريف الماضي (1945) بالتعاون التام مع قيادة الهاغاناه في تنفيذ بعض العمليات المشتركة.
“3) أن محطة الإذاعة المسماة “صوت إسرائيل” التي تدعي أنها “صوت حركة المقاومة” وتعمل بتوجيه كامل من الوكالة اليهودية، كانت تدعم هذه المنظمات”.
وقد تحدثت مصادر حكومية ودولية أخرى، غير البيان الرسمي البريطاني السابق، عن الإرهاب الصهيوني، ومنها كتاب العلاقات الخارجية للحكومة الأمريكية (من المنشورات الرسمية لوزارة الخارجية الأميركية) الذي يتضمن الوثائق السرية الرسمية الأميركية. ففي المجلدين الرابع والثامن ما يثبت أن الحكومة الأميركية كانت على علم، منذ عام 1943، بأن الوكالة اليهودية والمنظمة الإرهابية الهاغاناه التابعة لها والمنظمات الإرهابية الأخرى كانت لها خطط موضوعة لطرد الأكثرية العربية من فلسطين، والسيطرة سيطرة كاملة عليها وعلى مقدرات الشرق الأوسط الاقتصادية إن كتب لها تنفيذ هذا الأمر الأخير.
وهنالك قراران صوت عليهما مجلس الأمن الدولي في 18 و19/9/1948. فور اغتيال برنادوت الوسيط الدولي ومساعده الضابط الفرنسي من قبل “الارهابيين” وتحت أنظار حكومة (اسرائيل) . وجاء في القرار الأول رقم 57″ أن مجلس الأمن أصيب بصدمة عنيفة للموت المفجع الذي أصاب وسيط الأمم المتحدة الكونت فولك برنادوت نتيجة لفعل أثيم ارتكبته زمرة مجرمة من الارهابيين في القدس حين كان ممثل الأمم المتحدة يقوم بواجبه من أجل تحقيق السلام في الأرض المقدسة” . ونص القرار الثاني رقم 59 على ما يلي :
“1) يسجل مجلس الأمن باهتمام أن حكومة اسرائيل المؤقتة لم تقدم حتى اليوم تقريرا لمجلس الأمن أو للوسيط بالوكالة حول تطور التحقيق في اغتيال الوسيط الدولي.
“2) يطلب من تلك الحكومة أن تقدم لمجلس الأمن في وقت مبكر تقريراً عن التطور الذي تم في التحقيق، وأن تبين فيه الإجراءات التي اتخذت إزاء إهمال الموظفين، أو أية عوامل أخرى، أثرت في ارتكاب الجريمة”.
لكن الثابت الآن أن حكومة (إسرائيل) قد تنصلت في التقرير الذي قدمه مندوبها لدى الأمم المتحدة من الجريمة وحاولت طمس معالمها. وأن الإرهابي الصهيوني الذي أشرف على تنفيذ قتل برنادوت، واسمه فريدمان يليّن، اعتقل بعد محاكمة صورية، ثم صدر عفو عام عن المعتقلين فأفرج عنه وانتخب فيما بعد عضواً في الكنيست الإسرائيلية. وقد جاء في التقرير الذي رفعه إلى مجلس الأمن الوسيط بالوكالة الدكتور رالف بانش عن حادث الاغتيال: “أن هذه الاغتيالات تشكل تحدياً كبيراً من قبل عصابة مستهترة من الإرهابيين اليهود”.
ومن يود تقصي حقيقة الإرهاب الإسرائيلي الرسمي، ومعرفة جرائم إرهاب (دولة إسرائيل) والعصابات التي شكلتها الجاسوسية الإسرائيلية بعد عام 1948، فبوسعه الرجوع إلى كتاب الكتاب الإسرائيلي بار زوهار “المنتقمون”، ففيه عرض لما قامت به بعض العصابات الإرهابية الصهيونية في ألمانيا الغربية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كتسميم الخبز والماء في بعض المدن الألمانية، و”اصطياد العلماء الألمان” وملاحقتهم وقتل أعداد كبيرة منهم، واغتيال شهداء المقاومة الفلسطينية الثلاثة محمد يوسف النجار* وكمال ناصر* وكمال عدوان* في بيروت ليلة 10/4/1973 وغيرهم من زعماء المقاومة وممثيلها في العواصم المختلفة. وذلك كله نموذج حي لما يمكن (لإسرائيل) أن تقوم به، لا بل هي تدافع عنه.
وأخيرا ثمة بضع نتائج يمكن استخلاصها من هذا البحث:
1) إن النفسية الإرهابية الإجرامية لا يمكن أن تتغير بتغيير الأسماء. فتغير أسماء الهاغاناه والبالماخ والإرغون وعصابة شتيرن إلى جيش الدفاع الإسرائيلي*، وتغيير أسماء قادة (إسرائيل) ورجالها من ديفيد غرين إلى بن غوريون، وشرتوك إلى شاريت، وأودري إيفان إلى أبا ايبان لا يعنيان مطلقاً أن تركيبهم النفسي والخلقي، وتصورهم للعلاقات الإنسانية، وموقعهم من العرب قد تغيرت. فأكثر رجال هذه العصابات الإرهابية وقادتها هم اليوم من قادة (إسرائيل) ورجالها. ويكفي أن نتذكر ما ارتكبه (إسرائيل) وترتكبه ضد العرب من سكان الأراضي المحتلة. فلقد أحصت سجلات الأمم المتحدة خمس عشرة مخالفة لاتفاقيات جنيف على الأقل دينت (إسرائيل) من أجلها. وكان أوضحها وأقواها إدانتها “بجرائم الحرب” بدليل ما جاء في الفقرة 7 من القرار رقم 3 الذي صوّتت عليه لجنة حقوق الإنسان في 22/3/1972. فقد نصت على أن: لجنة حقوق الإنسان تعتبر أن مخالفات اتفاقية جنيف الرابعة الخطيرة التي اقترفها إسرائيل في المناطق المحتلة تشكل جرائم حرب وإهانة للإنسانية”. وقد تكررت هذه الإدانة من قبل اللجنة ذاتها في جميع قراراتها التي صدرت حتى الآن. ووفقاً للتشريع الدولي في جرائم الحرب لا تسقط جريمة الحرب عن المجرم بتقادم الزمن، بل تجب محاكمته مهما انقضى من زمن على جريمته.
2) يتضح من المصادر الكثيرة المنشورة أن الصهيونيون والإسرائيليون الذين قادوا عمليات الإرهاب، ثم كسبوا عنها، وصفوا جرائمهم بدقة وتفصيل. وسموا أنفسهم القتلة والإرهابيين في عناوين كتبهم أحياناً، لا في بطونها فحسب.
3) تشكل هذه المصادر الأولى في الإرهاب الصهيوني الإسرائيلي مجموعة فريدة لا مثيل لها في أي تراث تاريخي أو سياسي. ذلك أن القارىء يجد كتباً في عدة لغات كتبها “الكوماندوس” عن أفعالهم أثناء الحرب. وأما أن يجد تراثاً بكامله يبحث في الإرهاب، ويؤكده، ويفلسفه، ويبرر وجوده، ويعطي تفاصيل أبشع الجرائم، فهذه ظاهرة جديرة بالتأمل لسير أغوارها ومعانيها. وقد جاءت كتب هذا التراث الإرهابي من الغرب ومن أكبر دور النشر في أمريكا وبريطانيا. فهلا فكر الغرب بهذا القسم من نتاجه؟ لا يمكن أن يرد على ذلك بالقول أن الغرب الحضاري يضج بالمتناقضات التي يعطل بعضها بعضاً. فالموضوع هنا جوهري أكثر مما هو شكلي، لأن الغرب سيوصم – كما هو موصوم الآن – بخطيئة الازدواجية والتناقض في القيم، إذ يعد مجرم الحرب الألماني مجرماً ويعد مجرم الحرب الإسرائيلي أو الصهيوني مؤسس دولة ورجل دولة. وأما أن تطبع كبريات دور النشر في إنكلترا وأمريكا كتباً لإرهابيين صهيونيين يذكرون فيها كيف قتلوا ضباطاً وجنوداً وأفراداً ومدنيين بريطانيين، ناهيك عن العرب، بل عن اليهود أحياناً، فهذا بدوره، كافٍ وحده ليكشف عن أن مقاومة الانتداب البريطاني للإرهاب الصهيوني لم تكن أكثر من مسرحية أو مسألة شكلية، إذ أن نتيجة هذا الإرهاب كانت الاغتيال الجغرافي – السياسي لفلسطين وشعبها العربي بكامله.
4) إن العرب في مجابهتهم (إسرائيل) يجابهون مجتمعاً عسكرياً إرهابياً “سبارتيا”. لقد كتب بالعربية الكثير والقيم عن أن مجابهة العرب مجتمعاً علمياً تكنولوجيا يجب أن يقابل بأساليبه ذاتها. وكل هذا صحيح، ولكن المرحلة التي سبقت مرحلة العلم والتكنولوجيا كانت مرحلة تكوين عنفي وتأهب إرهابي عسكريين صهيونيين.
أي حكم يمكن إطلاقه على هذا السجل الإرهابي الصهيوني – الإسرائيلي الذي أدى إلى مأساة فلسطين؟ إن الأحكام التي أطلقت حتى الآن ليست قليلة، وأفضلها هنا ما ليس عربياًَ، بل ما يدين (إسرائيل) من (إسرائيل). قال موشي دايان في رثاء صديق له اسمه روي روتنبرغ قتل في صدام مع العرب قبل بضعة أشهر من حرب 1956*: “لنتوقف اليوم عن قذف الذين قتلوا بالاتهامات. من نحن لنناقش حقدهم؟ ها قد انقضت ثمانية أعوام الآن وهم يجلسون في مخيماتهم في غزة وتحت أعينهم وأبصارهم نحوّل إلى ممتلكاتنا الأراضي والقرى التي عاش فيها آباؤهم وأجدادهم … نحن جيل من المستوطنين، ودون الخوذة الفولاذية والمدفع لا نستطيع أن تزرع شجرة أو أن تبني بيتاً.
وكتب الفيلسوف الإسرائيلي مارتن بوير في كتابه “إسرائيل والعالم”: “إن أكثر التعاليم فساداً بين جميع التعاليم المتهافتة هي التي تذهب إلى أن طريق التاريخ تقرره القوة وحدها دون غيرها. وقد تغلغلت هذه النظرية في تفكير الشعوب وتفكير حكوماتها، ولم يبق من الإيمان بالروح إلا مجرد أقوال معادة”. ثم ينقل إلى نقد الفظائع الإرهابية ضد العرب، ويعلق على مذبحة دير ياسين بالذات فيقول: “هنا كانت الجريمة جريمتنا، أو جريمتي أنا باللذات، جريمة اليهود ضد الروح. انني حتى اليوم لا أفكر بما وقع دون أن أشعر في نفسي بأنني مذنب”.
المراجع:
– Allon, Y.: The Making of Israels Army, New York 1971.
– Avner: Memoires of an Assassin, Confessions of a Stern Garg Killer, New York 1959.
– Bar-Zahar, M.: The Drama of the Daring Jews who are Avenging the Sir Million Dead, New York 1967.
– Begin, M.: The Revolt, Story of the Irgun, New York 1951.
– Cohen, G.: Woman of Violence, 1943-1948, Memoires of a Young Terrorist, Cleveland and New York 1966.
– Department of State, Foreign Relations of the United States, 1943 Vol.IV and VIII, 1943-45 the Near East and Africa, Washington 1964.
– Jabostinky, V: The Story of the Jewish Legion, New York 1945.
– Katz, S.: Days of Fire, The Secret History of the Irgun Zvai Leumi and the Making of Israel, New York 1968.
– Mardor, M.: Strictly Illegal, New York 1964.
– Perlmutter, A.: Military and Politics in Israel, Nation Building and Role Expansion London 1969.
– Robnet, G.W.: Conquest Through Immigration How Zionism Turned Palestine into a Jewish State, Pasadina, California 1968.
– Sharef, Z.: Three days, New York 1962.
– Statement Relating to acts of Violence, July 24, 1945, British Command Paper 6873.
– Stone, I.F.: Underground to Palestine, New York 1946.
– United Nation Progress Report of the United Nations Mediator on Palestine Submitted to the Secretary – General Transmission to the Members of the United Nations, General Assembly, Official Records, Third Session Supplement No.21 (A/684) (Part 1 and 2), Paris 1948.
الأرواح (قبة -)
رَ: القدس (المباني الأثرية والتاريخية في -)